من جابوتنسكي الى ليبرمان: «الصهيونية الغجرية»

حجم الخط
2

افيغدور ليبرمان من كيشينيف (كيشيناو) في بيسارابيا (مولدوفا). المدينة التي افتتح القرن الماضي بالبوغروم (البوغروم مذبحة ضد اقلية بتواطؤ او تحريض من السلطات، ودور العوام) عام 1903 ضد يهودها. كان ذلك في السياق التسعيري والدموي لمعاداة السامية برعاية حثيثة من القيصر نقولا الثاني. كانت بيسارابيا او مولدافيا الشرقية التي تشكل كيشيناو واحدة من ابرز مدنها، جزءا من امارة تتبع الامبراطورية العثمانية حتى مطلع القرن التاسع عشر، ثم غدت جزءا من الامبراطورية الروسية. لاحقا، وعلى الرغم من كفاية الاواصر القومية اللغوية الجامعة التي افضت الى اتحاد البغدان والافلاق والترنسلفان لتشكيل الكيان الوطني الروماني، لم يكن مقدرا لمولدافيا الشرقية الانضمام. لا تزال هناك حركة تدعو فيها للاتحاد برومانيا، لكنها محدودة.
بوغروم كيشنيف لعب دورا تجذيريا لاتجاهات مختلفة بين يهود الامبراطورية الروسية. زاد من الهجرة باتجاه الاستانة وفلسطين، كما برز بعد المذبحة اكثر فاكثر ذلك الموقف الذي سيتطور ليشكل «الصهيونية التنقيحية»، صهيونية اليمين.
فقد اعتبر ابن اوديسا، (فلاديمير ثم) زئيف جابوتنسكي، الذي كان عاد لتوه لها بعد فترة دراسة غير متتمة بايطاليا، ان البوغرومات ما كانت لتحصل بنفس الشكل لو ان شباب الغيتوات والشتيتل اليهود نجحوا في بناء تشكيلات دفاع ذاتي. رفع، بوجه «الصهيونية الديبلوماسية» الهرتسلية، كما بوجه القادة الدينيين شعارا جديدا: «ايها الشباب اليهودي تعلم كيف تطلق النار». بادر الى انشاء هذا التشكيل الدفاعي الذاتي في اوديسا نفسها، المدينة التي ما فتئت الحركة القومية الرومانية تطالب بضمها، الى ان احتلها نظام يان انتونسكو الحليف للنازية، ابان الحرب العالمية الثانية. أساسا، من جابوتنسكي الى ليبرمان، مع الاختلافات والمسافات بينهما، لا يمكن فهم هذا «العمق الروماني» من اليمين الصهيوني من دون خوض غمار المقارنة مع اليمين القومي الروماني نفسه. ضمن اليمين الصهيوني، يبقى اشكيناز الشمال، من يهود بولونيا وليتوانيا، هم «البيض»، قياسا على «الغجر» من يهود حوض البحر الأسود.
في مقابل تشديد جابوتنسكي بعد مذبحة كيشينيف على موجب «الدفاع الذاتي» المحلي، وليس فقط التعويل على البوغرومات لترك البلاد نحو بناء المشروع الاستيطاني، كان الاتجاه الآخر الذي تطور بين التجمعات اليهودية في البلاد الروسية بعد بوغروم كيشينف 1903. يربط اكثر من ذي قبل انعتاق اليهود بتحرر الطبقة العاملة، سواء كان هذا باستقلال ذاتي ثقافي غير جغرافي، من موقع الطبقة العاملة اليهودية (حزب البوند)، او باندماج كلي في الكل العمالي الثوري، كحال جناحي حزب العمال الاشتراكي الديموقراطي الروسي.
ما حصل انه عندما انفجرت ثورة 1905 علق حتى الاكثر حماسة للهجرة الى فلسطين، او ما كان يسمى «الفلسطينوفيل» بين الصهيونيين في ذلك الوقت، انشطتهم وتصوراتهم بهذا الشأن، وانخرطوا في المخاض الروسي الكبير، انما بمواقع مختلفة، وخرجوا من هذه التجربة بخبرات وخلاصات متباينة. فديفيد بن غوريون الفرصوفي، كان التحق بحزب شغيلة صهيون «بوعالي تسيون» الماركسو ـ صهيوني، وانخرط من موقعه هذا بثورة 1905 الديمقراطية الروسية ضد النظام الاوتوقراطي القيصري. وكان ظهر «البوعالي تسيون» كتشكيل ايديولوجي وسياسي في اعقاب رفض البوند لتبني الصهيونية. أما جابوتنسكي فامضى فترة ثورة 1905 في العاصمة سانت بطرسبرغ، ليتعاون مع الليبراليين من حزب الكاديت (الدستوريين الديمقراطيين) في اطار الرابطة من اجل حقوق متساوية لليهود.

