تطالعني هذه الأيام، وفي كل مرة أدخل فيها مواقع التواصل الاجتماعي، قصة عن عجوز برازيلي في السابعة والسبعين، كان مشردا في الشوارع حتى عهد قريب، يكتب الشعر والقصص القصيرة، ويوزع نتاجه على العابرين بركنه، أملا في الحصول على صدقة، لتكتشفه ذات يوم فتاة شابة، تقدر موهبته بشدة، وتسعى لنشر إنتاجه في الصحف ومواقع التواصل، وتأتي النهاية الحالمة، حين تلتقط دار نشر كبيرة ذلك الإنتاج، وتنشره في كتاب، ويتحول الشيخ المشرد فجأة، إلى كاتب كبير، له تجربة وجمهور، ومورد رزق ثابت، ولا يظهر إلا متأنقا بما يليق بكاتب ذي صيت.
القصة قد تكون حدثت بالفعل، وأن المشرد كان موهوبا فعلا، وتمت مساعدته ماديا من قبل فتاة أعجبها شعره، أو راقت لها قصصه القصيرة، أو مجرد تعاطف مع شيخ مسن، يسكن الشوارع، معرضا للبرد والجوع والمطر، وقد لا يحصل على شيء مهما كتب أو عزف الموسيقى، أو رسم لوحات بقلم الرصاص للعابرين بقربه. وهذه مشاهد ثابتة في الغرب، حيث تجد في الأركان والطرق المزدحمة، مثل أولئك الذين تخلت عنهم الدنيا، أو تخلوا عنها، واتخذوا التشرد حياة بديلة، وحقيقة نجد بينهم دائما رسامون وعازفو آلات موسيقية مختلفة.
الذي لفت نظري في تلك القصة، هو سخاء دار النشر الذي ذكر، دار النشر التي تقرر أن تنشر كتابا لرجل مغمور، وتحوله إلى كاتب ثري وأنيق، وهذا شيء يصعب حدوثه، خاصة أن البرازيل وغيرها من دول أمريكا اللاتينية، تتبع مسيرة عالمنا وتشبهه في كثير من التفاصيل. وكنت أنتبه لهذه التفاصيل المزعجة، حين أقرأ لغابرييل غارسيا ماركيز، أو إيزابيل ألليندي، أو أي واحد من كتاب تلك القارة العظام. ولا أظن نشر الإبداع، سيكون أفضل من نشره عندنا، هو شيء في لحم التفاصيل النيئة التي لن تنضج أبدا في عالمنا وأي عالم آخر يشبه عالمنا.
ربما بشيء من التعاطف وبدعم من الفتاة التي اكتشفت الشيخ الموهوب، عملت دار النشر على الكتاب وأخرجته للناس، وربما يوزع بدافع عاطفي أيضا، خاصة حين تنشر قصة العجوز في الصحف ومواقع التواصل، مدعمة بصوره القديمة حين كانت لحيته البيضاء تغطي وجهه، ويده المرتعشة تكتب الشعر، ثم الصور الجديدة، ببدلته الزرقاء، يوقع كتابا للناس. لكن لن يكون ثمة ثراء أبدا، هي موجة تعاطف كبرى، خاضها من تم حشدهم للتعاطف حيال شخص يحتاجه، وستنتهي، وقد يتلفت العجوز ذات يوم فلا يجد متعاطفين جددا، ولا دار نشر تهتم بالقصائد التي يكتبها، وخاصة أن المطروح من نماذج الشعر والقصص والروايات أيضا، كثيف بدرجة مهلكة، والناشر لن يبحث عن المجهول، ولن يغامر مرة أخرى، وسيظل هكذا مستثمرا دائما.
رايموند البرازيلي، أو المشرد كاتب القصة والشعر ذلك، ذكرني بزمن بعيد وشخص بعيد أيضا.
كان ذلك في سبعينيات القرن الماضي في مدينة بورتسودان، كان ثمة رجل مسن، بلحية بيضاء غزيرة أيضا، يجلس في ركن من أركان المدرسة الأميرية الوسطى، محاطا بالكتب، وبعضها باللغة الإنكليزية، كنا نعثر عليه يطالع دائما، أو يكتب الشعر، وأحيانا يتلو القرآن من مصحف ذهبي صغير، بصوت وارف وظليل.
كان الطريق إلى المدرسة الابتدائية يمر من عنده، الطريق إلى المستشفى وموقف الباصات الرئيسي، يمر من عنده، والتوقف للاستماع إليه يعد مكسبا كبيرا لطلاب فضوليين مثلنا، وأيضا لنساء ورجال ربما كانوا في الطريق إلى المستشفى، أو الموقف الرئيسي. هو لا يحدث أحدا مباشرة، لكنه يحدث نفسه، يقرأ ويكتب في ورق أصفر يخرجه من حقيبة سوداء مكسرة، وأحيانا يمنح العابرين شيئا من كتابته.
هذه شخصية ربما كانت مبدعة في زمن كان اكتشاف الموهوبين فيه أمرا صعبا، حيث لا تواصل اجتماعي، ولا إعلام بديل يتكئ عليه أحد، هي الإذاعة التي تبث من محطة أم درمان، خفيفة ومحملة ببرامج عادية للغاية، ولا شيء آخر. أبسط شيء أن يقال بأن الرجل مجنون، وينبغي الحذر منه، وقد يكون مجنونا بالفعل، لكنه جنون عظيم، ذلك الذي يقترن بالإبداع، وكثير من العقلاء الذين يصنفونه كذلك، لم يقرأوا كتبا، ولم يكتبوا الشعر، ولم يرتلوا القرآن بذلك الصوت الشجي.
أذكر أن حقيقة ذلك الرجل أرقتني، وعندي شغف بالشخصيات الغريبة منذ الصغر، ظللت أتتبعه وأحاول الحوار معه، أثناء ذهابي للمدرسة والعودة منها، بشكل يومي. قرأت له قصائدي الطفولية التي كنت أكتبها في ذلك الوقت فلم يمسك بأي حوار معي، ظل هو الغريب الذي يشد، ولا يتواصل إلا بمقدار. وأذكر حين مات فجأة في ركنه، أننا، نحن الطلاب أصدقاء وجوده، بكيناه بعمق كمن نبكي واحدا من أسرتنا، رحل.
لقد كتبت شخصية هذا الرجل الذي لا يعرف أحد اسمه، وكنا نسميه عزيزو، في كتابي “مرايا ساحلية”، الذي كتبته منذ سنوات عن مدينة بورتسودان في فترة بداية السبعينيات، ونوهت إلى شخصيات عديدة كانت موجودة آنذاك، لكني لم أحاول كتابته روائيا بالرغم من أنه يصلح، هي ومضات تأتي أو لا تأتي، لتسمح بتوظيف شخص ما أو حدث ما في نص روائي.
لا أود إطالة التشاؤم في موضوع العجوز البرازيلي، الذي ربما تغيرت حياته إلى ما بدت عليه من رقي، مدى الحياة، فقط أنوه أن كثيرا من القصص لا تتم مطالعتها وينتهي الأمر، لكن بعضها يظل موقد أحلام للكثيرين ممن يحلمون بالأفضل لحيواتهم. سيقرأ كاتب صغير تلك القصة، وسيتقد تشوقا لاكتشاف موهبته بواسطة شخص ما، ستقرأ شاعرة شابة القصة، وستحلم بأنها عبرت إلى النشر والثراء.
وسأقول دائما إن الأحلام في عالمنا مهما كانت صغيرة، هناك دائما ما يدفنها، ونادرا ما تمد إليها اليد المساندة لتخرجها للعالم.
* كاتب سوداني
يقال ان فلاحا فلسطينيا كان يتوجه الى مصر الفرعونية كل موسم حصاد ليبيع نتاجه على عربة يجرها حمار وفي احدى السنوات رآه من بعيد احد حراس الحدود فأراد ان يسرق ما عنده، فلما اقترب فرش الحارس ثوبه على ارض الطريق فداسه الحمار فاتهم الحارس الفلاح بإتلاف ثوبه فحجز محصوله بالمقابل، لكن الفلاح كتب للفرعون رسالة يشكو فيها جور الحارس، ووصلت الرسالة للفرعون عن طريق وزيره فلما قرأها قال للوزير لا تعيدو له المحصول فأتبع الفلاح الفرعون برسالة اخرى ,, يتبع
وتكرر المشهد حتى وصلت الى مجموعة رسائل بعد قال الفرعون أعيدوا له المحصول ومكافأة الآن لأنها كانت من أجمل الرسائل الأدبية التي أغنت الأدب الفرعوني في داك العهد
“نجد بينهم دائما رسامون وعازفو آلات موسيقية مختلفة”.
لِمَ لا نجد بينهم دائما رسامين، وعازفي آلات موسيقية مختلفة؟!
ليست مشكلته ولاكنها مشكلة تخص المجتمع بحالته تلك , فلولا عصر الانشغال و او الاستغلال وفقدان الالتزام الانساني بالاخلاق لكان ذلك المبدع المجنون الطيب ملهما بدوره ويحتمل ان يشكل فرقه انقاذ اخلاقي لنجدة الاخلاق بتلك المواق الافتراضيه..
مؤكد بانه شعر بحزن متابعيه ..
وحماية البعض له عن بعد , ومؤكد بانه نسي شكر المستحقين كتابيا, وبمن فيهم مجموعة العلم التي رجحت استقلاليه الانسان وخصوصيته عن الاستمرار بتجارب علميه تصطدم بحقوق الفرد المضطهد..
فسلام والف سلام للشارع والمجتمع والقدر والظروف للمعارف وكذلك العالم الانترنتي..
ونسيت ان اعلم بان ما زالت بعض بقايا الرحيل من شخصيات تعمل على امال هدفها بشكل خفي وناعم وبادوات بسيطه او بدائية ولاكنها تؤثر , وذلك خلف جداري المشترك ..
قد تجد في النهر ما لا يوجد في البحر ..
على هامش الحياة يعيش الكثير من المبدعين في مختلف المجالات الإبداعية الأدبية والفنية، لم تُسلط عليهم الكاميرا، بعيداً عن الأضواء .
هؤلاء مبدعو الشوارع عادة يزهدون في طبع ونشر وتسويق ما ينتجون من إبداع ، والمحظوظ منهم من يُصادفه الحظ بمن يخرجه من الظل إلى الضوء فيذيع اسمه وصوته .
الفنان الهولندى فينسنت فان غوخ مثلاً عاش حياته في الفقر الشديد، وفى حياته لم يتمكن من بيع سوى لوحة واحدة فقط بثمن زهيد، وترك اكثر من 2000 لوحة فنية بعد وفاته، بيعت بمبالغ طائلة !!