أعاد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في بيانه الصادر يوم 20 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، الذي حمل عنوان شعاره الانتخابي وهو «أمريكا أولا»، التأكيد على ما نعرفه جميعا، وهو أن العالم «مكان خطير» مكررا المقولة نفسها في نهاية البيان بوصفها المبرر الأساسي وراء موقفه بوصفه رئيسا في»عالم خطير جدا»، عليه أن يضمن المصالح الأمريكية ويواجه الدول التي تعرضها للخطر تحت الشعار الكبير «أمريكا أولا».
جاء مضمون البيان متسقا مع كل تناقضات ترامب التي ظهرت بعد اختفاء الصحافي السعودي جمال خاشقجي، وصولا إلى التأكد من تعرضه للقتل في قنصلية بلاده في تركيا، كما جاء متسقا مع شخصية ترامب نفسها، التي تبدو شبيهة منذ اللحظات الأولى بغيرها من الشخصيات في عالمنا، وإن اتسمت، على عكس الوضع لدينا وفي عالم السياسية، بصراحة إحراج الآخرين، عبر الإعلان عما يقال في الغرف المغلقة، أو الربط المباشر بين سياسات ومواقف تلك الدول ومطالبه المباشرة بشكل يضع تلك المواقف في مكانها الحقيقي بوصفها استجابة لمطالبه وتجاوزا عن الأحاديث الداخلية عن السيادة الوطنية التي لا تمس في تلك الدول، ووسيلة في الوقت نفسه لترويج ترامب داخليا.
لكن على هامش كل تلك الأمور المكررة، التي صدمت البعض، بتصور أن مواقف ترامب سوف تتسق مع ضغوط المؤسسات الأمريكية والإعلام خارج البيت الأبيض، إلا أنها أعادت إلى الواجهة حديثا يتشابه مع حديث الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن عن «محور الشر»، وأحاديث أخرى في مصر عن «أهل الشر»، واعتبرت بشكل واضح أن «أمريكا أولا» في معناها المتجرد من القيم يكتسب مبررا أساسيا لهذا التحرر الأخلاقي المفترض، لأن العالم ببساطة مكان خطير أو شرير، كما انتشر في العديد من التغطيات التي تناولت بيان ترامب بوصفه انتهاكا للقيم الأمريكية.
وبعيدا عن أحاديث مثالية عن القيم في عالم السياسات الواقعية، وكيف أن هناك هامشا بين القيم والمصالح تحاول بعض الدول الحفاظ عليه، تجاوز ترامب عن الكثير من الأمور في بيانه، وتجاوز بعقلية رجل الأعمال الذي يقدم نفسه بوصفه صاحب الإنجازات المالية، القادر على إتمام صفقات صعبة والخروج منتصرا مهما كانت سياساته ومواقفه مناقضة للدبلوماسية والمواقف الدولية، وحتى السياسات الأمريكية المعلنة في ما سبقه، وخارج إدارته أو داخلها أحيانا، ولكن أبرز ما تجاوزه هو حقيقة الاختلاف بين حالة الشر في العالم التي يمكن أن نتحدث عنها على مستويات متعددة، وسلوك وسياسات الدول المختلف كليا في مواجهة تلك الحالة.
الدول لا يفترض أن تكون أداة للشر، ولا يفترض أن تتجاوز عن القانون، بقدر ما يفترض أن تلتزم به وتفرض احترامه وتحاكم على أساسه. ولا يتصور أن تبرر التجاوز عن القتل والقمع بمقولة بسيطة مثل، أن العالم خطير، وكأن البشر يمكن لهم اللجوء إلى استخدام العنف بشكل متزايد أيضا، لأن العالم مكان خطير.
في الوقت نفسه فإن التوسع في مفهوم قبول الشر، لأنه جزء من الواقع العالمي «الخطير»، يؤسس لوضع أكثر خطورة، ويصبح علينا تصور عالم تساهم فيه الدول والأفراد في الرد على حالة الخطر بالمزيد من العنف، باسم حماية المصلحة الذاتية مهما كانت القيم التي تتجاوزها، مولدا مرحلة أكثر خطورة في دائرية الشر الذي لا ينتهي ويتولد من بعضه ويتغذى على بعضه.
ما يقوله بيان ترامب، وغيره من الشخصيات المتشابهة في الإطار الفكري المقدم في إدارة الدول، إن العالم خطير، بشكل يبرر تحول كل طرف إلى خارج عن القانون بشكل ما، من أجل ما يفترض أنه حماية مصالحه. نقطة تصطدم سريعا مع تقرير حكومي أمريكي يؤكد على ضخامة الخسائر المحتملة، بسبب تغير المناخ على الولايات المتحدة نفسها، وكيف تتناقض تلك الخسائر التي ستصل إلى مئات مليارات الدولارات سنويا، مع موقف ترامب من اتفاقية باريس لعام 2015 لمكافحة تغير المناخ، التي رفضها واعتبرها مضرة بالاقتصاد الأمريكي. يتصور ترامب أن ممارسة الشر أو قبوله، والاستفادة من حالة القبول، بالحصول على مكاسب مادية أمرا طبيعيا، لأن العالم شرير، ومن شأن ممارسة الشر أو السماح بممارسته خارج الحدود أن يساهم في حماية الداخل الأمريكي، وكأن العالم يمكن أن ينعزل بشكل جامد بقرارات أو أسوار، رغم أن الخطر لا يعبر عن نفسه دوما في صورة عنف مادي أو سياسات مضادة، ولكن في تلوث بيئي لا يعرف حدودا، ولا يمكن أن يقتصر على مكان، وفي أمراض وتدهور اقتصادي يتضخم أثره مثل كرة الثلج، وتنعكس على الجميع، كما حدث في صدمات اقتصادية وانتشار أمراض سابقة، وهجرة ولدها عنف نظم وجماعات، لم يتم الوقوف ضده أو منع تسليحه. الشر الذي يظهر في أحاديث الأفراد، والذي يحضر في التعليق على جرائم معينة، وتزايد العنف الذي يعلن عن نفسه في تعاملات تبدو عادية تنتهي إلى قتل الخطيب السابق لخطيبته في مصر، أو السيدة المغربية لصديقها في الإمارات، وغيرها من صور العنف التي تظهر فجأة من شخصيات عادية، يظل شرا، ولكنه جزء من شر أكبر تمارسه دول ومؤسسات ومنظمات رسمية وغير رسمية تقوم بقذف الأطفال ودور العبادة، وإدخال بعض الدول في دوامات الفقر والجوع والمرض الذي يتحول إلى كارثة إنسانية لا يعوضها أن يقوم من يقذف تلك القنابل أو يمولها بإرسال بعض المساعدات الإنسانية للضحايا.
يبدو العالم مكانا شريرا حقا عندما تتجاوز الدول القانون، وبدلا من أن تكون السلطة الرسمية مسؤولة عن حماية الدستور والقانون داخليا والالتزام بمبادئ القانون الدولي والاتفاقات المنظمة لحقوق الأفراد وغيرها داخليا وخارجيا، تتحول إلى طرف في الصراع على زيادة الإحساس بالخوف، أو تعديل الدستور من أجل البقاء، والتركيز على تعظيم فكرة خطر العالم، من أجل تبرير الوجود والضرورة الحتمية للاستمرار. ربما يقول البعض، كما قال ترامب ويقول غيره، إننا نرد على الشر بالشر، ولكن تظل الأمثلة حاضرة لتلك الحالات التي تعاملت فيها الدول منفردة باسم مصالحها الخاصة، ومواجهة شر حاضر أو محتمل من أطراف أخرى، ولكنها لم تحقق أمانا ولم تتحول إلا إلى دائرة من دوائر المعاناة. يقول ترامب بوضوح ما يفعله ويقوله غيره بدون وضوح أحيانا، وخلف الأبواب المغلقة وبشكل غير مباشر في الكثير من الأحيان، ولكنه بهذه العلانية نفسها يزيد حالة الخطر والشر التي يعيشها العالم، ويؤكد على أن تسعير العنف والقبول بالانتهاكات التي تبدو بعيدة لأنها، بحسابات رجل الأعمال، تساهم في إضعاف الآخر وتعظيم المنافع المادية تساهم في التأكيد على أن كل عنف له ثمن، وأن هناك إمكانية لتمرير القمع والقتل بكل صوره، داخل الحدود وخارجها، ما دامت لا تمس مواطن يحمل جنسية تلك الدول الغربية نفسها، وتضخ المزيد من الأموال في الاقتصاد الأمريكي من أجل شعبية السلطة في اللحظة.
يتصور البعض أن الشر بعيد ما دام يتعرض له آخر، مثل مخاطر الاحتباس الحراري والأمراض، ولكن الواقع يقول العكس في اللحظة وبلغة الأرقام نفسها، التي تتحدث عن خسائر مادية ناهيك عن الخسائر الإنسانية التي تساهم في زيادة الخطر في العالم الذي يتحول إلى ساحة منافسة بين قوى ترى أن النار يرد عليها بالنار، وأن بيع السلاح مبرر، لأن شخصا ما سوف يقوم ببيعه في النهاية بدون ان تركز على الجانب الآخر من الصورة، الذي تتعهد فيه دول بخفض بيع السلاح، أو التوقف تماما عن بيعه للدول التي تستخدمه ضد المدنيين، وكيف أن جهودا مثل تلك تحمل رسالة بضرورة توقف النار، وألا يكون تمويل اقتصاد طرف ما على حساب حياة أطراف أخرى. ويتجاوز أن مثل تلك التحركات من شأنها أن تساهم في إطفاء النار، أو على الأقل عدم توفير المزيد من الدعم للنار القائمة التي تزيد الخطر، وليس العكس ومعها الفقر والأمراض والمعاناة في اللحظة والمستقبل.
يقول أفلاطون «أغلب الناس عند السلطة يصيرون أشرارا»، وهو جزء من حديث زيادة المخاطر على ما يبدو من ترامب الذي أشار في تغريدة سابقة عن رغبته في تجربة حكم ممتد على الطريقة الصينية، إلى أحاديث مصرية على طريقة التسريبات الاستباقية من أجل إعداد الرأي العام وفرض أجندة تعديل الدستور وإنشاء مجلس حماية للدستور المعدل لبقاء السلطة في موقعها إلى أجل غير محدد، ولكن أفلاطون نفسه يقول أيضا «إن أكبر شر عدا الظلم هو إلا يدفع الظالم ثمن ظلمه»، وهو الظلم الذي تمارسه السلطة ليصبح شر السلطة أكثر تعقيدا، وهو يتسبب في خطر مضاعف وانعكاسات أكثر سلبية، في وقت يحاسب المظلوم أحيانا ويفر الظالم.
ولهذا جاء قرار الاتحاد الأوروبي باستمرار مصادرة أموال الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، مثيرا لتعليقات كثيرة وكأنه لحظة استفاقة وسط أخطبوط المشاكل وعالم العبث، ويعيد إلى الواجهة فكرة طرحت منذ محاكمة القرن بكل تفاصيلها مقابل غيرها من المحاكمات والاعتقالات، حول كيف يمكن أن تمر المحاسبة في لحظة حتى يأتي من يذكر الجميع بأن الملفات لم تغلق، وأن الكلمة ليست دوما نهائية في قاعات المحاكم عندما تكون السياسة حاضرة والثورة متهمة والوطن ضحية وتكون كتابة التاريخ جزءا من تلك التفاصيل المختلطة.
يظل الظلم والشر حاضرين في العالم، ولكن ما يحدث في ظل الأوضاع القائمة أن الدول تمارس دورا أكبر في ارتكاب الظلم وتمريره أو غض الطرف عنه مقابل مصالح مادية لحظية وأوراق إضافية في توازنات سياسية، وكأن الموت والمعاناة مشهد في مسلسل يمكن أن تتجاوزه بمجرد انتهاء المشاهدة أو تغيير المحطة التي تتابعها ما دام هناك من يدفع مقابل تمرير الظلم، وما دامت القنوات متعددة في عالم يحكمه المال وعقلية رجال الإعمال في الحكم والسياسة.
*كاتبة مصرية