كثيرا ما نتساءل، أو على الأقل، نعبر عما يشبه الاستغراب، حول هذه المسافة التي تزداد عمقا مثل الجرح، بين المعرفة الأدبية واستثمار تلك المعرفة في الوعي الجماعي، والسلوك الفردي، أو حاجة المجتمع للأدب وللفنون بشكل عام.
غالبا ما نبحث في أجوبة، قد تبتعد بنا عن جوهر المشكل، ونترك موطن الخلل الذي يجعل المعرفة الأدبية عبارة عن مجرد درس تعليمي، يتوقف عن التأثير باجتياز الامتحان، أو دراسة نقدية، تجتهد في تطويع النظريات لتتماشى مع النص الأدبي. وهو تعامل أنتج –بدوره- تصورا حول معنى الأدب باعتباره خطابا جماليا وبلاغيا ورمزيا، ليس بإمكانه أن يقدم للإنسان غير المتعة الفنية، واللغوية، ويتيح له السفر في المتخيل بدون إكراهات الواقع. ولهذا، ارتبط لدى الكثيرين بمفهوم الهروب من الواقع تارة، والرومانسية تارة أخرى، كما انعكس هذا المعنى أو التصور على وضعية الأدباء في المجتمع.
عندما ننظر في وضعية الأدب في الدرس التعليمي والجامعي، سنجده يقف عند حدود مفهوم الخطاب. ونقصد به اهتمام الدرس التعليمي بما يسمى بأدبية الأدب، أي ما يجعل من عمل ما عملا أدبيا، كما عبَرت عنه المدرسة الشكلانية. مقاربة منهجية تنشغل بسؤال التفكيك، وإعادة البناء دون إقامة جسر وظيفي بين المعرفة الأدبية والمجتمع، أو بتعبير أدق، لا تحفز طريقة الدرس التعليمي على جعل قراءة المعرفة الأدبية إمكانية منفتحة على ماهو ثقافي واجتماعي وفكري. تدريس الأدب يظل – في أغلب مناهجه- مرتبطا برؤية توجيهية في علاقة بنظرية نقدية، أو منهج أدبي، أو منفعية تتحدد في اجتياز الامتحان، دون أن ترقى الطريقة البيداغوجية إلى تقديم الدرس الأدبي باعتباره شرطا معرفيا لتطوير الحياة والسلوك والتفكير. لا يعني هذا الأمر، تحويل الأدب إلى حاجة اجتماعية مباشرة، وإنما، قراءة الأدب وتحليل خطابه، تدربنا على ثقافة الإحساس بالحياة، وبالأشياء. وتمنحنا إمكانيات متعددة لإدراك سلوكنا الاجتماعي، وطريقة تفكيرنا. لأن المعرفة كيفما كان نوعها ( والأدب منها) تبدأ موضوعا للاشتغال، وبمجرد تفكيكها، والنظر في فلسفتها وأسئلتها، وجعلها امتدادا للحياة والمجتمع، فإنها تتحول – بدورها- إلى أداة للتفكير في موضوعات أخرى. لكن، أهم موضوع تبدأ به المعرفة الأدبية حين تنتقل من الموضوع إلى الأداة هو « نحن»، أو الأنا الجماعية أو الفردية، لأنها تًحوَلنا إلى موضوعات للتأمل. وتتجلى طبيعة هذا الانتقال من الموضوع إلى الأداة في كيفية تأثير الأدب فينا، وفي وجداننا، ولغتنا، وإحساسنا بالأشياء والطبيعة. بقدر سعة متخيلنا، ننجز الصور والتصورات، ويغتني فعلنا الإنساني. الأدب ليس مجرد بناء لغوي رمزي، وليس فقط عبارة عن حكاية مسرودة، إنما هو قبل كل شيء إمكانية لإدراك وجودنا. الشعوب التي تفتقر للتخييل، شعوب هاربة من المستقبل.
كما أن النقد عندما حوَل اهتمامه من الأدب باعتباره الموضوع المحوري للتفكير إلى التركيز على المرجعيات النظرية، والمناهج الأدبية، فإنه أخلَ بالدور الجوهري للنقد، وعندما انتقل بالمراجع النظرية من مجرد عيون مفاهيمية ومعرفية وثقافية نرى بها النص، ومفاتيح ندخل بواسطتها إلى العوالم المتشابكة للنص، ووسائط منهجية إلى موضوع أساسي في الدرس الأدبي، جاعلا ـ إما باندهاش بالنظريات أو بغير وعي- من النص الأدبي وسيطا لتبرير المرجعية النظرية، فإنه قد عرَض الأدب إلى انحرافات، أخلَت بعلاقته الاجتماعية والحياتية.
في مناسبة ثقافية ذات يوم، بإحدى الملتقيات الثقافية عبَر المبدع المغربي «أحمد بوزفور» عن فكرة وجدتها، يومها فكرة مبدعة وخلاقة، لأن لها علاقة بمعنى وجود الأدب في سلوك تفكيرنا، وطريقة قراءتنا للأدب نفسه. قال فيما معناه أن قراءة النصوص الأدبية، ومنها القصصية يجب أن تعتمد الأدب مرجعا، وليس فقط اعتماد الكتب النظرية والتنظيرية والنقدية مراجع للقراءة، عندما نقرأ النص الأدبي، يجب أن نقرأه بمرجعيات أدبية- نصية. فكرة غنية بالدلالات، ومكثفة بالرسائل المعرفية التي تبعث بها من أجل إنتاج ما أسميه بالقراءة المبدعة. من بين هذه الرسائل أن الأدب لا يعتمد فقط عند تحليله المراجع النظرية، والمناهج الأدبية، إنما يحتاج إلى الأدب نفسه، وهذا يتطلب ناقدا قارئا للنصوص، وليس فقط ناقد تقني تنظيري يتابع ظهور النظريات، فيرى/ يقرأ بها الأدب. أما الرسالة الثانية، فهي ضرورة حضور الأدب باعتباره مكونا ذاتيا، به نرى الأشياء، ونقرأ المواضيع، ونقيم مقارنات. الأدب حاجة وضرورة ثقافية واجتماعية. وهذا ما عبَر عنه أيضا الشاعر والباحث المغربي «محمد بنيس»، لكن بطريقة مختلفة، إنما تصب في نفس المعنى، وهو التأكيد على الأدب باعتباره ضرورة وجودية، أو ما سماه ب» الحق في الشعر» وحمل عنوان كتابه الصادر سنة 2007. والذي دافع فيه بنيس عن ضرورة الشعر بالنسبة للبشر. معتبرا كتابه « الحق في الشعر» في حوار أجري معه مؤخرا « كتاب نظري فكري، يخص الشعر في علاقته بالمعرفة والزمن على السواء، ويتوجه نحو حوار مفتوح على النقد والسؤال، من أجل إعطاء الشعر حقا في الاستمرار بيننا وفي نفوسنا».
ما يدفعنا لإعادة طرح السؤال حول دور الأدب في حياتنا، وعلاقته بالمجتمع، والنظر في عناصر خلل هذه العلاقة، هو ما نعيشه عربيا اليوم، من ملابسات وفوضى في المفاهيم ودلالاتها، وهيمنة للعنف سلوكا ولغة وخطابا، وتراجعا في قيم المحبة والسلم، وهي كلها مواصفات قد تلقي بالضوء على وضعية الوجدان الإنساني الذي يحتاج إلى امتلاء روحي وجمالي تمنحه إياه مختلف أشكال التعبير من فنون وآداب وإبداعات. إن مختلف أشكال التعبير من فنون وآداب وتعبيرات إبداعية متعددة الأشكال لها دور جوهري في توجيه الذوق العام، وتحصين الروح من العبث، والإحساس من الذبول، الأدب يوجه أفق الشعوب، وليست السياسة وحدها من تحمل شعار التغيير والتنمية.
عندما نغير طريقة تدريسنا للأدب، وونرقى بنقدنا وقراءتنا للأدب، ونؤمن بدور الأدب في التنمية الذاتية، والاجتماعية، عندها يصبح للأدب شرعية حياتية اجتماعية، ويتحول الأدب إلى مطلب في البرامج الحزبية، وتنفتح الفضائيات والإعلام بكل أشكاله على الأدب، ويصبح الاهتمام بالأدباء إعلاميا وسياسيا اهتماما بشروط التنمية والتغيير الحضاري. إلى ذلك الحين، سنستمر في الحلم، وكتابة الأدب وقراءته باعتباره حقا رمزيا، في انتظار أن يتحول إلى حق اجتماعي-ثقافي، سنظل نحلم بذلك، لعل يوما يأتي، ويرقى بالأدب وبالأدباء وبالفعل الإبداعي.
ما الحاجة إلى الأدب؟ وهل هو ضرورة ثقافية واجتماعية؟ وهل نستطيع أن نتخيل وجودا إنسانيا بدون الأدب إنتاجا وقراءة؟ كيف سيصبح العالم، وكيف سيصبح وجدان الإنسان، ولغته، وإدراكاته للأشياء والعالم وذاته، إذا ما انتصر الواقع الثقافي الجديد لتغييب الأدب، وتعويضه بممارسة رمزية جديدة؟ . لنتأمل جواب المفكر المغربي» عبد الله العروي» حول نفس الأسئلة تقريبا، يقول: «لماذا أكتب روايات؟ يعني هل هناك ضرورة؟، هناك فعلا ضرورة لأنني أحس أن هناك مشاكل أتناولها بالتحليل المبني على العقل، أكان في مجال الإيديولوجيات، أو في ميدان البحث التاريخي. ولكن هناك أيضا مظاهر في الحياة لا تخضع لقوانين العقل. أولا حين أريد أن أخضعها للعقل لا أتمكن من ذلك، ثم من ناحية أخرى لا أرغب أن أدخل فيها مشاكل العقل لأنها إحساسات، صعود مباشر للأشياء.»(الكرمل، 1984، ص 170).
كاتبة مغربية
زهور كرام
في اعتقادي الشخصي …أن العلاقة بين الأدب بجميع أجناسه والمجتمع …ليست حاجة بقدر ما هي حالة أو أحوال ….الحاجة توجب أن أحد الطرفين ينتظر الآخر ..مستعد لتناول ما يريده …أو لنقل : ينتظر منه شيئاً يؤمله ….أنا لست ضد الأدباء ..ولكن حالة مجتمعنا العربي لم تعد تسمح له أو لم تعد تجعله قادراً على الانصات جيداً لما يقوله الأدب الحديث ….لماذا ؟ لأنّ الادباء الجدد وضعوا أنفسهم في زاوية جعلت منهم إما مترفعين يتكلمون من الابراج العاجية …أم مستمسكين بمبادئهم الحزبية …أعني الحزبية الضيقة …وأحياناً التأثر الجاهز بالأفكار الورادة من الغرب بعض النظر عن صلاحيتها للاستهلاك العربي أم عدم جدواها …أضف إلى ذلك الثقافة الرقمية في عصر التقانة …وتداعيات وسائل لإعلام …والاتصال الحديثة …حيث أن العلاقة بين المجتمع والأدباء والتي كانت تسير في القدم على خطوات ثابتة ومستقرة أصبحت تواجه ما تواجهه اليوم …بما نمثله من أن المجتمع العربي غدا يتناول ما يريده من الموجهات الجديدة ويرصد التحولات والاختلافات …وربما المعاناة من هذه الموجهات …دون أن ينتظر من الأدباء شيئاً …في اعتقادي هنا يكمن القصور في الادباء العرب الجدد …فهذه الجفوة أو الهوة …أو الهنة ..ليس المسؤول عنها المجتمع بقدر ما هي من مسؤولية الأدب …يضاف إلى كل ما تقدم :زعزعة ثقة المجتمع بما يقوله الأدب إذ إنه ملّ الأقوال …والدوران البهلواني الذي يمارسه بعض الأدباء
مقاربة ثاقبة للادب ونقده ..وما قاله بوزفور يندرج في باب التناص الذي تحول الى نقاش حول تقنياته اكثر من الحفر في النص وربط الصلة بالانسان والمجتمع ..
بسماللهالرحمان الرحيم وبالله نستعين , وبعد .
الأدب رسالة يؤديها الكاتب الأديب تجاه مجتمع متعدد الثقافات والمشاعر والأراء والأفكار , رسالة تنبض بالحس الانساني تجاه فكرة ما , موضوع ما يلامس الواقع والمشاعر والخيال ويرقىبالحياة إلى العلوفي الاحساس والتأثير والقدرة على التعبير جميلة تثير إحساس القارئ وتشدها إليه بجمالية اللغة وجمالية المضوع وحسن التعبير ,وبذلك يكون اللكاتب الأديب قد حقق الغرض الذى سعى إليه وهو اقناع المتلقي وإمتاعه وتأثره بما يقرأ .
ليس المهم أن يملك الكاتب الأديب الكلمات والجمل عالية النبرة , بل قد يعبر عن فكرته وموضوعه بإسلوب بسيط يلامس وعي المتلقي ويثير فيه الاعجاب والتأثير أكثر من الكاتب الأديب الذي يكتب بنبرة عالية وجمل رصينة , قد تكون قليلة التأثيرومفرغة من المضمون وغير قادرة على إقناع المتلقي .
وكما تقولين : ” قراءة الأدب وتحليل خطابه تدربنا على ثقافة الاحساس بالحياة وبالأشياء , وتمنحنا إمكانيات متعددة لادراك سلوكنا الاجتماعي وطريقة تفكيرنا “