الكتابة السيئة وكتب لم تعجبني

تصادفني في كثير من المراجعات الكتابية، التي أجدها لقراء متبايني الثقافة، ونقاد متمرسين على حد سواء، جمل تكاد تكون مكررة وشائعة الاستعمال، مثل: كتابة سيئة، أو كتابة ضعيفة، أو سأمنح الكاتب فرصة أخرى، في المستقبل تلك الجملة المستفزة التي يكتبها البعض.
لنتحدث قليلا عن الكتابة السيئة، كيف تكون؟ ومن الذي يقرر إن كانت كذلك أم لا؟ ومعروف منذ البداية أن القراءة أذواق، والكتابة أذواق أيضا، وتنوع الأساليب ليس ضارا حتى لو كان هناك من يتضرر منه معنويا، أي لا يستسيغ أسلوبا معينا لكاتب معين. ودائما ما أقول في هذه الحالات، إن الذي لا يحب كاتبا معينا، حتى لو كان مشهورا ومحاطا بالقراء، فليبتعد عن كتبه، ولا يعود لقراءته، وتكرار الكلام نفسه عن عدم إعجابه بالأسلوب، كذلك الذي لا يحب مخرجا سينمائيا، أو رساما، أو مغنيا، وحتى إن كنت لا تحب طريقا معينا يقودك إلى البيت أو العمل، ابتعد عنه واسلك غيره.
أنا أفعل ذلك باستمرار، في تعاملي مع الحياة ككل، مثلا لم يعجبني الأسلوب الجاف، الخالي من البلاغة، والعذوبة لكاتب أوروبي كبير، فلم أقترب من مؤلفاته أبدا بعد العمل الثاني الذي قرأته له، وقرأت «عالم صوفي» الكتاب السويدي المشهور لجوستين غاردنر، الذي حقق انبهارا عالميا، وكان حوارات كبيرة بين أستاذ وطفلة، وسردا لتاريخ الفلسفة، فأحسست بالملل، واتخذته مقياسا لكتابة قد تكون مهمة ومفيدة وغاصة بالمعرفة، لكنها مملة.
والملل أيضا أذواق، ففي حين يمل البعض من كتابة السحر، والجمل الموحية، والاستعارات، ويستعذبون المباشر، يحدث العكس لآخرين لا يقرأون كتبا أو يشاهدون أفلاما سينمائية، إلا لو كانت مشبعة بالغموض والخيال، مثال الأعمال الفانتازية التي تدور في عوالم يخترعها الكتاب أو السينمائيون. ومن الإنصاف أن أذكر الكاتب الإنكليزي نيل جايمان، الذي أعتبره من كتابي المحبوبين.
الأحداث التي تستوحى منها الكتابة، أيضا لها دور في خلق التباين لدى من يقرأ، مثلا حدث انفجار المفاعل النووي الروسي تشيرنوبل، الذي حدث منذ زمن طويل.
هذه كارثة كبرى، بيئية وإنسانية واقتصادية واجتماعية، لها مضاعفات كانت حاضرة في زمانها، ومضاعفات مستقبلية، ركدت في جينات من تعرض للإشعاع ونجا، لكنه عاش الحياة كما يعيش غيره. طبعا هناك الجينات المشوهة، والمواليد الذين ولدوا بلا وظائف عديدة في أجسادهم، وهناك الموت المبكر وأشياء كثيرة.
لنستطيع الدخول إلى عوالم مثل هذه الأعمال المستوحاة من كارثة، لا بد من التسلح بالصبر، الكاتب لن يخبرك بقصة أو حكاية تبدأ بالبهجة أو الحزن وتستمر هكذا يتناقلها الشخوص، ويصلون بها إلى نهاية مشوقة أو عادية، ولكن لا بد من أن يسرد حادثة انفجار المفاعل مطولا، وقد يأتي بتفاصيل مزعجة، وأقوال لشهود حضروا المأساة، ووثائق علمية وقانونية، وهناك ما يشبه السيرة المروية للحدث دائما في الكتب التي تتحدث عن مثل هذه المآسي.

