ما يواجهه العراق هو خطر وجودي. الاستنتاج جاء على لسان جون كيري في اعقاب لقاء سريع جمعه بنوري المالكي في بغداد، بعد زيارة قصيرة فرضتها التطورات المباغتة على الارض بتراجع القوات الحكومية وانسحابها المفاجئ امام زحف داعش واخواتها وسيطرتهاعلى العديد من المواقع والبلدات. من سنحت له الفرصة ليزور تونس في الوقت الذي خرج فيه كيري بذلك الاستنتاج قد يكون ساوره الشعور على الارجح بأن تلك الكلمات لا تعني العراق وحده، وان ما يمكن ان يطلق عليه الخطر الوجودي هو وضع عام يشمل الجميع ولا يفرق او يستثني بلدا عربيا من آخر، مهما اختلفت الظروف أو الازمات. المخاطر الجدية والوجودية صارت تحدق وبقوة من كل حدب وصوب وتهدد إما وجود دول بكياناتها وحدودها المعروفة، او وجود شعوب موحدة ومتجانسة على الارض قبل الورق، او في حالة تونس تواصل واستمرار الديمقراطية الوليدة في النمو والحياة.
قد يعتقد البعض بان هناك مبالغة او تهويلا للمخاوف والشكوك، فالبلد على السكة الصحيحة، بعد ان صار لديه دستور يضاهي او حتى يفوق أعرق الدساتير الاوروبية من حيث المضامين الحقوقية والتحررية، وهيئة مستقلة للاشراف على الانتخابات، والاهم من ذلك مواعيد مضبوطة ومحددة لذلك الاستحقاق لا تتعدى في اقصى الحالات سقف العام الحالي. لكن الجميع تقريبا سواء كانوا متشائمين او متفائلين ليسوا مطمئنين بالكامل الى خلو الطريق من الحواجز والمطبات الطبيعية والاصطناعية، وليست لديهم الثقة في قدرة الناس على مزيد التحمل. ولا احد بينهم يجزم ايضا بان المسيرة الشاقة والمضنية للتخلص من عقود طويلة من الاستبداد سوف تكون محدودة الاعباء والتكاليف. لكن تبقى مسألة مهمة واساسية وهي مدى قابليتهم واستعدادهم للصبر على محن واتعاب الديمقراطية بعد ان صبروا مرغمين وصاغرين على جور وبطش الاستبداد، وتصورهم بعد ذلك واستيعابهم للهدف الاصلي من وراء تلك الديمقراطية قبل التمسك العاطفي الاعمى بمظاهرها وقشورها الخارجية البراقة.
ما يشغل الاحزاب من يمينها الى يسارها هو الاعداد الجيد، إما بعقد التحالفات او اطلاق المبادرات من اجل كسب معركة قادمة ضروس هي معركة الانتخابات. التصور الذي يقـــود الجميع هو ان الفائز او الفائزين المحتملين هم الثمرة الصعبة والنادرة لتلك الديمقــــراطية والتتويج الاخير والنهائي لها.
هذا شأن الاحزاب التــي لا هم لها سوى كسب الاصوات قبل العقول والضمائر، والتي تضع نصب اعينها نسب الاقبال على الاقتراع والرغبة في حصد اكبر عدد من الاوراق المقبولة في الصناديق.
لكن الحزبين الاوفر حظا في الفوز، وفقا لاستطلاعات الرأي، وهما حركة النهضة الاسلامية وحركة نداء تونس، التي تضم خليطا هجينا من انصار حزب التجمع المنحل ومن اليسار، متفقان على أمر واحد وهو، انه لا يمكن لاي منهما ومهما كانت نتيجة الانتخابات ان يتفرد بقيادة البلاد في المرحلة القادمة لوحده. هل يعني ذلك ان الانتخابات المقبلة سوف تكون مسألة شكلية بالاساس او نوعا من المباركة والتزكية الشعبية لاتفاقات وتفاهمات حزبية حصلت في السابق، إما فوق الطاولة او تحتها؟ هذا هو الجدل الذي يدور في صالونات النخب التونسية. اما التساؤل الاكبر الذي قلما تطرحه تلك النخب او تلقي له بالا فهو، ان كانت الاصوات التي سيغنمها الفائزون المتوقعون قادرة على الحكم، والاهم من ذلك هل بامكانها ان تعبر حقيقة لا مجازا عن ارادة مانحيها؟
المشاهد التي نقلتها شاشات التلفزيون منذ اسابيع قليلة لجزائريين ومصريين وسوريين، ثم موريتانيين وهم يشاركون بتلك «الهيصة» او الكرنفالات الانتخابية تجعلنا نتساءل ان كان بمقدور التونسيين ان يخرجوا عن النص ويعيدوا للانتخابات معناها وللاصوات قيمتها، وفي الاخير للديمقراطية حقيقتها وجوهرها المغيب؟ ما تقوله الارقام انهم نظريا على الاقل الاوفر حظا لفعل ذلك، فاستنادا الى اخر تقرير للتنمية البشرية صدر العام الماضي عن برنامج الامم المتحدة الانمائي، يحتل البلد مرتبة متقدمة بالقياس لعدد سكانه وقدراته الاقتصادية المحدودة ويصنفه التقرير ضمن مجموعة التنمية البشرية المرتفعة، التي يشترك فيها مع سبع من الدول العربية لا يوجد من بينها من يماثله من حيث قلة الموارد سوى لبنان. انفتاح التونسيين المبالغ فيه في بعض الاحيان وارتفاع نسب التعليم وانطلاق الموجة التي طالت اجزاء واسعة من الدول العربية من بلدهم، كلها عوامل تصب في الاتجاه نفسه.
لقد فاجئ الكاتب والمفكر الامريكي فرانسيس فوكوياما صاحب نظرية نهاية التاريخ، الكثير من قرائه اوائل الشهر الماضي لما كتب في جريدة «وول ستريت جورنال» مقالا تطرق من خلاله الى الاوضاع داخل المنطقة العربية وما يحصل فيها من تطورات قائلا بانه «يبدو ان الربيع العربي لن يسفر عن ديمقراطية حقيقية في اي مكان باستثناء البلد الذي بدأ فيه اي تونس». مثل تلك المؤشرات والتوقعات قد لا تكون كافية لوحدها للاطمئنان بأن نجاح الانتخابات يعني بالضرورة فوزا وكسبا سهلا وساحقا للديمقراطية. الإشكال القائم هو ان هذا الوافد الغريب على البلاد يتعرض لعمليات مسخ وتشويه تجعله يبدو احيانا مثل وحش كاسر، واحيانا اخرى بمظهر الحمل الوديع. اما الاجيال التي تقود المرحلة الجديدة فهي إما متورطة للنخاع في صناعة استبداد الماضي واوجاعه او خارجة من سجونه ومنافيه القريبة والبعيدة، وفي المقابل لا تبدو الاجيال الشابة افضل حالا فهي لم تسمع او تذق طوال حياتها القصيرة لا طعم ولا لون ولا شكل الحرية. فمن الذي سيصنع الديمقراطية اذن؟ هل هم الشيوخ أم الشباب أم ان تونس ستضطر لاستيراد خبراء اجانب، مثلما تفعل الانظمة العسكرية عندما تستقدم مع شحنات السلاح المستورد خبراء ومستشارين عسكريين ضروريين للتشغيل والصيانة؟
التخلص من الماضي يبدو مرهقا وشاقا وفوق الطاقة، أما التطلع الى المستقبل باجيال جديدة فيحتاج الى الكثير من الوقت والجهد. وربما من اجل كل ذلك يجد كلام كيري عن الخطر الوجودي صداه ولو على بعد الاف الكيلومترات من العراق، ورغم كل الاختلاف الحاصل في الاوضاع والظروف بين بلاد الرافدين وارض الزيتونة.
كاتب وصحافي من تونس
نزار بولحية
مقارنة ببلدان الثورات الأخرى تعد تونس في أفضل حال ما دامت النخبة السياسية تعمل على ارساء الديمقراطية تدريجيا مع الحذر من الانتكاسة والله الموفق.
مثل هذه المقالات تكرس الاستقطاب الثنائي لحركة النهضة او نداء تونس و كلاهما على ما يعلم الجميع في تونس التجأ الى رؤوس الاموال المعروفة و الى بعض الوجوه التجمعية القديمة اما سرا او علانية وخالفا بذلك منطق الثورة ومحاسبة التجمع اللادستوري اللاديمقراطي, في المقابل يتم التغاضي عن احزاب و جبهات لها وزنها في الشارع التونسي ,