الرقابة وتداعياتها

في كل عام، ومع بداية موسم معارض الكتب العربية، الذي ينتظره الكُتّاب والقراء في كل البلاد العربية، على حد سواء، ينتشر اللغط هنا وهناك، وتكثر الشكوى من منع الكتب من العرض، الذي تفعله كثير من رقابات تلك المعارض، وبالتالي حرمان الكاتب من جمهور ربما يكون عريضا وينتظر نتاجه الجديد بشغف، وأيضا حرمان القارئ من كتب سمع بصدورها وظل يترقبها، حتى يضيفها لمكتبته ولوائح قراءاته.
هذا اللغط المثار يظل مشتعلا، خاصة في مواقع التواصل الاجتماعي، التي يمكنك أن تثير فيها أي لغط، وتجد من يؤججه، سيكتب الروائي الممنوع من المعرض: كتبي ممنوعة يا أصدقاء، وسيأتي من يواسيه ومن ينتصر له بالكلام الإنشائي، ومن يضع علامة إعجاب على منشوره، لا تدري منها، إن كان مع المنع أو ضده، والمحصلة لا شيء يذكر، الكتاب الذي تمنعه الرقابة من العرض في أي بلد، سيظل ممنوعا حتى تنتهي فترة المعرض، ويرحل الناشر عائدا بالنسخ التي كانت محجوزة، ويفرج عنها لتعود من حيث أتت، والكاتب الذي منع كتابه سيظل يردد ما لا يعود على أحد بفائدة.
أنا من الذين لا يحبون الرقابات، في الحقيقة يتوجسون من عملها، خاصة إن ضمت تلك الرقابات موظفين إداريين لا علاقة لهم بالآداب والفنون، وقد لا يفرقون بين التوظيف الجيد للأشياء، والتوظيف الرديء لها، وتغويهم أو تزيد انفعالهم عبارات معينة ربما كانت بلا أي ضرر، فيسرعون مثلا إلى تكبيل أي كتاب ضم في عنوانه كلمات مثل: شغف واشتهاء، وقبلات، وأيضا يرجمون الكتب التي يبدأون في قراءتها بمجرد أن يصطدموا بموقف حميم بين حبيبين، حتى لو كان غير بذيء أو مؤذ للمشاعر، وأي نقاش حول الدين حتى لو كان في صالح الدين نفسه، لأن كثيرا من النقاشات، تفتح باب الاجتهاد الذي هو من أبواب المعرفة في الشأن الديني.

الرقابة الناشطة في منع الكتب لا تختص بكتاب معينين كما يلوح بعض الكتاب، ويقولون بأنهم مقصودون من الجهات الرقابية، وأنها تمنع إنتاجهم من التداول، لصالح إنتاج آخرين.

وأظن لا ضير من أن يقرأ الشخص حتى الكتب التي يؤلفها أعداء الأخلاق والدين، كي يعرف عدتهم وعتادهم وبالتالي يمكنه الرد، هذا أسلم كثيرا من الجهل بالأشياء، وحظرها لمجرد أنها لامست أو اقتربت من أشياء تعد حتى الآن محظورات.
إلى عهد قريب كانت السياسة مضمارا ممنوعا الركض فيه للكتاب، وأي كاتب يتعرض لسياسة بلاده، سواء كان ذلك في مقال عادي أو داخل عمل إبداعي، تتم معاقبته فورا، تصادر نسخ كتابه، وقد يدخل السجن، أو تصادر هويته. ومع اندلاع ثورات الربيع العربي منذ سنوات، واستهزائها بزعامات كانت تعتبر خطوطا حمرا، ودحرها، وعودة الديمقراطية في تلك البلاد، لم يعد أحد يتلفت وهو يحكي سياسيا، ولم يعد الكاتب الذي يصرح أو يهمس بأشياء سياسية، خائفا من أن يتداول الناس ما أنتجه، لكن على الرغم من ذلك كله، ستعتبر الكتب التي على هذه الشاكلة، كتبا ممنوعة في بعض معارض الكتب، الرقيب الذي بلا مساحة تفكير معقولة في أفقه، لن يتحمل أي صداع قد يأتي من وراء كتاب يقوم بإجازته، هو يستدعي الحل الأسهل: منع الكتاب وينتهي الأمر.
أيضا من المهم أن نذكر، أن الرقابة الناشطة في منع الكتب لا تختص بكتاب معينين كما يلوح بعض الكتاب، ويقولون بأنهم مقصودون من الجهات الرقابية، وأنها تمنع إنتاجهم من التداول، لصالح إنتاج آخرين. هذا خطأ بالفعل لأن الرقيب بالمواصفات التي ذكرتها، وهي السائدة في تعيين الرقباء، لا يكون يعرف الكتاب أصلا، ولا يكون اطلع على إنتاجهم كقارئ عادي من قبل، هو موظف يحمل في ذهنه مواصفات معينة للكتابة لن يحيد عنها، سيقوم بتطبيقها على مؤلفات ماركيز ويوسا وعلاء الأسواني، وتاج السر وأي كاتب آخر معروفا كان أو مغمورا، وبالتالي ستتساوى «مئة عام من العزلة» بكل ما فيها من زخم إبداعي عريض، برواية من تسعين صفحة كتبها شاب صغير، يكتب لأول مرة.
القارئ غير المتفهم نفسه قد يقوم بالمساهمة في حث الرقابة على تطويق الإبداع، وفرض تلك السيطرة المزعجة على ما يكتب، هو قارئ، ربما لكن بأفق منغلق بعض الشيء، وقادم للقراءة يحمل في عقله مسلمات يعتبر أنها غير قابلة للاقتراب منها، وأحيانا هناك أشياء مضحكة، تجد القراء يكتبونها في مراجعاتهم، ويحتار الكاتب من قارئ كهذا، يسعى بنفسه لاصطياد الرقابة وتمكينها من العمل، وأذكر أن قارئا كتب مرة عن رواية لي بأنها تحتوي على عبارات خادشة للحياء العام، وقام بذكر تلك العبارات أو الجمل التي هي بالتحديد: رحم الأم، ،كشف الشعر أمام المرآة، وضعت ساقيها في كعب عال. بالطبع كانت جملا أقل من عادية، واستغربت فعلا، أن يعتبر ذكر الرحم عيبا وخادشا للحياء العام، وكشف شعر المرأة أمام المرآة، في نص روائي، يثير تلك البلبلة القرائية، ولن أستغرب إذن إن كان ثمة رقيب فعل ما فعله القارئ الذي من المفترض أن يكون أوسع أفقا وأكثر ثقافة، لأن لا أحد فرض عليه القراءة، هو اختار أن يقرأ بمحض إرادته.
ربما كان معرض الكويت للكتاب، هو الأكثر تأطيرا لمسألة الرقابة، وأعتقد أن رقابته غريبة بعض الشيء، وليس لديها طريق واضح يمكننا أن نعرفه، ففي حين يمكنك أن تعثر على كتاب فيه كل الممنوعات التي حرمت على الكتابة، لا تجد كتابا مستقيما، وطيبا، وعالي الأخلاق، لا أعرف إن كان الأمر خاضعا للمزاج، أم هكذا بلا أي قاعدة، وسيظل سؤالي مطروحا دائما لأن الكويت بالذات من البلاد التي اشتعلت تحضرا منذ زمن ليس بالقليل، فيها نهضة حضارية كبيرة، وكتاب رائعون جدا، وقراء مستنيرون، وبالتالي لا يبدو المعرض بصورته التي تغيب معظم الكتب المهمة، سواء كانت إبداعية أو غير إبداعية، ملائما لتلك الاستنارة.
شيء أخير، وهو الرقابة الداخلية لدى الكاتب، فالكاتب المتمرس يعرف جيدا كيف يكتب، وكيف يوظف ما لا يوظف بطريقة لن تؤذي أحدا ولن تجرح مشاعر أحد.

٭ كاتب سوداني

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول ثائر القدسي:

    (شيء أخير، وهو الرقابة الداخلية لدى الكاتب، فالكاتب المتمرس يعرف جيدا كيف يكتب، وكيف يوظف ما لا يوظف بطريقة لن تؤذي أحدا ولن تجرح مشاعر أحد) …
    وماذا يختلف هذا القول المعاد عن قول السفاح حافظ الأسد الذي صرع الدنيا قبل موته وهو وإعلامه يطنطنون به على مدى أكثر من ثلاثين عاما … (لا رقابة على الفكر سوى رقابة الضمير) ؟؟؟؟؟؟

إشترك في قائمتنا البريدية