عبد الباري عطوانلا نعتقد ان الرئيس السوري بشار الاسد سينعم بنوم هادئ في الايام القليلة المقبلة بعد انشقاق رئيس وزرائه رياض حجاب وهروبه الى الاردن للانضمام الى رهط من المنشقين السياسيين والعسكريين، يتوزعون في عواصم عربية واجنبية عديدة ويشاركون المعارضة في التخطيط لاطاحة نظامه.المتحدثون باسم النظام كانوا يتباهون، وحتى الامس القريب بان النظام قوي ومتماسك، بدليل مؤشرين اساسيين: الاول هو عدم حدوث انشقاقات كبرى في صفوف المؤسستين السياسية والعسكرية، والثاني استمرار العاصمتين السياسية (دمشق) والتجارية (حلب) في الولاء للنظام، ولكن توالي انشقاقات السفراء واخيرا رئيس الوزراء، ووصول هجمات الجيش السوري الحر وقوات المعارضة الى قلب المدينتين الكبريين، حرم هؤلاء المتحدثين من هاتين الورقتين الاساسيتين.انشقاق الدكتور حجاب يختلف كثيرا عن كل الانشقاقات السابقة لسبب بسيط وهو ان الرجل جرى اختياره في منصبه الجديد بعد انتخابات برلمانية من المفترض ان تعكس اصلاحات سياسية تؤسس لمرحلة جديدة في سورية، وكأن الرئيس بشار يريد ان يقول للشعب السوري الموالي منه والمعارض، انه اختار رئيس وزراء مختلفا من حيث كونه من التكنوقراط نظيف اليد واللسان، يتمتع بخلفية عشائرية قوية (دير الزور) وشعبية كونها من خلال توليه مناصب عديدة كمحافظ للقنيطرة وبعدها اللاذقية، اي انه يؤرخ لمرحلة جديدة.الدكتور حجاب كان اختيار الرئيس بشار نفسه وليس الاجهزة الامنية، ليكون الواجهة السياسية الجديدة والحضارية للنظام، ولكنها واجهة لم تعمر الا شهرين وانهارت بكاملها بانشقاقه.انه اختراق كبير، اختراق مزدوج، سياسي وامني في الوقت نفسه، كشف عن اتساع الشروخ في الدائرة الضيقة للنظام، مثلما كشف عن اختراقات امنية اكبر من المفترض ان لا تتم بعد انشقاق حيتان عسكرية وسياسية كبيرة، مثل العميد مناف طلاس، والسفير نواف الفارس، واغتيال اربعة من ابرز اعضاء الخلية الامنية قبل اسبوعين، وهم وزير الدفاع ونائبه (صهر الرئيس) ورئيس الامن القومي وخلية الازمة.’ ‘ ‘هذا الاختراق المزدوج الامني والسياسي ربما يكون ناجما عن اربعة امور رئيسية:الاول: ان تكون المؤسسة الامنية قد ارهقت، وبالتالي ترهلت، وفقدت هيبتها وحماسها، ولم تعد قادرة على ممارسة دورها الترهيبي الذي عرفت به.الثاني: انفضاض بعض العشائر والمخزون السياسي البعثي والمدني الذي كان يستند اليه النظام، وخاصة الطبقة الوسطى ومكوناتها الاقتصادية والاكاديمية والحزبية.الثالث: نجاح خطاب المعارضة السياسي والدعائي المدعوم بآلة اعلامية فضائية جبارة في هز الثقة بالنظام من خلال الطرق المتواصل بقرب نهايته.الرابع: الاغراءات الهائلة بالمناصب المستقبلية، وكثافة العمل الاستخباري الاجنبي، ووصول المعدات الامريكية التقنية المتقدمة في مجال الاتصالات خاصة (هواتف ذكية) يصعب رصدها او مراقبتها، الى اطراف في المعارضة سهلت عمليات الانشقاق هذه.الامر المؤكد ان الخناق يضيق على نظام الرئيس الاسد وان الهجمة لاطاحته بدأت تعطي بعض ثمارها من حيث تقويضه من الداخل، وقصقصة اجنحته السياسية بالدرجة الاولى والعسكرية بالدرجة الثانية.ولكننا قد نختلف مع التقويمات السابقة لاوانها، والامريكية خاصة، التي تعتبر انشقاق الدكتور حجاب كمؤشر على فقدان النظام سيطرته.النظام السوري نظام عسكري امني بالدرجة الاولى، يستمد شرعيته ويدين بوجوده الى شراسة المؤسستين الامنية والعسكرية، بينما توفر المؤسسة السياسية غطاء شفافا وخفيفا للغاية ليس له اي قيمة. فحزب البعث كان مجرد ديكور هش ليس له اي علاقة بالحكم ومفاصله الرئيسية.مجلس الوزراء كان وما زال عبارة عن ‘مجلس بلدي’ مكبر يتولى ادارة شؤون الخدمات، وتنفيذ الاملاءات الامنية والعسكرية. اما الوزارة الحقيقية الموازية التي تدير شؤون البلاد، وترسم السياسات الاقتصادية والامنية فموجودة في القصر الجمهوري ومؤسسته الامنية على وجه الخصوص.وبهذا المعنى فان انشقاق وزير او سفير او حتى رئيس وزراء سيكون تأثيره معنويا ونفسيا، وان كان هذا التأثير بالغ الاهمية ولا يمكن، بل لا يجب التقليل من شأنه، فالحرب النفسية التي يتسيدها الاعلام حاليا هي نصف الحرب في مجملها ان لم يكن اكثر.من المؤكد ان انشقاق الدكتور حجاب وبعد نجاحه في تأمين خروج سبعة من اخوته وشقيقتيه وعوائلهم جميعا الى الاردن، ودون علم النظام هو الضربة النفسية شبه القاضية للمؤسسة الامنية السورية، والغريب اننا لم نسمع مطلقا عن تشكيل لجنة تحقيق حول كيفية حدوث هذا الانشقاق، او الاطاحة برؤوس كبيرة في هذه المؤسسة. فاما ان يكون النظام اضعف من اجراء مثل هذا التحقيق، او انه يخشى تبعاته ويميل الى تجنب المزيد من الانشقاقات او حتى الانهيارات.’ ‘ ‘سبحة الانشقاقات قد كرت، ليس هناك ادنى شك، وبات السؤال المطروح هو حول الشخصية او الشخصيات الاخرى التي ستظهر على الفضائيات معلنة انشقاقها، لكن الاختبار الحقيقي الذي يمكن من خلاله الحكم على قوة النظام او ضعفه هو معركة حلب، فنجاحه في استعادة الاحياء التي سيطرت عليها قوات الجيش السوري الحر سيحيل ملف الانشقاقات الى عالم النسيان، اما خسارته فتعني بدء العد العكسي والسريع لنهاية حكم الرئيس بشار الاسد.النظام السوري سيحاول تعويض هذه الخسارة الكبرى من خلال التغول في القتال في حلب ومناطق اخرى في محاولة شرسة لاستعادة هيبته، او بالاحرى ما تبقى منها، وعلينا ان نتوقع، خسائر بشرية ضخمة في الايام المقبلة.اما ما يمكن توقعه ايضا، فهو التخلي عن فكرة تولي بعض الواجهات السياسية غير الموثوقة مناصب هامة في الوزارة ورئاستها لتجنب انشقاقها في اسابيع او اشهر من توليها للمسؤولية الشكلية على اي حال.الرئيس بشار الاسد يعيش حاليا وبعد هذه الاختراقات الامنية والسياسية المرعبة، ظروفا مشابهة لتلك التي كان يعيشها الرئيس العراقي صدام حسين بعد غزوه للكويت وقصف القوات الامريكية لعاصمته، فلم يعد يتحرك بثقة وعلانية، ولم يعد ينام في قصوره، ويتنقل من بيت الى آخر، فعندما تصل يد المخابرات الاجنبية الى خلية الازمة وتغتال اربعة من رؤوسها الاساسية، فان رأسه هو الذي بات مطلوبا، خاصة بعد ان اكدت الولايات المتحدة انها لن تكرر خطأها في العراق، وستعمل على الحفاظ على النظام وهياكله ومؤسساته، اي انها لن تمارس الاقصاء ضد البعثيين ولن تحل الجيش.رأس الرئيس الاسد هو المطلوب الآن وربما رؤوس صغيرة حوله ايضا، وطالما بقي هذا الرأس مرفوعا فان الازمة في سورية ستستمر وقد تطول اكثر مما توقعه الكثيرون.Twitter:@abdelbariatwan