زيارة الرئيس الصيني خو جنتاو إلي السودان
د. يوسف نور عوضزيارة الرئيس الصيني خو جنتاو إلي السودانتتصرف الولايات المتحدة علي أنها الدولة الوحيدة ذات المصالح السياسية في العالم، وهي تغذي سياسات تتعارض في كثير من الأحيان مع مصالح الشعوب وتتوقع من دول العالم أن تستجيب لها، وهي ذات تجربة واسعة وفي رضوخ كثير من الدول لمصالحها في مجلس الأمن ولكن ذلك لا يعني أن بعض الدول تمارس السياسات التي تخدم مصالحها بوسائل مختلفة. فقد رأينا خلال هذا الأسبوع كيف أن الولايات المتحدة دفعت إلي الكونغرس بميزانية تزيد عن ستين مليار دولار وهي ميزانية مهولة وتؤكد أن كل مواطن أمريكي يسهم بأكثر من ثلاثة آلاف دولار في العام من ميزانية الولايات المتحدة، ويتساءل الناس كيف توفر الولايات المتحدة هذه الإمكانات الهائلة من أجل خدمة أهدافها العسكرية، والمسألة بكل تأكيد لا تحتاج إلي غموض ذلك أن الموارد الاقتصادية الهائلة ليست انعكاسا للوضع الإقتصادي الأمريكي بقدر ما هي انعكاس لاحتكار عملة عالمية رئيسية هي الدولار وهو موقف تشارك فيه بريطانيا أيضا بكون الموارد الهائلة التي تقع تحت أيدي هذين البلدين سببها كون عملتي الدولار والإسترليني يمثلان العملتين الرئيستين في العالم وتوفران موارد هائلة لواشنطن ولندن ليس من خلال التطور الإقتصادي والإنتاجي بل فقط من خلال احتكار إنتاج هاتين العملتين اللتين يمكن من خلال طباعتهما بما يزيد عن حاجة هذين البلدين أن توفرا إمكانات هائلة لكل من الولايات المتحدة وأمريكا وهو وضع لا يتوافر للدول المنافسة مثل روسيا والصين وفرنسا.ويلاحظ أنه علي الرغم من أن هذه الدول الثلاث الأخيرة لا تقف في مواجهة مع الولايات المتحدة أو تعارض سياساتها المعلنة فهي تعمل علي تحقيق مصالحها بإتباع خط دبلوماسي آخر اثبت نجاحه وإن كان يوجه رسائل غير صحيحة لبعض الدول التي تتضرر من السياسات الأمريكية، ذلك أن فرنسا وروسيا والصين التي تعلن في كثير من الأحيان مواقف مساندة للدول التي تستهدفها الولايات المتحدة فإنها في آخر الأمر ترضخ لما تريده الولايات المتحدة بتمرير قراراتها في مجلس الأمن علي غير ما تريده الدول المستضعفة ومع ذلك تتحرك هذه الدول الثلاث في اتجاه قبض الثمن من الدول الفقيرة التي ما زالت تؤمل في أن يكون وجودها تحت مظلة واحدة مع الدول الكبري يمكن أن يحقق لها مصالح خاصة وإن لم تكن من الناحية السياسية فلتكن من الناحية الاقتصادية. وإذا تأملنا جولة الرئيس الصيني الأخيرة في القارة الإفريقية استطعنا أن نقرأها من هذا المنطلق فهي جولة تستهدف تحقيق مصالح الصين بالدرجة الأولي بكون الرئيس الصيني لا يتحرك لزيارة دولة بعينها ذلك أن معظم دول القارة الإفريقية دول صغيرة ولا تؤثر علاقاتها الاقتصادية منفردة بالصين تأثيرا كبيرا وذلك ما يجعل الصين لا تفكر في التوجه إليها واحدة إثر أخري بل تشملها بزيارة واحدة شاملة وفق إستراتيجية واضحة المعالم علي الأقل بالنسبة للصين. وفي هذا الإطار يمكن أن نقرأ زيارة الرئيس الصيني للقارة الأفريقية ولكننا في الواقع نريد أن نجتزئ من هذه الزيارة الموقف من السودان لان الولايات المتحدة كانت تؤمل أن تكون زيارة خو جنتاو إلي السودان دفعة تقنع الحكومة السودانية بضرورة الاستجابة للمطالب الأمريكية ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن. فقد أرادت الولايات المتحدة من الرئيس الصيني أن يمارس ضغطا علي الحكومة السودانية من أجل تصحيح مسار السياسة الأمريكية المتعثرة في السودان ولكن الرئيس الصيني لم يعر المطالب الأمريكية التفاتا، ولم يمارس الضغط الذي كانت تتوقعه الولايات المتحدة وقد فسر ذلك الرئيس السوداني عمر حسن البشير بان الصين لم تكن تريد من زيارة الرئيس تغيير أسبقياتها لكي تضغط علي الحكومة السودانية من اجل إنجاح سياسات أمريكية فاشلة. ولكن الرئيس الصيني طالب بالطبع الرئيس السوداني بمضاعفة الجهود من اجل تطبيق بنود اتفاقية السلام الموقعة في دارفور حتي يتفادي أي ضغوط دولية. بحسب ما صرح به مصدر دبلوماسي سوداني رفض الكشف عن هويته. وقد حفزت زيارة خو إلي السودان علي توجيه انتقادات سودانية للعالم الغربي الذي اتهمته الحكومة السودانية بأنه يستخدم وكالات الإغاثة الدولية من أجل الضغط علي الحكومة السودانية بنشر تقارير وحوادث تعتمد علي المبالغة وتعمد إلي تشويه صورة الحكومة السودانية. وعلي إثر هذه الزيارة قال بعض الدبلوماسيين الغربيين العاملين في الخرطوم إن زيارة خو لن تسهم في تغيير موقف الحكومة السودانية ولن تدفعها للاستجابة للمطالب الغربية وربما ذلك هو الذي شجع الرئيس السوداني لإطلاق تصريحه المثير في فترة لاحقة والذي دعا فيه بريطانيا وغيرها من القوات الغربية أن تجرب المجيء إلي السودان لتواجه الهزيمة التي قال إن القوات الإنكليزية قد واجهتها من قبل. ولا شك أن الولايات المتحدة شعرت بقلق كبير من زيارة الرئيس خو جنتاو للسودان حيث وصفها الناطق بلسان وزارة الخارجية الأمريكية شون ماكورماك بأنها وجهت رسائل مزدوجة بشأن تعاون الصين من أجل توجيه رسالة للسودان بسبب موقف الحكومة من قضية دارفور، فقد رأي ماكورماك أن الصين غلبت مصالحها التجارية علي أي هدف آخر خلال هذه الزيارة ولم يكن ذلك غريبا لان الرئيس الصيني لا يتحرك بكل تأكيد من أجل تحقيق المصالح الأمريكية، ولكن الذي أزعج الحكومة الأمريكية حقا هو أن الرئيس الصيني خلال هذه الزيارة ابلغ السودان بشطب جميع الديون الصينية عليه وهو ما لا تريده الولايات المتحدة ولم تقف الصين عند هذا الحد بل تعهدت ببناء قصر جمهوري جديد وهو أمر له دلالة رمزية لان القصر الذي تحتله رئاسة الجمهورية في الوقت الحاضر هو القصر الذي كان يحتله غوردون باشا من قبل وهو القصر الذي مارس حكام الإنكليز سلطتهم في السودان من داخله، وبالتالي فإن تغيير القصر الجمهوري سيكون ذا دلالة رمزية بالغة الأهمية. ولا شك أن المواقف الصينية هي استمرار لمواقف الدعم التي تتلقاها الحكومة السودانية من الحكومة الصينية بسبب تطور المشاريع الاقتصادية بين البلدين ذلك أن الصين تشتري ما يقارب ثلثي إنتاج السودان من النفط ولها استثمارات واسعة في هذا القطاع. وهي بكل تأكيد ليست علي استعداد لكي تضحي بمصالحها من أجل تطبيق سياسات أمريكية ثبت فشلها ولا تتمتع برؤية سياسية واسعة وموضوعية. والغريب هو أن السياسات الأمريكية ما تزال تدور في حلقات مفرغة علي الرغم من افتضاح أمرها وإنها لم تعد تستهدف إيجاد حلول لمشكلات السودان بقدر ماهي تستهدف توريط السودان في استراتيجيات لا تخدم مصالحه في نهاية الأمر وعلي الرغم من أن الحركة الشعبية سارت في طريق تأييد السياسات الأمريكية فترة طويلة من الوقت فإن التحول الذي حدث أخيرا يؤكد أن الحركة الشعبية ربما بدأت تنظر إلي المصالح الوطنية بعين تختلف عن عين الولايات المتحدة وقد ظهر ذلك بشكل واضح في عودة سلفا كير ميارديت إلي القصر الجمهوري من جديد بعد غيبة طويلة عنه كما ظهر في اجتماعات قطاع الشمال بالحركة الشعبية الذي انتخب ياسر عرمان رئيسا له وظهر في الانتقادات التي وجهها مساعد رئيس الجمهورية منصور خالد علي غير عادته إلي من سماهم الانفصاليين في الحركة الشعبية الذين اتهمهم بأنهم لم يفهموا تصريحات سلفا كير وبدأوا يطالبون بالاستعداد لمرحلة الانفصال وقد بدأ سلفا كير نفسه يغير خطابه حين ذكر ان خيار الوحدة هو الخيار الأفضل للسودان. ولكن ذلك كله لا يجعلنا ننجرف وراء تصورات قد لا تكون دقيقة خاصة مع وضع سوداني يحتاج إلي كثير من الإصلاح وأول طريق الإصلاح يبدأ بان تضع الحكومة تقييما حقيقيا لواقعها لمعرفة مصدر الخلل والأسباب التي تجعلها لا تقترب من التيارات السياسية الأخري في البلاد ذلك أنه دون فهم موضوعي لهذا الواقع ومحاولة الخروج من هذا المأزق فإن جميع المواقف المتشددة من المطامع الدولية لن تؤتي أكلها ولن تحقق الأهداف التي ترجوها حكومة السودان.9