الكتابة الشذرية: هل هي بديل عن المطوّلات التي سادت الشعر العربي؟

■ للكتابة الشذرية تاريخٌ لا إلى أين ينتهي، لكنّه قديم؛ وذلك منذ أن أخذ الكاتب ينزع إلى خاصية التكثيف ويضمّن ما يكتبه فكرة، أو رؤيا، أو حكمة، أو فلسفة، أو رؤية للعالم. هكذا، نجد هذا النوع من الكتابة يتردّد ـ قديما- عند عدد غير قليل من الشعراء الذين لم يُعرف لهم سوى بيت أو بيتين، وفي المقطعات الشعرية التي عنيت بها كتب الحماسات، وشطحات الشعر الصوفي/العرفاني، وتأملات الفلاسفة من قدامى الإغريق. وفي العصر الحديث، يتردّد عند الرومانسيين الألمان، وجماعة «الآتيناووم» تحديدا، وفي ما كتبه نيتشه ورولان بارث وستانسلاف جرزي ليك وإميل سيوران وغيرهم ممن أدمج تفكيره للشذرة داخل وعي فلسفي وجمالي حديث ومفارق يستوعب مجالات معرفية شتى؛ مثل الفلسفة، وعلم الاجتماع والسياسة والفن والنقد الأدبي.

شعر شذريّ

في الشعر، ظلت الشذرة تعبر جسد القصيدة بمعنى أو بآخر، إلى أن أصبحت منذ قرن على الأقل في قلب الصراع الأنطولوجي، الذي يخوضه الشاعر مع مجموع ما يحيط به، ويتمثّلها باعتبارها سلاحا وتعويذة نظر. فقد أخذ وعي الشعراء بشرط نصوصهم الكتابيّ والجمالي يتقوّى ويبرز بشكل مُطّرد حتى وجدنا لديهم ضروبا من الكتابة التي لا تخضع لقواعد، أو على الأقلّ تفرض قواعد خاصة بها تُفجّرها من داخلها، وقد مالت أكثر إلى القصر والاقتصاد في اللغة والتكثيف، وإلى تشظية وعي الأنا بنفسها والعالم، مثلما عملت على تشذير البناء النصي وأولت الدالّ الأسبقية في تشييد مُتخيَّلها وتفجيره في آن. ففي مقابل تجانس الانسجام الذي تشدُّ أجزاءه رقابُ بعضها ببعض داخل القصيدة- الكتلة، تصنع الشذرات «نصّا» متشظّيا، كثيفا، مُفارقا، شفّافا، مُتعدّدا ومفتوحا. وهو ما دشن، في حقيقة الأمر، أسلوبا جديدا في الكتابة وحياتها نكتشفه، على فترات دالّة، عبر الأعمال الشعرية التي ظهرت في السنوات الأخيرة، ولا ننفي – هنا- أن بعضها ترعرع ووقع تحت تأثير الفيسبوك بوصفه حاملا جديدا للكتابة يساير فضاءه الأميل للقصر والتشذيب، وتحت تلقّياته السريعة من قارئ عجول ومتلقّف لكلّ ما يدهشه في أقصر وقت ممكن.

أصغى بعض الشعراء إلى اليوميّ ونثروا جماليّات دمامته شذرا، وجعلوا مما يكتبونه نوعا من «سيميولوجيا للحياة اليومية» التي يزخر بالصور والقيم والعلامات.

مرح ديونيزوسي

أقترب – هنا- من عمل الشذرة داخل بعض مجاميع الشعر المغربي المعاصر، ولاسيما تلك التي احتفى أصحابها بالقلب الكتابي، الذي أخذ يشهده هذا الشعر، ولعلَّ أهمّ ما نعثر عندهم هو الوعي الجديد في تمثُّل الكتابة المقطعية بأضربها التي تطول وتقصر، في ما هي تعبرها صيغٌ من أفانين الومضة والهايكو والأمثولة والنبذة وحكمة الخسارات. وبالتالي، لم يعد النص الشعري مجرد شكل أو أسلوب، وإنما بقدر ما يحمله من محتوى يعكس فلسفة ما، أو فهما خاصّا للذات والكتابة واللغة والعالم تطبعه روح المفارقة، ويقف ساخرا، أو لوذعيّا، أو غير مُبالٍ من حياتنا المعاصرة المتشظية.
يكتب عبد الهادي السعيد شذراته التي تأتي عبارة عن نصوص قصيرة ذات مزاج لعبي صدفوي في مثل قوله: «الموت ليس عيبا/ هو مجرد خطأ/ لا يتكرّر»، وقوله: «أصمتُ في عُرْض البحر أو وسط الصحراء/ داخل قلبك أصرخ»؛ أو هي ينتظمها نصٌّ مكوّن منها في شكل ومضات وتشذُّرات تُفكّك وهم الواقعي وترصد «منطق الخلل» الذي يهيمن على تلك الحياة ويطبعها: «نحن لسنا غرباء في هذا العالم. نحن بضعة مليارات، نعرف بعضنا بعضا عن ظهر القلب. هذه هي المشكلة».
حتى في نصوصه التي تبدو ظاهريّا «غير شذرية»، فهي تمتح بناءها من الشذرة التي تنثر عبر متواليات متراكبة ومتجاورة لا تنسجم إلا مع كونها تقوم على تبئير المعنى في لحظة من سيرورة الخطاب الخفيّ، وليس مع انسجامه ورغبته في وصوله إلى معنى مقرّر ونهائي ونسيج وحده من من الأصداء المتباعدة، كما في نص «أشياء يجب أن تقع»، فالشاعر يصدر معظم شذرات النص بـ(أن) المصدرية التي تطلق ملفوظات الأنا المتصدع ورغائبه في «جزر معانٍ» من الغرابة أن تتحقق داخل عالم منذور للكراهية والانهيار والنسيان، ومشروط بعالم آخر بديل له: «أن يتلطف الجوّ/ تحمرّ البانادورا/ أن تنتهي الحرب/ أن تجد جارتنا عريسا لقطّتها». إنها تبدو نافرة من ذهنيّة النسق وأقل رزانة وأقرب إلى التأمل الداخلي والمرح الديونيزوسي: «قبل أن أقع في حبّك/ يجب أن أنساك قليلا».
وقد أصغى بعض الشعراء إلى اليوميّ ونثروا جماليّات دمامته شذرا، وجعلوا مما يكتبونه نوعا من «سيميولوجيا للحياة اليومية» التي يزخر بالصور والقيم والعلامات، إذ لا أخطر من أن تستمدّ الشذرات فعاليّة معناها من بلاغة الشعر الذي يُفارق ويُواجه ما هو معطى في ما هو لا يتحدّث عن الأشياء التي توجد في الخارج إلّا لتسميتها أو إعادة خلقها من جديد، حسب بنيته المفتوحة، التي تتخفف من إلزامات هذه البلاغة. ذلك ما نلمسه ـ مثلا- في كتابة عبد الجواد العوفير، التي تغدو مجالا لإنتاج معطيات تلك الحياة بشكل لوذعي وساخر حينا، ومنفصل عن لحظة انبثاقه في المكان بذريعة وهم تملُّكه.
وفي الأغلب أنّ هذه الكتابة تصدر عنها رؤية خاصة بها للغة التي تكتبها وتؤلف بها نسيجها التصوُّري للعالم، من منظور يجعل الغياب في اللغة هو الأصل وليس الحضور، المحو وليس الذاكرة، الفراغ وليس الامتلاء: «يا ماء ينزل من الذاكرة/ يا ماء قديما/ جمالك شاحب/ وقطعانك تشرب/ من خيالك». وفي هذا المعنى، ينطلق الشاعر ـ وهو داخل النص أنا متشظٍّ وغير آنيٍّ – من ثيمة محورية يتخذها ذريعة للتبئير على تلك الرؤية؛ مثل (الدودة) التي تبدأ في الفراغ وتعيد تسمية اللامرئي، فيما هي تفكك رغم هشاشتها أطر المألوف وأنساقه الدلالية الاعتيادية: «الدودة التي صارت/ لساني، الدودة البهلوان/ تسحب روحي/ ببطء/ من الورقة، الدودة التي صارت/ فراشة/ كي تمحو/ من جسدها/ كل هاته/ المنافي». ومثل ذلك يصنعه مع ثيمات (الجسد) و(الريح) و(الصداقة) و(الظل) و(القطار)، ولكن بدون أن يُفهم من ذلك أن الأمر يتعلق ببنية تكرارية تلتئم داخلها وحدة ما وتنشدُّ إليها متآلفاتٌ على أيّ نحو؛ فكلّ خطاب هو في حد ذاته فارغ وتوسع الثيمة معانيه بشكل كثيف لا يطاق داخل سطر أو مقطع أو نص بكامله.

 في شعرنا المعاصر نماذج تحاول بجدّ أن تكتب قصيدة هايكو عربية، مثلما نجد ذلك عند شعراء أبدعوا فيه ولم يترسّموا فقط آثار باشو ويوسا وإيسا وغيرهم من مؤسسيه في تربته اليابانية.

قرائن براءة

وفي نصوص ريم نجمي تفسح الكتابة الشذرية المجال لظهور ذات عاشقة منفعلة بما حولها، إذ سرعان ما تفتّت نفسها عبر الكتابة وتفرك أهواء جسدها المادي المتعين على نحو يهزأ من رقابة العقل، وتربأ بنفسها من أن تسقط في شرك الإسفاف والموضة مثلما يفترضه خطاب إيروتيكي جاهز ومُغْرٍ. ونجد الشاعرة تصدر نصوص «كن بريئا كذئب» بشذرات مضيئة لغيرها بما يشبه التواطؤ على إتلاف قرائن التهمة التي تلتصق عادة بالذئب؛ إذ يتحول الذئب إلى قناع أو مجال قيمي خاص، به يتأوّل خطاب الأنثى كاستعارة جسديّة تتألف من مجموع علائقها التلفّظية مع الآخر/ المحبوب عبر فصوله الأربعة. لا شيء مُعدّا قبل أن ينفعل أنا الخطاب بما يحسُّه ويتوق إليه داخل حركة المعنى التي يتمّ تجديلها من تلقاء نفسها في علاقة الداخل/ اللامرئي بالخارج/ المحسوس، ومن ثمّة لا تعريفَ مسبقا: «لا أستطيعُ أن أُعرّف الحُبّ/ لكن أعتقد أنه هو تلك الدقائق/ التي أشتاق فيها إليكَ/ عندما تخرج لشراء/ صباح الأحد».
من هنا، تتقدم كل شذرة في الديوان باعتبارها عالما طازجا يخرج للتوّ من حواسّ العشق ولذائذه ومعاناته، وينبهم وراء ستارة شفّافة تحت تأثير معارف محايثة، مثل التحليل النفسي والتشكيل واليوميات الحميمية والقطع السينمائي وخيال الظل الذي يتراءى لنا كأنّه دلالية الخطاب نفسه: «صورتُكَ المنعكسة على النهر/ هي المشكلة/ كلّما نسيتُكَ شربتُكَ مع الماء».
وبما أنّ ذلك الأنا حرونٌ، متلهّفٌ، حسّي، ومنخطفٌ لأبسط حركة تقع في محيطه، وبما أنّ المحبوب بلا هوية قارّة، فهو مُتماهٍ مع أشيائه وتفصيلاته اليومية السريعة وكائناته الصغيرة؛ فـ»لا فرق بين ملمس الحُبّ وملمس الشجرة»، والحب يتماوج بألوان قوس قزح بمجرّد ما تخطفه الذكرى، والقلب يضرب بسرعة الحياة من الانتظار مثل نشرات الأخبار وخلّاط الجارة الجديد، والعزلة القاتلة تُعيّنها «التفاحة الوحيدة في الإناء»، والذكريات يُرمى بها إلى البطّ الجائع.
وإذن، فالفصول الأربعة تتحول إلى ذرائعيّة شعرية مبهرة تسرد تاريخ أنا الأنثى وحقوق جسده المهضومة بقدر ما تفتح دفتر استيهاماته وذكرياته الخاصة التي تستحقّ أن تروى للحب وللنسيان.

هايكو.. بضربة فرشاة

بغضّ النظر عن أساس الهايكو وبيئته المختلفة التي أوجدته، إلا أنه يقع في صميم الكتابة الشذرية؛ فهو ـ كما يقول رولان بارث- «ليس فكرة ثرية تُختزل في شكل موجز، وإنّما هو حدث موجز يعثر في الحال على شكله السليم». وتوجد في شعرنا المعاصر نماذج موفقة إلى حد ما، في ما هي تحاول بجدّ أن تكتب قصيدة هايكو عربية، مثلما نجد ذلك عند شعراء أبدعوا فيه ولم يترسّموا فقط آثار باشو ويوسا وإيسا وغيرهم من مؤسسيه في تربته اليابانية؛ وفي طليعة هؤلاء الشعراء: سعد سرحان، وسامح درويش، وأحمد لوغليمي، وإبراهيم قازو، وسعيد بن هاني.
في ديواني سامح درويش «خنافس مضيئة» و«100 هايكو»، تمثيلا، نكتشف بعض هذه النماذج. نقرأ من الأول: «ماذَا تقْصِدُ الرّيحْ؟/ أنَا أزَرِّرُ قَمِيصِي/ وهْيَ تفُكُّ». «جسَدٌ تاكْتِيلْ/ بِسبّابَتِي وإِبْهامِي/ أُكَبِّرُ نَمَشَ الصّدْرِ». «حادِثُ عِشْقٍ في المَطارْ/ على شفَتيْهَا/ أُغْمِيَ علَى شفَتيْهِ». «نَسِيتُ قِنَّهَا السّرّيّْ/ عَشْوائيا/ أجرّبُ الآنَ تَرْكيبَ القُبَلْ». ومن الثاني نقرأ: «الجدول الصغير/ جفّ الماءُ/ ولم يجِفّ الخَريرْ». «على حافة البئْر/ الدّلو/ يمْلؤُه المطر». «في النّهر/ تسْقطُ قطراتُ المَطر/ بَلَلٌ مُتَبادَل»، و«كبَاقي اللّوز/ تزْهرُ/ اللّوْزة المُرّة». تجترح مثل هذه النماذج فهمها الخاص لكتابة الهايكو؛ فعلاوة على الاقتصاد والجدة والمفارقة المركبة بلغة شعرية خاصة ومتطلّبة في هذا النوع الكتابي، يحدث الشاعر في صميمها فجوة التوتر التي تحدث في السطر الأخير، ومن ثمة تنقل ـ بضربة فرشاة- نمط الشذرة من العادي إلى المدهش الذي على ضوئه يعيد متلقّيها تأويل الشذرة وعنوانها، فيما هو يسرح بها في مجالات متراحبة تمزج بين عالم الطبيعة، والإشراق الصوفي، والنمش الإيروتيكي والتأمل الذاتي.
والأهم أن مثل هذه الكتابة الشذرية التي تفيد من الهايكو ولا تنغلق فيه، تحيلنا إلى الكائن باعتباره حقل تأويلات متنوع ومفتوح لا يرتد إلى وحدة المنظور ويجعل من هويته التلفُّظية داخل الخطاب عبورا في المختلف والمتعدد الذي لا يعترف بمنطق الشمول والتعميم؛ وهل فلسفة الشذرة غير ذلك؟ وإذن، إذا كانت الكتابة الشذرية قد سادت فضاء الشعر المعاصر، فهل معنى ذلك أنها صارت بديلا عن القصائد المطوّلة والمدوّرة التي سادت الشعر العربي، وعن الجهد البنائي والجمالي الذي كانت تفترضه؟ ومن ثمّة، فهل يتعلق الأمر – فعلا- بكسل شعري، أو بالأحرى برؤية متراخية للعالم؟ لا نملك الحقّ في امتلاك جواب قطعي وتعميمي، فالكتابة الشعرية بطبيعتها متعددة الرافد والشكل والأسلوب، وإن كان هذا لا يتنافي مع القول بأنّه في كل طور من أطوار تاريخ الشعر العربي يهيمن نوع شعري ما ويزيحه إلى الهامش، لكنه لا ينفيه ويحل محلَّه، ورُبّما عرضنا مثل هذه المشكلات الشعرية ضمن ما صار يصطلح عليه في حقل الدراسات المعاصرة بـ(أنواعيّة الشعر) التي لا تعنى بتداخلات الشعري والنثري وحسب، بل الشعري واللاشعري كذلك.

٭ شاعر مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ابوتاج الحكمة/فرنسا:

    من الشذرات ما أشفى
    بكنز للنهى أضفى

  2. يقول العربي الرودالي:

    هذا التشذير والتقصير…هل هو ناتج عن عجز أو الكسل اعتمادا على تبرير ما؟ فإن كان كذلك فهو كتابة تصنعية، في حين أن الإبداع عامة والشعر خاصة هو بطبعه ذاتي صادق، لا ينتهي إلا بانتهاء النص سواء قصر أو طال. . إنه وفاء سابق على المبررات والادعات

إشترك في قائمتنا البريدية