تردد على المكان مرات ومرات، وراقبته من جميع الجهات، شجرة صنوبر عالية بين عشرات الأشجار على ربوة تطل على البحر. وبيوت قليلة متناثرة في المكان، لكنها ليست قريبة جدا من غابة الصنوبر. إنه مكان مثالي لعش لا يقصده صيادون، ولا أولاد اشقياء.
لقد أودعت خمس بيضات من بيضها في أعشاش أخرى، في أيام سابقة، وها هي وجدت هذا المكان المنيع والجميل لإيداع بيضتها السادسة.
لم يبق لها إلا أن تخرج العصفور الأب والعصفورة الأم من عشهما، كي تضع بيضتها السادسة فيه. إذ أنها بعد يومين ستبيض بيضتها السابعة، وهي مضطرة لتنفيذ ذلك بأسرع وقت، لكن بدون أغلاط في التنفيذ.
هكذا تفعل مع بيضها الذي قد يصل إلى العشرين في الموسم الواحد، وكل بيضة من بينها، عليها أن تجد لها عشا مناسبا. أي أما وأبا مناسبين، فهي لا تحضن بيضها، ولا تمارس دورها كبقية الأمهات من تحضير قش وأوراق وحشائش لبناء عش كبقية الطيور. بل هي تختار أعشاش الآخرين من الطيور، لتضع بيضها فيها، وتترك الحضانة والإطعام والرعاية لأمهات أخريات. ودائما عليها أن تختار وبدقة متناهية بيضا قريب الشبه ببيضها في الشكل والحجم واللون.
كأنها تمرنت على دورها عشرات المرات، مع أنها تمارسه ربما للمرة الأولى، أو كأن تفصيلات ما تفعل قد تم تسجيلها في ذاكرتها منذ أن كانت بيضة وفرخا.
لم يبق إذن على أنثى الوقواق إلا أن تخرج العصفور الأب والعصفورة الأم من عشهما، بعد أن رصدتهما وهما تؤثثان عشهما استعدادا لاستقبال فراخ جديدة.
حوّمت حول العش وأصدرت أصواتا غاضبة، ثم أخذت تهاجم العش وتقف عليه وتهزه هزا عنيفا. كررت ذلك مرات عدة، فخرج العصفور الأب مستطلعا، فتبعته وأبعدته عن المكان.
عادت تهاجم العش من جديد وتهزه وتصدر أصواتها الغاضبة. اقتربت العصفورة الأم من باب العش، فنقرتها أنثى الوقواق بمنقارها، صاحت العصفورة الأم من الألم، ثم خرجت من العش مرغمة، وطارت مبتعدة.
صفقت أنثى الوقواق بجناحيها معلنة نجاح خطتها، ثم تناولت بيضتها من المكان الذي خبأتها فيه، وتوجهت إلى العش، انكسرت بعض عيدان مدخله، فأنثى الوقواق أكبر حجما من العصافير. وضعت بيضتها بين البعض الآخر، ثم تناولت بيضة منه بمنقارها، وخرجت مسرعة. وعندما ابتعدت عن المكان، فإنها أسقطت البيضة من عل، فوقعت وانكسرت، ثم أخذت تستعد لرصد عش آخر لوضع بيضتها التي ستأتي بعد يومين.
عادت العصفورة الأم متلهفة لحضن بيضها، فوجدت قشا مكسرا، إلا أن بيضها كان كما هوعددا ولونا وشكلا، فحضنته وقعدت عليه.
عاد العصفور الأب، فوجد مدخل العش مكسرا، فأصلح عيدانه، وقعد في زاوية من العش يناجي عصفورته.
مضت الأيام، وبدأت الحركة والخفقان يتواليان في البيض، وتبادل العصفوران الأم والأب أدوارهما في احتضان البيض. لقد اقترب موعد تفقيسه، إذ مضى حوالى خمسة عشر يوما على وضعه. وفجأة انكسرت بيضة وخرج منها فرخ مغمض العينين لا يكسو جسمه ريش. فرحت الأم وفرح الأب، ثم أخذ الطائر الجديد «يوقوق» ويصرخ، فخرج الأب مسرعا للبحث عن غذاء مناسب. استمر الوقواق الصغير بالصياح والرفرفة بجناحيه. فيما خرجت الأم وراء الأب للبحث عن غذاء زائد.
أحس الوقواق الصغير بالهدوء والسكينة في العش، فوجهته غريزته نحو البيض الذي كان يجاوره، فدحرج بيضة وحركها من مكان إلى آخر، ثم أوصلها إلى جناحه الأيسر، واستمر في تحريكها إلى أن استقرت على ظهره تماما.
جعل ظهره مواجها للباب وتحرك بحذر، ثم قذف بالبيضة من العش فسقطت وانكسرت.
عادت الأم إلى العش، ثم عاد الأب، فوجدا بيضة ناقصة، فبحثا عنها ليجداها أسفل الشجرة مكسورة. حزنا لذلك.
أكل الوقواق الصغير كل ما أحضره العصفوران، لكنه لم يشبع وتابع وقوقته وصياحه.
كسر فرخ بيضته وخرج «يوصوص»، فرح العصفوران بمولودهما الجديد، صحيح أنه أصغر من الوقواق، لكنه مع ذلك ابنهما.
خرج العصفوران لإحضار المزيد من الطعام.
بدأ الوقواق بحثه في العش، فوجد الفرخ الصغير «يفرفر» و»يوصوص» فبدأ ينقره بمنقاره، والصغير يصيح. ثم أخذ يوجهه نحو باب العش، والصغير يوالي صياحه ورفرفته. اقترب العصفور الأب من عشه بعد أن أحضر المزيد من الطعام، فسمع عراكا في داخله ، وفي اللحظة التي همّ فيها بالدخول إلى العش، شاهد الوقواق يقذف بفرخه نحو الأرض، فأشرع منقاره وأظافر رجليه، وبدأ بالهجوم على الوقواق الصغير الذي كان صياحه يملأ المكان.
عادت العصفورة الأم محملة بالفراشات والديدان والحبوب، فوجدت معركة في عشها، وجهتها غريزة الأم للدفاع عن الوقواق الصغير، إلا أن فقدان الفرخ الصغير من العش جعلها تدرك سبب المعركة القائمة، فتعاونت مع العصفور الأب على مهاجمة الوقواق الذي سقط من العش على صخرة، فحاول الطيران، إلا أن جناحيه لم يقويا على حمله، فأخذ يصيح ويوقوق.
سليمان الشّيخ