تشكل عملية خطف المستوطنين الثلاثة ظاهرة لا سابق لها. فالغموض يلفّ المسألة، والصمت يسيّجها بجدار من الالتباس، الى درجة تجعل من الإعلانات الاسرائيلية عن اسمين لناشطين حمساويين بصفتهما مسؤولين عن العملية بلا جدوى.
من خطف من؟
امتلأت وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي بالاحتمالات التى وصل بعضها الى درجة اتهام اسرائيل بخطف المستوطنين، بهدف استباحة الضفة، وتفكيك حكومة الوحدة الفتحاوية الحمساوية! وقد وصل الصمت الى ذروته عبر ادانة السلطة بلسان رئيسها عملية الخطف، من دون التوقف امام مسؤولية هذه السلطة في حماية «مناطقها» المستباحة، والدفاع عن شعبها الذي يتعرض للتنكيل على ايدي الجنود الاسرائيليين الذين اجتاحوا مدن الضفة وقراها ومخيماتها.
هذا الصمت هو احد علامات المرحلة، ليس على المستوى الفلسطيني فقط، بل على مستوى المشرق العربي أيضا.
أن تقوم مجموعة بخطف ثلاثة مستوطنين ولا تعلن عن مطالبها أمر يثير الحيرة. فلا بلاغة تعادل بلاغة الصمت، خصوصا أذا كانت المسألة تتعلق بالحياة والموت.
هل قضى الإسرائيليون الثلاثة أم أنهم على قيد الحياة؟ ومن خطفهم ولماذا؟
لا جواب على أي من هذه الأسئلة.
والسؤال هو لماذا يصمت الخاطفون؟
أغلب الظن أن هناك ما هو أبعد من الأسباب الأمنية المحضة، التي يجب أن تؤخذ في الإعتبار، في هذا الصمت الشامل. وهي اعتبارات تشير الى البنية السياسية والثقافية الجديدة التي يدور فيها الصراع.
فالصمت الفلسطيني الذي يبدو مرعباً بالنسبة للحكومة الإسرائيلية، ويحمل دلالات فشل سياساتها القمعية وادعاء معرفة كل شيء، يشير الى حالة فلسطينية جديدة، يصعب تحديد ملامحها، لكنها ترتسم كعلامة سؤال في البحث الفلسطيني عن المعنى، وسط الحصار الشامل الذي تتعرض له فلسطين في الوطن والمنافي.
لم يعد هناك حاضنة سياسية للمقاومة. السلطتان الفلسطينيتان في الضفة وغزة صارتا بلا لغة مقنعة. استراتيجية المفاوضات صارت في خبر كان، واستراتيجية المقاومة بالصواريخ صارت مستحيلة وسط الانهيار الشامل في المشرق.
اما المقاومة الشعبية السلمية التي برزت ملامحها في مقاومة الجدار وبناء «باب الشمس» والقرى المشابهة، فإنها لم تتحول الى حالة شعبية شاملة، كما كانت تأمل نُخب المجتمع الأهلي.
انه انسداد سياسي شامل في مواجهة عربدة اسرائيلية مطلقة. فاليمين الاسرائيلي يتصرف وكأن الإنهيار العربي الذي يحيط بفلسطين، هو فرصته لإنهاء المسألة عبر تحويل الاستيلاء على الضفة الى حقيقة لا رجوع عنها.
صخب يعربد استيطانيا من جهة، وانسداد سياسي فلسطيني من جهة ثانية. هنا جاءت المقاومة الصامتة: خطف بلا مطالب، خاطفون يتقنعون بالصمت، ومخطوفون صار مصيرهم مجهولا.
هل نحن امام عملية تشبه عملية «وادي الحرامية»، حين قام مناضل فلسطيني لا ينتمي الى أي تنظيم، ويدعى ثائر حمّاد بتنفيذ أهم عملية عسكرية خلال الانتفاضة الثانية، بصمت صنعته رصاصات بندقيته؟
أم نحن أمام سرّ كبير، لن تنكشف ملامحه الا حين يتم العثور على الخاطفين؟
ذكّرني هذا الصمت الفلسطيني بصورة الفلسطيني كما رسمها الأدب الإسرائيلي بعد حرب النكبة. حيث تم رسم الفلسطيني بصفته مقطوع اللسان، وعاجزا عن النطق بكلمات مفهومة.
يومها كان إخراس الفلسطينيين شرطاً للاستيلاء على الأرض ورسم خريطتها بالنار، فصار الفلسطينيون كائنات لا تُرى، يحجبها الحكم العسكري، وتختفي خلف المستعمرات الاسرائيلية التي احتلت رؤوس الجبال.
ما يجري اليوم في الضفة الغربية يشبه عملية حجب الفلسطينيين التي جرت في أراضي 1948، ووُجهت بمقاومة فلسطينية هائلة، جعلت من الصمت اداة كلام، ومن الخرس اشكالا ادبية نجحت في تأسيس المعنى، ومن القمع حافزا لبناء اطر سياسية قامت بإعادة بلورة الهوية.
اليوم يسعى الاحتلال الى حجب الفلسطينيين ليس خلف الصمت، كما حصل في الماضي، بل خلف جعجعة كلام مبتذل عن عملية سلام لا وجود لها. لذا تحوّل الكلام الى لغو يدمر اللغة، وصارت اللغة السياسية الفلسطينية محاولة لتعبئة العجز بالفراغ واللامعنى.
من هنا جاءت مؤشرات هذا الصمت الفلسطيني لتعبّر عن مسألتين متكاملتين في تناقضهما:
الأولى تشير الى ان الصمت قد يتحول الى وسيلة تعبير حين يعجز الكلام.
بينما تشير الثانية الى أزمة فلسطينية عميقة، ضاعت فيها البوصلة، بحيث صرنا امام ضرورة طي مرحلة «اوسلو»، والتطلع الى أفق جديد يقوم بتأسيس ثورة فلسطينية جديدة، تحتاج الى صوغ لغتها، وسط مشرق عربي فقد لغته بين قمع الاستبداد الذي أنتج «داعش»، وقمع «داعش» الذي يعيد إنتاج الاستبداد.
السؤال ليس من خطف من؟ هل نجح الفلسطيني الذي خطفه الاحتلال في خطف المستوطنين الثلاثة؟ أم أن الاحتلال نجح في تحويل الخطف الى منصة جديدة للترهيب والتنكيل والقمع؟
سؤال لا يملك أحد جوابا عليه، لكن هذه العملية تشير الى احتمال أن يكون الصمت الفلسطيني قادراً على اختراق ضجيج انحطاط الطوائف في المشرق العربي التي ترفع رايات القتل والابادة، عبر تذكير فاقدي الذاكرة هؤلاء، بأنهم ينحرون العرب وينتحرون، متناسين أن المسألة تقع في مكان آخر.
ربما علينا أن نكتشف العلاقة بين إنتحار المشرق العربي وبين هذا الشكل من الصمت الفلسطيني. فالعراق بعد التجريف الاستبدادي والإحتلال الأمريكي، يدخل مع سوريا التي دمرهاالاستبداد في مجهول الحروب الطويلة التي تقود المشرق الى رماده.
بلاغة الصمت لا تحجب أسئلته، بل تطرح على اللغة العربية تحدي العودة الى الكلام، واستعادة المعنى. وهو تحدٍ أكثر عمقا وإلحاحاً من التحدي الذي طُرح منذ مئة سنة، حين سقطت الدولة العثمانية وسقط بديلها العربي في أيدي القوى الاستعمارية.
الياس خوري
الاستاذ العزيز الياس خوري من يمنع قارئة مثلي من الهتاف من كل قلبها لما يكتب قلمك العزيز على قلبي يا استاذ الياس انت تعبر عني كفلسطينية حزينة على ضياع فلسطين من بوصلة الثوار، ان توصف لي الاشياء كما اراها ولكن مع مزيد من الحق انت يا استاذ الياس في جملة قصيرة تبوح بسر المشكلة والكارثة والحزن على نحو لا يعرف الانحياز لماذا احب قلمك لانك تقول الحق ولو كان مرا واجمل فقرتين عبرتا عن كل الصمت الذي الوذ به( كفلسطينية مصدومة من هول الاحداث ومن تحولات الحركات الثورية المقاومة الى اولويات شنيعة بشعة تقطر حقدا وانانية ) وملاتاعلي فضاء فكري وقلبي :
صرنا امام ضرورة طي مرحلة «اوسلو»، والتطلع الى أفق جديد يقوم بتأسيس ثورة فلسطينية جديدة، تحتاج الى صوغ لغتها، وسط مشرق عربي فقد لغته بين قمع الاستبداد الذي أنتج «داعش»، وقمع «داعش» الذي يعيد إنتاج الاستبداد.
*لكن هذه العملية تشير الى احتمال أن يكون الصمت الفلسطيني قادراً على اختراق ضجيج انحطاط الطوائف في المشرق العربي التي ترفع رايات القتل والابادة، عبر تذكير فاقدي الذاكرة هؤلاء، بأنهم ينحرون العرب وينتحرون، متناسين أن المسألة تقع في مكان آخر.
ربما علينا أن نكتشف العلاقة بين إنتحار المشرق العربي وبين هذا الشكل من الصمت الفلسطيني.
انت رائع جدا يا استاذ الياس اليوم وعلى حق جدا وسلم قلمك النبيل الجميل لانه عبر عن صمتي
وزارة المستضعفين ، عاصفة الثار ، ام ذر الغفارية جريحة فلسطينية منشقة عن المنظمة التيتطلق على نفسها اسم حزب ( الله )
شكرا اخي الياس على هذا المقال انا شخصيا اعتقد انه لايوجد لغة في العالم قادرة على ان تعبر عما يريد ان يقوله الصمت لكن لنبقى ي لب الموضوع حقيقة انا لااستبعد ان العملة مدبرة مخابراتيا من الموساد الاسرائيلي اما الصمت الفلسطني براْيي مرده الى ان السلطة وحماس لم يكونوا قادرين على تصور ان الموساد اقوى حتى من الدولة الاسرائيلية وهذا ضعفا شديدا في التقدير لوضع استراتيجية تحمي المصالحة فالمصالحة الفلسطينية بالنسبة لاسرائيل اخطر بكثير من اي انتفاضة او اي ثورة فلسطينية وهنا يكمن الاحتمال بان الموساد هو الذي يقف وراء العملية
على الرغم من أن خطف الأطفال والمدنيين أمر مدان من حيث المبدأ (خاصة وقد تبين أنهم قتلوا بعد خطفهم) فإن على الساسة الاسرائيليين التنبه الى أن إنكار الحقوق والقمع لن يجلب إلا المزيد من العنف.