وجدت الملل كله في كتاب «صلاة تشيرنوبل» للكاتبة الحاصلة على نوبل الآداب من عدة أعوام سفيستلانا، وتذكرت مللا آخر كان عن حادثة هيروشيما اليابانية القديمة.

لقد قرأت هذا الملل كله في كتاب «صلاة تشيرنوبل» للكاتبة الحاصلة على نوبل الآداب من عدة أعوام سفيستلانا، وتذكرت مللا آخر كان عن حادثة هيروشيما اليابانية القديمة، والقنبلة النووية التي ألقيت فيها، وأظن هناك روايات عديدة، أو مجموعة كتب ذكرت ذلك الحادث، أذكر منها، «القطار الأخير من هيروشيما» للأمريكي تشارلس بليغرينو، وتبدو عملا أقرب للتوثيق منه إلى الخيالي، وهناك صفحات لا تستطيع مؤاخاتها أبدا من كثرة الحقائق العلمية التي تدخلت في كتابة النص واستولت على حيز لا بأس به. كذلك رواية «الظلال المحترقة» للباكستانية كاميلا شمسي الصادرة عن بلمزبري منذ سنوات، وهذه رواية جميلة، متخمة بالأحداث، تدور بين بلدان شتى منها اليابان والهند، لكنها لا تخلو من الصفحات المملة أيضا، إذا تم إخضاعها لقانون الذوق والتذوق، وعدم إيجاد عذر لإصابة القارئ بالملل.
هذا رأي شخصي بالطبع، وهناك من يرى غير ذلك، وتلك الرواية حققت انتشارا كبيرا، بجميع اللغات التي ترجمت إليها عن الإنكليزية، لغة الكتابة الأصلية.
أعود لمفهوم الكتابة السيئة، وإن جاز لنا أن نطلقه على كتاب مثل «الخيميائي» لباولو كويلو، رغم انتشاره المريع، وتوزيعه بملايين النسخ حول العالم، وكتاب «فيرونيكا تقرر أن تموت» للكاتب نفسه، وكتاب «حفلة التفاهة» للتشيكي ميلان كونديرا، الذي يحوي قصصا مفتتة داخل نص روائي بلا ضرورة كما أرى؟
قطعا لن نقول هذه كتابة سيئة، هي كتابة إبداعية بأسلوب سيئ عند بعض القراء، وجيد جدا عند البعض، وممتاز للغاية عن البعض الآخر، وقد خضعت لمفهوم تجاوز الرداءة تماما باستخدام التذوق، وأيضا استخدام المعايير الثابتة للكتابة. التذوق يلغي حكم السوء أو يبرزه بضراوة المعايير مثل: وجود قصة، تصاعد النص قمة ما، احتواء النص على فقرات قد تكون مدهشة، أيضا تساهم في غض الطرف عن ما قد يكون سيئا.
بالطبع كثيرون قرأوا الشاعر والكاتب الأمريكي المعروف: تشارلس بوكوفسكي، الذي لم يكن يتقيد بأي معايير للكتابة، ولا استيعاب المجتمع لما يقدمه من سرد أخرق أحيانا. هذا كاتب اخترع شيئا، جيدا أو سيئا لا يهم، هو قدم ما أراد تقديمه، وهناك من تفاعل وما زال يتفاعل حتى بعد رحيل الكاتب.
رواية مثل «أدب رخيص» التي تحكي عن يوميات رجل تحر خاص، يحاول حل لغز ما، لم تكن لتكون جذابة في رأيي لولا السرد الأخرق، وغير المحتشم في كثير من الفقرات، هي كتابة ساخرة ربما وظفت لتسخر من هذه المهنة المنتشرة بشدة في الغرب ولن يكون ناجحا بغير هذه الكتابة المتسخة.
كثيرون يتحدثون عن سوء كتابة بوكوفسكي، وأقول حتى لو كانت سيئة فعلا، فليس ثمة من يملك صلاحية لتقرير ذلك.

٭ كاتب سوداني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابوتاج الحكمة.شاعرسوري.باريس:

    لأمير تاج السر تاج قد زها
    بالسر والإعلان يا أهل النهى!

  2. يقول سامية:

    احسنت أستاذ

إشترك في قائمتنا البريدية