شيء مذهل روائياً ذاك الذي يحدث عربياً، موجة روائية عربية عارمة تسحب وراءها كل الأجناس الأدبية ولم تبق إلا الرواية وكأنها الجنس الأوحد القادر على التعبير عن المأساة العربية المعقدة، وإلا كيف نشرح ما يحدث اليوم عربياً؟ قد لا يكون الأمر مهماً بالنسبة لما ينتج أوروبياً، إذ نجد في فرنسا وحدها أن الدخول الأدبي هذه السنة كان مثقلاً بـ 700 رواية لا تتفرد منها في النهاية إلا روايات قليلة جداً، بينما يموت جزء كبير من هذه النصوص الروائية ويعلوه غبار النسيان بسرعة أو يطحنه الإهمال الإعلامي، لكن هذه الكثافة مثيرة عربياً.
ذهب عصر كان الإنتاج الروائي العربي لا يتجاوز العشرين نصاً، الجزائر وحدها صدر فيها قرابة 200 رواية، حسب مرصد المعرض الإعلامي لهذه السنة، وهذا ما يثير الانتباه بهذه القفزة الكمية بغض النظر عن القيمة. الكم كبير يدعو إلى حالة من التأمل والدرس الجدي.
هذا الأمر يطرح سلسلة من الأسئلة المعقدة؛ الملاحظة الأولى هي أن هذا الكم الهائل تتقاسمه ثلاثة أجيال، الجيل الأول (أي المرسخ أدبياً) لا يحتاج إلى دعاية كبيرة للإعلان عن أعماله، فهي تجد مسلكها بسهولة نحو القراء الذين يأتون للمعارض بحثاً عن كاتبهم المفضل. وثمة نصوص بدأ أصحابها يتخطون عتبة الشباب باتجاه حالة من الاستقرار الأدبي، فأسماؤهم معروفة على الرغم من محدودية الدعاية الأدبية، ووجودهــــم الثــقافي حقيقة موضوعية، وهــــو ما يمنحهم شـــــرعية حقيقية فرضتها كتاباتهم المميزة. أما الباقي فهو الجيل الثالث، وهو شباب مصاب بالرغبة القوية للتعبير، والأسباب كثيرة؛ من الرغبة في الإعلان عن وجودهم، إلى البحث عن حق للوجود، وانتهاء بالجوائز التي هي أيضاً حق مشروع. لكن التسرع كثيراً ما يقتل هذا الجهد الشباني.
هناك موجة من الكتابة أصبح هذا النوع من الناشرين يفضلونها لأنها غير مكلفة، ولكنها مدمرة للذائقة العامة، لأنها تصبح نموذجاً يحتذى به.
الملاحظة الثانية هي أن الكثير من النصوص نشرتها دور نشر معروفة، وهي التي تتبنى عملية النشر، وهنا يكون الحد الأدنى أدبياً مضموناً، لكن نسبة كبيرة نشرت في دور خاصة، ما جعل الكتاب يدفعون أثماناً غالية لطباعة أعمالهم، وللأسف أغلبها ضعيف، لأن الناشر هنا تحول إلى طابع ولا علاقة له بالناشر الذي يفترض أن يدخل معترك النشر من باب المغامرة المحسوبة أيضاً. الغالبية شباب وفي إرثهم الإبداعي رواية أو روايتان، ويشكلون أكثر من خمسين في المئة من المنتج العام.
المؤكد أن هذه التجربة المدهشة عددياً لا بد أن يكون لها امتداد سيفرز النوعية والتمايز. لا يوجد ناشر عربي، إلى اليوم، يخصص جهداً متواضعاً وخاصاً للدعاية للكتاب، ولا يوجد جهد تقني واضح في هذا الاتجاه. الآلية الدعائية لم تعمل، والكتابة ليست فعلاً يتعلق بالنشر فقط، لكنه فعل يتجاوزه، بل هو روح الكتاب الجوهرية. كتاب بدون دعاية هو جثة بلا روح، موضوعة في تابوت ويتم تحريكها هنا وهناك وفق الحاجة، ما ينعكس سلباً على الساحة الأدبية في عمومها، والكتاب تحديداً.
للأسف، هذه حالة شديدة الخطورة ومؤذية للكتاب والقارئ في آن سواء، الناشر غير مهتم بمسار الكتاب، وكأن الأمر لا يعنيه ولا يعني داره، وهو في الحقيقة لا يعنيه لأنه عملياً ليس ناشراً بالمعنى التقليدي للكلمة، ولكنه مجرد طابع أخذ مقابل عمله منذ البداية ولا يهمه نجاح الكتاب من عدمه. وعندما يجتهد ينشر في أحسن الأحوال صورة عامة عبر الـ «فيسبوك» يسميها جهداً دعائياً.
هناك موجة من الكتابة أصبح هذا النوع من الناشرين يفضلونها لأنها غير مكلفة، ولكنها مدمرة للذائقة العامة، لأنها تصبح نموذجاً يحتذى به. وقد عرف الكتاب أنفسهم سر اللعبة، إذ ينشرون أعمالهم أولاً في «فيسبوك» مثيرين قضايا جنسية وعاطفية وحتى سياسية كثيرة، يكتلون حولها أعداداً هائلة من أصدقاء الـ «فيسبوك»، قبل أن يشجعهم بعض الناشرين على جمعها في شكل كتب مضمونة الرواج. وتتحول هذه الروايات إلى ظواهر طباعية وليس أدبية Un phénomène éditorial . ليس القصد هنا تكريم هذه النصوص، ولكن استعادة السؤال المغيب: ما دور الناشر؟ أين روح المغامرة في الناشر؟ أي مواهب يكتشفها هذا الناشر أو ذاك؟ إن الناشرين اليوم، إلا فئة قليلة، لا يراهنون إلا على المال، ولا يخسرون درهماً مثقوباً يجعل منشوراتهم في الواجهة، لأن ذلك لا يبدو لهم من اختصاصاتهم.
عندما ننظر إلى بعض الكتاب الذين يحتلون اليوم الواجهات الأدبية، سنلاحظ بسهولة أن لا كاتب صنعته دور النشر. فهم يفرضون وفق ظرفيات لا علاقة لها بالناشر، فقد تأتي الشهرة مباشرة من خلال حصول الكاتب على جائزة مثلاً، أو من خلال مثابرة زمنية طويلة كان فيها الكاتب مثل الجندي المحارب، وحيداً أمام قلمه وأوراقه، قبل أن تأتي الصدفة التي ترفعه عالياً، أو يصطدم نصه بناقد كبير يحبه. حتى دور النقد العربي في العملية منعدم أو يكاد يكون كذلك، فهو يعاني من عطالة أكاديمية تحرمه من أن يكون مؤثراً في المجتمع، وعليه أن يتنبه لهذه العطالة ويدخل بجهوده المعرفية الميسرة قصداً حتى يسمح للنص الأدبي من أن ينال حقه في الاهتمام النقدي الفعلي والرواج أيضاً.
يعتبر العالم العربي من أكثر العوالم تكبيلا للكلمة، سواء كانت مكتوبة أو شفوية، والمكتوب أكثر تعرضا للظلم من الشفوي، لأنه يملك القدرة على البقاء..
السلطات الإرهابية الاستبدادية تروج لهذا الغثاء السائد تحت عنوان رواية. في الحظائر الثقافية الاستبدادادية