ليبرمان الذي احب في سنوات شبابه المبكر الادب الروسي، اكتشف لنفسه في الجامعة بإسرائيل وظيفة اخرى: الاعتداء بالضرب على الطلاب العرب، والتشبيح في الخمارات

بعد هزيمة ثورة 1905، يهاجر بن غوريون الى فلسطين العثمانية 1906، ويلتحق بعدها بكلية الحقوق في استنبول، ثم ينظم الى جانب العثمانيين مع اندلاع الحرب. لا يلبث ان يغادر الى الولايات المتحدة، ويلتحق، بالتزامن مع وعد بلفور، بالفيلق اليهودي التابع للانكليز، ويدخل معهم الارض كقوة احتلال، في الوقت الذي هاجر اليها سابقا وتنقل بينها وبين الاستانة كمهاجر بولوني من امبراطورية الى أخرى.
جابوتنسكي يتأخر في المجيء. عام 1906 اعتزم خوض انتخابات مجلس دوما الدولة الروسي. بعد ثورة الاتراك الشباب انتقل الى استنبول ليعمل في جريدة «جون تورك»، الى حين اقفالها، بطلب من الالمان. انتقل هو ايضا الى المقلب الانكليزي، لكن قبل وعد بلفور بسنتين. بخلاف بن غوريون الذي اقام لسنوات في فلسطين بين 1906 و1916، لم يستوطن بها جابوتنسكي فعليا الا بانتهاء الحرب الكبرى (مع زيارة وجيزة له عام 1909).
جعل «الذئب» من «الدفاع الذاتي» منظارا شاملا لقياس الامور في فلسطين. بخلاف التيار السائد في الحركة الصهيونية الذي كان يقلل من شأن العرب، ويعتبر ان كل ما عليه انتهاج سياسة كولونيالية كلاسيكية حيال الافندية والبدو، شدد جابوتنسكي على خطورة السكان الاصليين بالنسبة الى المشروع الاستيطاني. شدد، في مقالته «جدار الحديد» 1923، على ان عرب الارض اناس عاقلون لا يمكن خداعهم بمرامي الصهيونية، التي تأتي لسلبهم ما لهم. فما دام الصهيونيون مقتنعين بأن قضيتهم عادلة، عليهم ان يظلموا السكان العرب من دون رياء، بل ان يقيموا «سورا» فاصلا، مبني على القوة الرادعة وحدها، لان «السبيل الوحيد نحو تفاهم في المستقبل يمر برفض اي مسعى لتحقيق تفاهم في الوقت الحالي». هل يشبه ليبرمان جابوتنسكي؟ بالمطلق، جابوتنسكي هو الاب الروحي للصهيونية التنقيحية، مثلما ان كليهما يأتي من بلاد ناطقة بالرومانية تعرضت للروسنة (اوديسا وبيسارابيا).
جابوتنسكي، خصوصا في العشرينيات، انخرط في بناء تشكيلات دفاع ذاتي يهودية يمينية الى جانب البتليوريين المعادين للسامية والمسؤولين عن مروحة بوغرومات هائلة ضد اليهود، وكذلك في ريغا ـ لاتفيا. لم يخف اعجابه بالفاشية الموسولينية او بالحرس الحديدي الروماني. جابوتنسكي، بن غوريون، ترومبلدور، اهيماير، كل واحد هؤلاء ارتبط ليس فقط بمسألة يهودية دياسبورية او بالعمل الصهيوني، انما تطورت تجاربهم في سياق تهاوي الامبراطورية الروسية القيصرية ثم انبعاثها على يد البلاشفة. هذا في مقابل سقوط الامبراطورية العثمانية، وعدم انبعاثها باي شكل. جابوتنسكي وبن غوريون لهما تجربة روسية، تجربة عثمانية، تجربة ما بعد عثمانية. تجربتهما العثمانية كانت في الاستانة نفسها. مع ليبرمان يحضر زمن سقوط الامبراطورية الروسية في شكلها السوفياتي. سقوط جعل طائفة جديدة تتأسس في اسرائيل، «الطائفة السوفياتية»، ولعلها تسمية تضيء اكثر على الاشكالية من تسمية «اليهود الروس».
هؤلاء لهم في جابوتنسكي اب اثني متخيل ايضا، وليس فقط ايديولوجي. كونه من يهود البحر الاسود، وليس من يهود البلطيق وبولونيا شأن معظم الاشكيناز، وبخاصة الاساسيين في قيادة الييشوف الانتدابي ثم الدولة العبرية.
ليبرمان هو ابن لجندي انخرط في الجيش الاحمر. هو ايضا امضى طفولته ومراهقته كمواطن سوفياتي في زمن بريجنيف. اي كان في طلائع لينين، في الكومسمول، قبل هجرته اواخر السبعينيات الى اسرائيل، التي كانت تقدم للشباب السوفياتي فترة خدمة عسكرية مخفضة. ليبرمان الذي احب في سنوات شبابه المبكر الادب الروسي، اكتشف لنفسه في الجامعة بإسرائيل وظيفة اخرى: الاعتداء بالضرب على الطلاب العرب، والتشبيح في الخمارات. سقوط الاتحاد السوفياتي ربطه اكثر بموطنه الاصلي وليس العكس. لعب دورا «لوجستيا» في ادارة عملية نقل مئات الاف من يهود الدولة المفككة الى اسرائيل، وربط بين المافيات.
واءم جابوتنسكي بين الكفاحية الصهيونية التنقيحية وبين تنقله في ادوار ارتزاقية، بخاصة تعاونه مع البتليوريين الفاشيين في اوكرانيا، ومع الفاشيين بلاتفيا، اما ليبرمان فغلبت عليه سحنة المافيوزي. مافيوزي وأب لأجدد طوائف الشرق الأوسط: الطائفة السوفياتية التي تحتاج دائما في اسرائيل الى تأكيد انها بالفعل اشكينازية، وليست «غجرية»، وان لها مصلحة اساسية في الاستيطان بالضفة، كما ان ليبرمان، بقي، رغم توليه وزارات «سيادية» يقيم، «منزليا» في اراض لم يعلن الكيان العبري ضمها بشكل رسمي له.
بصرف النظر عن المدى الزمني لاستمرار الدولة الصهيونية بحد ذاتها، يشكل ليبرمان بمثابة اللحظة الاخيرة في تاريخ الفكرة الصهيونية، ذلك انه يفرض على كل التشكيلات الصهيونية منطق البحث عن لحظة سابقة عليه لاعادة احياءها، كما لو كان هو «الراهن» البحت، الذي لا يحتاج الى احياء اي شيء.

 كاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول Suzan Hijab:

    خلال كتابتي راحوا اولاد عمنا غيروا الصفحة- طول النهار ما خلوني افتحها- ارجوكم سووا حلقات من المقالة- بعد 100 سنة لنعلم هيك شئ- ليش فيه مدارس- اللي تعلمناه تحطوه في كيس زبالة- القرائة صعبة- المهم اهتموا بالمقالة علشان نعرف اين نعيش- توضيح اكثر – رومانيا؟ الان نعرف اللي يصير في الماني- الونر عملهم كبير هنا- سرقوني منذ 1994 دون نهاية- ما معني نور يهود؟ هل هم نفسهم هنا؟

  2. يقول Suzan Hijab:

    تاريخنا العربي كبير كثيف ولكن محتوي المعني فقير لانه لا يعتمد علي عميق بالمنطئ و النقد- الفكر النقدي كان انقذنا مئات السنين ولكن الخوف وقعنا في بحر الظلام- اللي احنا عايشين فيه-
    غزة عملي الجديد\ غزة اتمسحت في الاولي

إشترك في قائمتنا البريدية