بمناسبة المونديال: اللغة والكرة اللاعبة

مفهوم اللّعب مثل أيّ مفهوم هو حاصل حركة مزدوجة من تأليف وتحليل. بل هو حاصل جهد تأليفيّ. ولكن من المفيد أن لا نغفل عن كون مقولة اللّعب تُسْتَخْدَمُ بتوسّع كبير في مختلف مجالات الحياة، على نحو استعاري كما هو الشأن في العربيّة مثلا حيث نلاحظ كيف تنْتسِجُ علاقة عجيبة بين اللعب والطفولة. من ذلك قولهم: لعب الصبيّ أو ألعبَ أي سال لعابُه من فمه. ولعبَ: ضدّ جدّ أو مزح أو أتى صنيعا وفعل فعلا لا يجدي عليه نفعا، او بقصد اللذة أو التنزّه. ولعب بالشيء: اتّخذه لعبة. ولعب في الأمر: استخفّ به. ولعب على البيانو أو على غيره من آلات الطرب مثل القانون:أي عزف. واللعبة أي نوبة اللعب أو ما يُلعب به كالكرة أو الشطرنج. وهي أيضا وهذا من لطائف العربيّة: الأحمق يُسخرُ به، والتمثال يُلعبُ به. ويقال له أيضا اللعيْبة. ولعابُ النحل: عسله. ولعابُ الشمس: ما نراه وقت الظهيرة مثل نسْج العنكبوت، وكأنّه يتحدّر من السماء. ويسمّيه العرب «مخاط الشيطان». واللعوب: المرأة حسنة الدَّلّ رشيقة الحركات كهؤلاء الجميلات في ملاعب كرة القدم، يشجّعن هذا الفريق أو ذاك. والملعبة: ثوب بلا كمّ يلعب به الصبيّ. والمُلاعب وهو طائر طويل الجناحين قصير العنق يسمّيه العرب:«مُلاعب ظلّه» أو «خاطف ظلّه». وقد قال فيه الكُميت:
وريْطةِ فتيانٍ كخاطف ظلّه/ جعلتُ لهم منها خباءً مُمدّدا
وما إلى ذلك ممّا لا يتّسع له هذا المقال، حيث تنزوي العربيّة في التفاصيل والشوارد؛ إلى حدّ يكاد يكون فيه اللعب دلالة كلّ فعل بشريّ. بل تغدو قواعد العمل ـ أيّ عمل ـ «قواعد اللّعبة». وفي الحروب طاحنة أو غير طاحنة، تطالب الأمم المتّحدة ومنظمة العفو الدوليّة وغيرها من منظّمات حقوق الإنسان، باحترام قوانين الحرب أي «قوانين اللّعبة». وربّما أصاب عطبٌ ما قطعةً في آلة؛ فنقول عنها إنّها «تلعب».. وغير ذلك ، وهو كثير، ممّا نضفي عليه صفة اللّعب أو أحد مشتقّاته.
إنّ هناك أكثر من مفارقة تشقّ فضاء استخدام مقولة اللّعب؛ فهي تحضر في هيئات استعاريّة ورمزيّة بالغة التّنوّع والتّعدّد، دون أن تعبأ بالعناية المفهوميّة اللاّزمة.
بل هي ليست بالظاهرة يسيرة الفهم، وإنّما نحن نكاد نقف إزاءها مدفوعين مصدودين؛ منذ أن نشرع في تحليل البنى المتعلّقة بها. ونعني بذلك فروقا في غاية الدقّة، حتى ليتعذّر أن نميّز مقولة اللّعب من حيث هو نشاط، من اللّعب من حيث هو وضعيّة. وربّما ساعدت العربيّة على ذلك ـ وهي لغة رياضيّة عجيبة ـ شأنها شأن اللغات الاشتقاقيّة على ما يبدو؛ من خلال استخدام مفردة «لعب» عادة وليس حصرا، للدّلالة على النّشاط، واستخدام مفردة «لعبة» للدّلالة على وضعيّة مخصوصة تقيّد اللّعب باعتباره نشاطا؛ بقواعد تخصّ تلك الوضعيّة. ويبدو أنّ الأمر وارد بمثل هذا الوضوح في اللّغة الأنكليزيّة، إذا ما استأنسنا بالتمييز الذي يجريه مقدّم الترجمة الفرنسيّة لكتاب فنّيكوت «اللّعب والواقع» بين مفردة: Play التي تفيد في الجملة لعبا متحرّرا من القواعد ومفردة: Game التي تفيد معنى اللّعبة المقيّدة بمجموع قواعد معيّنة.
أمّا إذا عدنا إلى «هويزنغا» في «الإنسان اللاعب»، فإنّنا نسوّغ لطائف العربيّة التي يحيل إليها في أكثر من مناسبة؛ حيث اللّعب حركة أو نشاط إراديّ، تبعا لقاعدة متّفق عليها بحرّية، لكنّها إلزاميّة في الآن نفسه، كما هو الشأن في كرة القدم ـ وهي اللاعبةُ لا الملعوب بها ـ المصحوبة دائما بشعور التّوتّر والغبطة، وبوعي أنّ «الوجود متحقّق على نحو مغاير» مقارنة بـ«الحياة العاديّة». وبهذا تكون مقولة اللّعب، قد حوتْ كلّ ما نسمّيه اللّعب عند الحيوانات، والأطفال، والرّاشدين: مباريات رشاقة، أو قوّة، أو تفكير، أو حظّ. وعلى أساس من هذا يبدو اللّعب قابلا لأن يكون واحدا من العناصر الرّوحيّة الأساسيّة للحياة. بل قد لا يكون الإنسان حرّا، إلاّ عندما «يفقد الواقع طابعه الجادّ»، وتغدو الضّرورة «سهلة.»

منصف الوهايبي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية