العراق: الضرورات التي تبيح المحظورات

حجم الخط
0

العراق: الضرورات التي تبيح المحظورات

ربيع الحافظالعراق: الضرورات التي تبيح المحظورات للوطن علي المواطن حقوق يقتضي الذود عنها، ومفاهيم ينبغي الوقوف عندها، ومحظورات لا ينبغي تجاوزها. ولكن لكل محظورات ضرورات تبيحها. لنتوقف أمام مكونات الصورة التالية القائمة في العراق ثم نستأنف الموضوع:احتلال أجنبي / حلف بين الاحتلال وطوابير طائفية يستهدف ويهمش الكتلة السياسية الكبري في المجتمع وهم العرب السنة (42% حسب الانتخابات) / حرب أهلية غير متكافئة / هدم مدن بقوات مشتركة أمريكية وطائفية محلية / تطهير عرقي وطائفي / تزوير انتخابات / فدرالية تقطع أوصال البلاد ولم تبقِ من السيادة إلا الأسم وتحرم مناطق السنة من مقومات الحياة / نهب لثروات البلاد ورهنه للشركات المفضلة / تصفية علماء السنة ونخبهم وعسكرييهم / مصادرة المساجد وخطف وقتل الأئمة والمصلين / فرق موت بإشراف وزارة الداخلية / انتهاك حرمات النساء / حرب إعلامية وثقافية واقتصادية غير متكافئة بتمويل من إيران / تحكم إطلاعات (المخابرات الإيرانية) بالأمور الأمنية / تحكم إيران بمفاصل الحوزة / جالية كبيرة من المستوطنين الإيرانيين والهنود الشيعة تدعم زخماً شعوبياً معادٍ للعرب والعروبة / تمسك إيران بدور مستقبلي في إدارة العراق.السؤال: كم أبقت هذه الصورة من معاني الوطن والمواطنة؟ وماذا بمقدور السياسي فعله في مناخ كهذا؟صادفت أحد الأصدقاء، وهو كاتب ومحلل سياسي، فسألته عن سبب احتجاب كتاباته وتحليلاته، فرد بالقول: هذا زمان عندما ينطق فيه القلم ترد الرصاصة، ومقارعة الحجة بالحجة فيه وسيلة لا توصل إلي غاية. ذكرني قوله بحديث آخر، وهو أن الشعوب عندما تهدد في وجودها فإنها تبحث لا عمن يثبت مظلوميتها ولكن عمن يحقق لها الأمان، ويتراجع فيه هذه الحقب الأداء الفكري لصالح الأداء العضلي ، وهو ما يفسر بقاء الشعوب العربية حقباً طويلة تحت حكم المماليك ومن بعدهم العثمانيين التي توصف بأنها حقباً العسكرية.لم تكن الحقب العسكرية في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية حقب عطاء ثقافي، لكنها حفظت الأنفس وصانت الدين أمام أعاصير ثقافية ومذهبية وشعوبية عصفت بالشعوب من الشرق والغرب. مشاهد الانتشال السياسي للعرب علي أيدي الشعوب غير العربية في منظومة الحضارة العربية الإسلامية تكررت مرات عدة، بل إن امتدادها الزمني هو الأطول في السلم الزمني للحضارة.عنصر آخر يضاف إلي مكونات الصورة السابقة، وهو أن سنة العراق لا يجدون في محيط دول الطوق العربية من يرغب في إلقاء أطواق النجاة إليهم، أو يجد مصلحة في إعادة خلط الأوراق سياسية بما يؤثر علي المسارالسياسي.يبدو أن البر التركي هو الشاطئ الأقرب والمنظور بالعين المجردة من علي متن سفينة السنة المتعبة، ويتذكر العالم أن هذا الشاطئ، وفي ذروة الإعداد للحرب وتقسيم بوش لشعوب العالم إلي فسطاطين: معنا أوضدنا ، كان قد رفض نزول الجيش الأمريكي علي رماله، وأن يكون معبراً إلي غزو العراق، مثلما كانت سماء ومياه إيران معبراً لطائرات بـ 52 القادمة من قواعد المحيط الهندي والبوارج الأمريكية والذاهبة لإنزال الدمار علي العراق (يقول أبطحي:لولانا لما سقطت بغداد). الدنو من هذه الشواطئ والرسو في مياهها قد يبدو أسهل مما هو عليه في الواقع. لندع البحر قليلاً ونعود إلي اليابسة ونقول: إن ثمانية عقود من مؤسسات الدولة الحديثة والثقافة الوطنية كانت فاصلاً زمنياً طويلاً بين حقبتين رئيسيتين وسجال سياسي مذهبي محلي بأبعاد دولية، جرت وتجري فصوله علي أرض العراق، كان النظام العثماني أحد لاعبيها، والآخر هو النظام الإيراني الصفوي، وكان قيام الدولة العراقية الحديثة نهاية للحقبة الأولي، وكان سقوطها في 9 نيسان 2003 استئنافاً لها. ما يميز الحقبة الراهنة عن سابقتها هو غياب الحضور العثماني عن العراق بأشكاله المختلفة، وخروج العراق والشعوب العربية الأخري التي شاركت العثمانيين نظامهم السياسي أربعة قرون من اهتمامات الدولة التركية الوريثة، وتخلي هذه الدولة عن أدوار الدولة الإقليمية الكبري في المنطقة، واكتفائها بشؤون التركمان. يضاف إلي ذلك أن أدبيات الدولة القومية أوجدت جدار، بل جُدر، فصل ثقافي سميكة وشاهقة علي طول الحدود المشتركة، اعتبرت الحقبة العثمانية حقبة احتلال أجنبي، وعزلت أجيال اليوم عن شريك الأمس.في المقابل، وعلي النقيض، لم يكن علي طول حدود العراق المواجهة لإيران موانع ثقافية، لا بل إن الشريك الفارسي في الحقبة السابقة واصل حضوره علي الساحة العراقية بأشكاله المختلفة؛ الديموغرافية والفقهية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، وظلت إيران علي الدوام الرقم الحاضر الغائب في المعادلة الداخلية العراقية، والعمق الاستراتيجي والروحي المهيمن علي الحوزة وحتي لحظة سقوط بغداد، وهو حضور يطور الخلاف المحلي السني الشيعي، ويختزل فرص الوفاق. يمكن القول أن 9 نيسان 2003 كان استئنافاً للسجال الإقليمي التاريخي علي أرض العراق، ولكن هذه المرة، حرب من طرف واحد يغيب عن حلبتها الطرف المقابل، وكان ذلك اليوم محطة تاريخية هامة في التقويم الصفوي كسبت فيه إيران فصلاً مهماً، قد لا يكون الأخير، في ذاك السجال.لقد كانت أحاديث الماضي العثماني، وحتي عقدين مضيا، غزْلاً علي نول الماضي العربي في فردوس الأندلس الضائع، وشأناً من أدبيات المدرسة الإسلامية التي يفترض تكون قد تجاوزها عصر الدولة القومية، لكن واقع التدهور الخطير الذي يعيشه النظام السياسي العربي، والتسيب السياسي الإقليمي الخطير، وانفراد العولمة بدُوله الواحدة تلو الأخري، استفز القناعات الآيديولوجية في الطيف السياسي العربي، ليدفع هذا المفهوم باتجاه مساحات جديدة من هذا الطيف، وإلي النخبة القومية التي كانت حتي الأمس القريب تفك الوثاق التركي عن معاصم الشعوب العربية. ليس من المبالغة القول: إن حالة من البحث عن إنتماء إقليمي تجتاح الطيف السياسي العربي علي امتداد أحزمته، أمام واقع التردي السياسي والأمني والاقتصادي والضياع الجماعي للمنطقة، وحجم التدمير الذي يمكن أن تلحقه قوة خارجية بالمنطقة أجمع، وحالة العراق مثال علي ذلك.يقول محمد حسنين هيكل في هذا السياق: باتت تركيا وإسرائيل الدولتان الوحيدتان المؤهلتان سياسياً لتزعم المنطقة، وبالرفض الطبيعي للمرشح الإسرائيلي، تكون تركيا هي المؤهلة لزعامة المنطقة واستئناف أدوار تاريخية في حفظ التوازن السياسي الإقليمي.سيكون من السذاجة انتظار حدوث استدارة تركية مفاجئة، جغرافية أو استراتيجية، بمقدار 180 درجة باتجاه جوارها الجنوبي، ولكن في المقابل، فإن الـ لا الأوربية الأخيرة لانضمام تركيا إلي الاتحاد الأوربي، هي في نظر الكثيرين مسألة وقت، ولن تكون تلك الـ لا الضوء الأخضر للشروع بالبحث الجاد عن البدائل، وإنما لاعتماد البدائل التي لابد وأن الدولة التركية منكبة عليها منذ الآن وتعد لها الأوراق. في الوقت نفسه، فإنه ليس من قبيل السباحة في الخيال توقع أن تضع الموازنات الاستراتيجية الدولية الراهنة بين يدي تركيا ونسختها من الإسلام السياسي المعتدل ، ومذهبها السني، أوراقاً مهمة في العالم العربي الإسلامي ذو الغالبية السنية الساحقة، والذي تسبب الفراغ السياسي فيه في إزعاجات أمنية وسياسية متصاعدة للعالم الغربي.وقفة قصيرة للقول: إن هذه القضية كانت وحتي 9 نيسان 2003 أقرب إلي مادة الأراشيف والأكاديميات منها إلي الواقع. لكن مستجدات كبيرة دفعت بها إلي الورشات العملية، منها :1) خارجية: أن أحداث الاحتلال الأمريكي للعراق، والهزة السياسية العنيفة المصاحبة في منطقة هشة سياسياً، وفي ظرف تنهمك فيه شعوب الأرض الأخري في إعادة اصطفافها في كتل سياسية واقتصادية متماسكة تستطيع قول لا وقتما شاءت كما في أمريكا اللاتتينية، وجه لكمة موجعة للدولة القطرية والقومية وأدائها المحلي والإقليمي.2) داخلية: أن سلوك القطاعات الشيعية المتحالفة مع إيران، واستقوائها بالقوات الأجنبية علي شركاء الوطن من السنة، مثّل خروجاً بالخلاف من إطاره المحلي، وانسحاباً بأوضح أشكاله من العقد الوطني، وترخيصاً للسنة المعتدي عليهم للانصراف والتصرف وفق استراتيجيتهم، والبحث عن عمقهم التاريخي الطبيعي وروابطهم الثقافية، وهي أدوار كانوا قد رضوا بإسقاطها لصالح الوحدة والثقافة الوطنية عند تأسيس الدولة الحديثة، وأحرقوا بذلك جسور العودة إلي محيطهم الإقليمي الواسع، وأوقعهم ذلك في تناقضات فكرية وثقافية عديدة مقابل مشروع تثبت لهم الأيام وبعد تسعة عقود أنه كان مشروعاً قصير النظر.لقد قبلت هذه القطاعات النزول في مستنقع الاستراتيجية الصفوية، كما يسميه المفكر الإيراني الراحل الدكتور علي شريعتي، ويعني به الاستعانة بالدول الأجنبية وتأليبها علي خصوم الجوار، وهو علي وجه الدقة ما فعلته إيران ووكلاؤها في العراق في ملف أسلحة الدمار الشامل، وقد أضاف هذا التورط بعداً دولياً للتشيع عند العربي، الذي هو أقرب في واقع الحال إلي حالة التظلم والسخط المحلي، التي لن تستعصي علي الحل في مناخ من التفاهم والانصاف. إن العرب بحاجة إلي أن يكونوا جزءاً من عملية صنع مسارات المستقبل، والاستعداد لتحولات محتملة الوقوع، وإثراء ثقافة إقليمية مشتركة. والمنطقة بحاجة إلي عمود فقري يمكن جسمها الكسيح من النهوض والوقوف علي قدميه، وتكون هذه الثقافة اللحم الذي يكسوه، مثلما كانت ألمانيا العمود الفقري لكتلة الاتحاد الأوربي واقتصادها المتين كسوته. ليس في المنطقة اليوم ـ كما يقول هيكل ـ سوي مرشحين اثنين لزعامتها، فإن تأخر أحدهما ظفر الآخر. لقد عقد عقلاء أوربا العزم علي إقامة تكتل بين شعوبها الخارجة لتوها من حرب دامية، وعلي إخفاء الندب والبثور الثقافية والتاريخية والمذهبية التي تعلو وجه أوربا، والتفوا علي التاريخ بالاقتصاد لتسويغ تكتل يكون قابلاً للحياة.إن شعوب المنطقة بعربها وكردها وتركها، في هذا الظرف من الهشاشة السياسية الإقليمية التي تمر بها منطقتهم، بحاجة إلي إعادة تعريف مفاهيم السيادة والاستقلال فيما بينهم، علي قواعد مشتركة من التاريخ والدين والحضارة. ليس هذا مطلباً صعب المنال، فقد حُملت هذه الشعوب علي ذات الأمر قبل مئة عام فقط، ولكن في الاتجاه المعاكس، بعد أن أمضت 14 قرن من الشراكة السياسية، التي يتفق الجميع علي تسميتها الحضارة العربية الإسلامية .ولا ننسي هنا، أن القطاعات الشيعية المتحالفة مع إيران ومع الاحتلال، كانت قد أعادت لنفسها ولشارعها، تعريف مفاهيم الاستقلال والسيادة والمقاومة، من منظورها الخاص، وبما يستقيم مع حساباتها التاريخية والدينية، ليتمهد الطريق أمام الجيوش الأجنبية ويتحقق المراد وتتكر دورة التاريخ.إن الحديث عن مد الجسور الثقافية بين أوصال المنطقة المقطعة، ليس قضية تخص العرب وحدهم، فالأكراد الذين يريدون استدراك ما فاتهم، وأن تزدهر مدنهم، والمتاجرة مع جوارهم، لا يخدم مصالحهم العيش في جزر ثقافية معزولة، وعلي مفاهيم مؤسسة علي الخصومة مع الجوار، وغنية بمفردات الثأر، فالعواطف، حلوها ومرها، لا تنهض عليها ثقافة، والشعب الكردي بجذوره التاريخية وأدبياته لا يمكن أن تختزل ثقافته وأدبه وأعماله الفنية في أحداث عقود من الزمن. إن جسور الثقافة مع الجوار هي شرايين حياة، فلا أواصر ثقة، ولا طمأنينة ولا استقرار حقيقي مع جار تضمر له ثقافتك الكراهية، حتي وإن اختار ساسة الأكراد في هذه اللحظة من التاريخ الانفلات من المدار الثقافي والحضاري للمنطقة، وفي وقت تتعلق فيه شعوب العالم الأخري بأشباه عري، للالتحام بكتل سياسية مجاورة والتطبع بطباعها خشية الضياع.لن يكون الاعتصام بالعمق الحضاري، في معركة الوجود هذه، من المحظورات، بل هو من الضرورات، ولن يكون تفريطاً بالوطن أكثر مما فعلته فدرالية الدستور العراقي الجديد، التي تمنح الأقاليم حق تجاوز العاصمة، وإقامة العلاقات مع جهات خارجية، والتنقيب عن النفط، وغيرها مما يمس الأمن الاستراتيجي للدولة مساساً مباشراً.كما أنه من غير المفترض أن يثير هذا الاعتصام استهجان المنتصرين في هذه الحرب، فقد كان لهم السبق في إيجاد ضروراتهم التاريخية والمذهبية التي أباحت لهم انتهاك المحظورات، والتي صادفت ضرورات إمبراطورية مارقة أسمها أمريكا، انتهكت بها المحظورات العالمية وغزت دولة مستقلة.إن لمحة سريعة إلي السلم التاريخي للحضارة العربية الإسلامية، تظهر أن حدثاً بالحجم الذي أقدمت عليه أمريكا في العراق يمثل محطة كبري، ويفصل بينه وبين أمثاله من الأحداث قرونــاً، وإن الاعتقاد بحلول فورية لجراحه الغائرة هو خروج علي سنن التاريخ، ولا ينفي هذا الحاجة إلي العلاجات التضميدية الموضعية علي طريق الحلول الدائمة. ليس هذا حلفاً يحيك خيوطه السنة ضد شركاء الوطن من العرب الشيعة، لاسيما وأنهم قد جربوا إيران، واكتشفوا بأنفسهم ماذا يعني في العقيدة الصفوية الشعوبية أن يكون العربي شيعياً ما دام أنه عربي، ولهم في أبناء عمومتهم من عرب الأحواز الشيعة خير مثال. إنه ملف أمــــام كل من يعنيه الأمــــر، لمتغيرات خطيرة تتجه بعكس اتجاه مصلحة المنطقة وهويتها، وشعوب يمضي الوقت لغير صالحها. ومن جهة اخري، ضرورة لاعادة الاصطفاف علي أسس مشتركة، تقيها آثار الهزات السياسية العنيفة، وتؤهلها لنادي الكبار، والتعامل مع الكتل الأخري بالمثل، وتملأ الفراغ السياسي والأمني في هذا المكان المهم من العالم.ہ كاتب من العراق يقيم في بريطانيا[email protected] 8

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية