رواية هندية من غويانا.. في زمن تشيدي جاغان: عن المهمة الكبري.. اللعنة والانتحار.. والأحلام التي تتحطم أمام قسوة الواقع وخياراته

حجم الخط
0

رواية هندية من غويانا.. في زمن تشيدي جاغان: عن المهمة الكبري.. اللعنة والانتحار.. والأحلام التي تتحطم أمام قسوة الواقع وخياراته

ابراهيم درويشرواية هندية من غويانا.. في زمن تشيدي جاغان: عن المهمة الكبري.. اللعنة والانتحار.. والأحلام التي تتحطم أمام قسوة الواقع وخياراتههذه رواية مثيرة من ناحية موضوعها، اذ انها تلقي ضوءاً علي حياة جماعة مهاجرة من الهند في الكاريبي، وهي اول محاولة لكاتبتها ريحان شاه، التي تعمل ناشطة في مجتمعها، جمعية التراث الهندية الغويانية ، واهميتها انها ترصد الاوضاع السياسية والاجتماعية لمجتمع غويانا المتعدد الاعراق والديانات، وصورة عن الواقع السياسي في عهد الحاكم تشيدي جاغان، ونشاطات المنظر الايديولوجي المعروف وولتر رودني (1942 ـ 1980)، الذي كان منظرا يساريا مهما في الحركة الثقافية وترك اثره الواضح علي الحركة اليسارية في العالم وعلي الفكرة الافريقية خاصة كتابه كيف ساهمت اوروبا بتخلف افريقيا (1972) . وريحان شاه التي تنتمي الي عائلة مسلمة تعود في اصولها للهند، وجاؤوا علي متن البواخر التي نقلت ابناء الامبراطورية الي الشواطئ الكاريبية للعمل كوسطاء بين المستعمر الابيض، وابناء البلاد، الذين كانوا في معظمهم من ابناء العبيد، الذين نقلتهم بواخر السيد الابيض من قراهم وبيوتهم في غرب افريقيا في الفترة التي تعرف بعهد الاستكشاف الاوروبي. وعلي الرغم من خصوصية تجربة المهاجرين الذين عملوا بصمت، وشاركوا في الحياة الاجتماعية في بلدان الامبراطورية، الا ان ما يميز تجارب الهنود في الكاريبي انها خلت من التوترات، التي تظل موجودة حتي الان وبعد رحيل جاغان، ولكنها لا تقارن مثلا بما حدث للهنود او الاسيويين في اوغندا الذين طردهم عيدي امين من البلاد، بعد ان اتهمهم بالفشل في المشاركة في بناء دولة الاستقلال. حياة صامتة هي رواية عن اسرار العائلة في اجواء استوائية، مع اننا عندما نقرأ الرواية من اولها الي اخرها لا نعثر علي الفضاء الذي عاشت فيه بطلة الرواية عالية، بقدر ما نطلع علي حياة عائلة هندية مهاجرة تعيش لاجيال في غويانا مثل غيرها من الاقليات الهندية التي رحلت او اجبرت علي الرحيل مع المستعمرين البريطانيين للعمل والخدمة فيها، فهنا عائلة تقدم خدمات للمجتمع الغوياني، بقالة قريبة من البيت او ما يعرف في بريطانيا ببقالات الزاوية التي كان الهنود يديرونها ويبيعون فيها السلع الغذائية بالمفرق اضافة الي الصحف والمجلات والسجائر وما الي ذلك. عالية تكبر في بيت يحمل سرا كبيرا تحمله الجدة الصامتة، التي ادمنت الصلاة والعبادة والذكر، وطلقت الابتسام منذ اختفي او قرر الاختفاء زوجها.والجدة التي هي صورة معادلة للبطلة عالية كانت تحلم بعالم عادل، عالم بلا فقر ولا الم وحتي لا موت فيه، عالمها هذا جاء من الكتب والمجلات مقارنة مع عالم زوجها، الرجل الذي كان يعمل الحيلة ولا يعدم الوسيلة كي يبحث عن لقمة الرزق، في ظلال اهتمامات الزوجة/ الجدة هنا نعثر علي حس اجتماعي اشتراكي، يطلب العدالة لعمال حقول السكر، والعمال السخرة الذين كانوا يطلبون من الجدة الدفاع عن حقوقهم ورفع اجورهم، اما الجد/ الزوج فلم يكن الا راقصا في الحفلات يحب الحياة ويريد الاستمتاع بها مقارنة مع زوجته التي كانت تريد تغيير العالم وتؤمن بتغيير العالم. في هذا العالم المثالي الذي يري ضرورة تغيير العالم وتحقيق العدالة ودعم البروليتاريا كانت الجدة بقوة شخصيتها وحضورها الطاغي علي الزوج معضلة للاخير، فالرجال البسطاء، العمال كانوا يرون ان المرأة لا تقود. كل الكتب الدينية، السماوية وغير السماوية تؤكد ان الرجال خاضها الرجال دفاعا عن النساء، ويبدو ان هذا كان وراء عزلة الجد الاخيرة الذي كان الناس يعيرونه بزوجته التي يحتاجونها ولكنهم حريصون علي ادامة ما يرونه الاطار الاجتماعي في سلمه وعاداته. في يوم من الايام، يعلق الجد الذي كان نجم حلقات الرقص والغناء، ادواته علي الحائط، وتتوقف الشناشيل هذه عن الحركة الا من صوت الريح التي كانت تحركها لتعود في الايام الحارة للصمت. في صباح استوائي يعقد الجد عقدة حبل حول عنقه ويشنق نفسه، تتحرك الاجراس مرة او مرتين ثم تتوقف عن الحركة للابد، لقد انتحر الجد، والانتحار في الاسلام وصمة عار لا تمحي لانه تعبير عن اليأس والمؤمن لا يقنط من رحمة الله، لكن مولانا الشيخ جاء للجنازة عطفا وشفقة علي العائلة التي تحول بيتها الي مركز للفرجة، وكأن الموت انتحارا له رهبة ورعب غير الموت العادي .منذ موت الجد، تتمسك الجدة بالصمت وتغيب البسمة عن وجهها وتتمسك بالدعاء والذكر والصلاة، تصبح صلوات الجدة بالعربية حبلا سريا، او حبلا طويلا يربط الفتاة عالية التي تعيد ولادتها البسمة الي جدتها، مع تراث طويل هو الاسلام والعربية. الاسلام بالنسبة للعائلة هو سياق ثقافي، عادات وتقاليد، تصبح الاعياد فيه مناسبة لاجتماع العائلة وتناول الطعام واستجرار الذكريات. قصة انتحار الجد، جاءت لشعوره بالنقص وفقدان الرجولة بعد ان قامت زوجته/ الجدة في ليلة بالقاء خطبة امام الجماهير، اشعلت خيالهم، فيما فشل الجد بالمهمة، مع ان الاخير كان دائما مع الجماهير، يتحدث اليهم عن المادية الدياليكتية والعدالة الاجتماعية. شاه تريد وضع سياق تاريخي للموت، الذي تلقيه الجدة عليهم ، الجماهير، او السياسة، التخلف وغياب الوعي، ولكن السياق هنا هو عن مشاركة الهنود مثل غيرهم في الكفاح ضد الاستعمار الذي حملهم معه.عالية، هو الاسم الذي اختارته الجدة لحفيدتها، وعالية هي الفتاة التي تدمن سماع قصص وحكايات جدتها. تكبر عالية ولا نعرف شيئا عن مدرستها وعالمها الذي تتحرك فيه، ولا نكتشف عواطفها نحو الجنس الاخر الا في مرحلة متقدمة من الرواية ـ فكأن عواطفها وشوقها ليسا مهمة، ربما لانها كما تصف نفسها بغير الجميلة، والقصيرة، ولكن ما يهم هنا انها ذكية، حيث تحصل علي منحة للدراسة في انكلترا، والاقتصاد تحديدا في جامعة لندن، واختيارها لهذا الفرع من فروع المعرفة هو تأكيد لرؤيتها عن العدل الاجتماعي. في محاولة لرسم المدي الزمني او التاريخي الذي تدور فيه احداث الرواية، ربما نضع هذا في سياق فترة حكم الرئيس المعروف.. انها رواية تدور في فترة السبعينات من القرن الماضي، او بعدها بقليل، فعالية التي تروي قصة جدتها وتستعيد من خلالها صور الماضي والحاضر لا تشير في مراحل تكوينها، ولا حتي زمنها الذي عاشته اية معاناة من العنصرية او حتي لا تتحدث عن شقوق في جدار المجتمع الغوياني الخليط من السود والملونين والبيض وغيرهم.نعرف ان غويانا البريطانية تعيش فيها اقلية هندية مؤثرة، تماما مثل سورينام او غويانا الهولندية التي حمل اليها الهولنديون اعدادا كبيرة من المسلمين والهندوس. ولكن عالية او الكاتبة شاه لا تشيران لوجود مشاكل عرقية واجتماعية، فمحل والدها كان مفتوحا 24 ساعة ويقدم خدماته للجميع. وعندما كانت تحضر للسفر الي انكلترا، عقدت لها جدتها حلقة ذكر صوفية كي تحصنها من الآتي، مع ان العائلة غير متدينة وتتعامل مع الدين من خلال طقوسه الاجتماعية والثقافية. عندما تسافر عالية الي انكلترا، تواصل العيش وكأنها في غويانا، فهي غير معنية بالفضاء الجديد والصداقات التي كونتها في الجامعة، لا تتحدث عن الحياة ونمطها، لا نري لندن المدينة في معـــــالمها وحدائقها، ولا نعرف عن سكان المدينة التي ظلت في مركز العالم الا السيدة ويكام صاحبة نزل الطالبات، وعالية تظل تلك الفتاة المثالية التي تحلم بتغيير العالم، ومواصلة الهوس المزروع فيها وهي التي تربت في احضان جدتها وحكاياتها لتغيير العالم. ولكن استاذها البروفسور روبرتس يقول لها ان تغيير العالم يحتاج الي دراسة، مرحلة جامعية اولي، ماجستير ثم دكتوراه، وبعدها خبرة عملية، اي العمر كله. عالية المسكونة بهاجس البيت تشعر انها مسكونة بمهمة جاءت اليها بالوراثة من جدتها ولهذا تتجنب الكتابة اليها، علي الرغم من الحاح والدتها عليها، فكلما حاولت الكتابة تهرب منها الي قراءة المانفستو الشيوعي، او نظريات مالتوس او كينز وغيرهم من آباء الدراسات الاقتصادية. ولكن عالية لم تكن قادرة علي التخلص من حس الالتصاق بجدتها، فقد تربت في حضن الاخيرة، فالجدة بحسب رواية الام كانت من اجل القراءة والحديث والنقاشات، كانت تكتب رسائل، وبعدها كانت تحضر الرسائل والكتب عليها طوابع غريبة من اماكن اجنبية ، وهي لم تكن قادرة علي التخلص من قصص المعاناة والعذاب في حقول قصب السكر وحقول الارز. هذا المنحي اكد لعالية انها فتاة بمهمة خاصة لانقاذ العالم، فالرحيل الي انكلترا للدراسة لم يكن فرصة لرؤية الاشياء الجديدة ولكن للتحضير والاعداد، ومن هنا لم تكن لندن كمكان للمتعة والفسحة وتوسيع الافق ذات اثر او علاقة بعالية، فهي كانت قريبة من استاذها الدكتور روبرتس الذي كان متعلقا بغليونه ذي التبغ المعطر، وتبحث عن الخبرة العملية عبر الانضمام لمنظمة اسمها الاغاثة العالمية وهي جمعية تعمل علي تقديم الخدمات للدول الفقيرة، ويعلق روبرتس قائلا: يمكن ان تتدربي معهم، وربما حصلت علي وظيفة. في اثناء ذلك تثير الرسائل القادمة من غويانا عن توتر الاوضاع في ظل حكم تشيدي جاغان (1918 ـ 1997) الذي جعل الحياة تعيسة لكل السكان، وتشير الي رودني كينغ الذي يواجه الديكتاتور كابكا ، الذي منع اعياد الميلاد لانها اعياد يحتفل بها السيد الابيض السابق، ولان عيــد الميلاد هو عن الثلج وبابا نويل، الذي يختـــرق الثلوج علي متن عربة تجرها خيول الأيــــائل حاملا هداياه للاطفال، ولا يوجد في غويانا، ثلج. وفوق هذا قام بنقل بيته الي مركز الحاكم القديم الكولياني الطابع، وصار بيته يعرف باسم بيت القرد .تتذكر عالية في ظل هذا السفينة التي حملت اجدادها الي غويانا وكيف كانوا يعملون في حقول القصب في ليونارا وكيف ان دم الثورة والتحدي مزروع في العائلة. ولكنها تشير الي الاخبار السيئة التي صارت ترد اليها من الوطن البعيد، عن التوترات العرقية بين السود والهنود، كل هذا بفعل سياسة الحاكم الجديد.في الوقت الذي كانت فيه عالية تحضر للعودة للبيت/ الوطن تتعرف علي شاب من غويانا، هاجر اهله لبريطانيا في الخمسينات من القرن الماضي عندما فتحت انكلترا ابوابها للمهاجرين من الكاريبي، او ما صار يعرف باسطورة السفينة ويند راش ، حيث كانت بريطانيا الخارجة مثخنة من الحرب العالمية الثانية بحاجة لليد العاملة. هذا الشاب اسمه دين محمد يعقوب، ويعمل في قطاع المصارف، عندها تنسي الفتاة المسكونة بحس المهمة نفسها، وتسافر معه، لاول مرة منذ اربعة اعوام هي طول اقامتها في بريطانيا لخارج لندن بل خارج البلاد، الي باريس وامستردام، حيث تصبح فتاة عادية مثل غيرها من ابناء جيلها اللواتي يحلمن بالخروج من مجتمعاتهن لمشاهدة العالم. مع دين، تزور بلد شكسبير ستراتفورد اون افون، وشاطئ برايتون، وستونهينج اخر مظاهر الوثنية في بريطانيا. ويقضيان معا اياما في باريس وامستردام، في فنادق رخيصة او متواضعة. ويتزوجان بعد ذلك، حيث تنجب عالية ولدين جميلين، عريق، وعمر، وتنشغل عالية بتربية الابناء والسفر، الي نيروبي ونيودلهي وغيرها من عواصم دول العالم الثالث، كما ينشغل دين محمد بتعليم ابنائه لعبة الكريكيت المعروفة التي يفتح ابناء شبه القارة الهندية عيونهم عليها. وتصف شاه، تطور موهبة ابنيها في اللعبة في صفحات طويلة، بشكل ذكرني بمذكرات الكاتب الكاريبي الاخر سي اس لويس الذي عمل مراسلا رياضيا في بريطانيا في الثلاثينات من القرن العشرين والف اول رواية كاريبية نشرها في لندن زقاق النعناع ، والفرق بين وصف لويس في خارج الحد وهو مصطلح يستخدم في الكريكيت ووصف شاه، ان الاول كان مراقبا عميقا وكان يكتب في ظروف العنصرية التي عاني منها الملونون في بريطانيا. ولويس كان موضوعا لهجوم جائر من الحائز علي جائزة نوبل، التريندادي الاصل فيشا نايبول في كتابه طريق في العالم . تنسي لفترة عالية مهمتها الكبري وتصبح مثل ما توقعت عمتها خديجة، التي تموت وعالية في المنفي الاختياري، وهي ان مكان المرأة في البيت، تربية الاطفال والطبخ. لكن ما يفاقم مشاكل الفتاة الذكية والطموحة ان زوجها صار بعيدا عنها، غير قادر علي التقدم في عمله، وصارت تشعر بالعزلة والتهميش في بريطانيا، وتصاب بانهيار عصبي. تقرر العودة لغويانا، وتجد ان الوضع لم يتغير عندما تركته او ما اوضحته رسائل اهلها اليها.النظام الديكتاتوري لا زال قائما مع جاغان مات. وبعودتها الي بلدها، تعود بسيرة عملية جيدة وشهادات قوية، حيث تجد عملا في وزارة المالية. ولكن سؤال المهمة الكبيرة يظل عالقا، فالبطلة هنا تعاني من عزلتها الخاصة، فهي ليست هنا او هناك، هي معلقة بين مثاليتها وواقعية العالم الذي تعمل فيه، وخلف السرد الجميل نعثر علي درجة عالية من السنتمنتالية، وفيها شاعرية خاصة عن المكان، خاصة في وصفها لرحلة العودة الابدية لجدتها، في الصفحات الاخيرة من الرواية، وبوفاة الجدة ناني ينتهي حلم بناء عالم جميل، حيث تهب نسمات باردة، تمتلئ السماء بغيوم، وتتبعثر او تتعثر في طريقها العلوي للسماء. عندما سئلت الجدة عن معني اسم عالية ، قالت انها من العلو والسمو.. ومع رحيلها، ينتهي قلق الجدة من تكرار درس التاريخ او اللعنة التي جلبتها القراءة والكفاح من اجل العدل علي العائلة..ناقد من اسرة القدس العربي A Silent LifeBy:Ryhaan Shah Peepal Tree Pre Leeds – England / 20050

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية