إلى “بريكست” عن طريق الخداع… سراب الديمقراطية في الغرب!

حجم الخط
4

لا صوت يعلو هذه الأيّام في لندن، وما حولها على صوت قرقعة “البريكست”، أي مسألة تنفيذ قرار بريطانيا العظمى – سابقاً – بفك ارتباطها بالبرّ الأوروبي والتوافق على تفاصيل الهروب الكبير من تحت عباءة بروكسل – مقر المفوضيّة الأوروبيّة -.
ففي الوقت الذي تعيش غالبية البريطانيين ظروف انكماش اقتصادي وسياسات تقشف قاسية فرضتها نخبتهم لإنقاذ مصالح البنوك الكبرى، التي كادت قبل عقد من السنين أن تنهار وتأخذ النظام الاقتصادي العالمي برمته معها إلى قلب ثقب أسود كبير، وبينما يتزايد عدد المواطنين الذين يرزحون تحت أعباء الديون، ويعاني ملايين الأطفال من سوء التغذية ويضطر الكثيرون الالتجاء الذليل إلى بنوك الطعام المجانيّة وتتردى الخدمات العامة دون مستوى مثيلاتها في دول الشمال الغنيّة ويفترش الطرقات عدد قياسي من المشردين، لدرجة أن الأمم المتحدة أصدرت تقريراً – ربما لم يصدر مثله من قبل بشأن دولة أوروبيّة – يقرّع فيه إدارة الحكومة البريطانيّة لشوؤن مواطنيها.
في هذا الوقت تتلهى النخبة البريطانيّة الحاكمة بصراعاتها حول تنفيذ قرار متسرّع لُفّق تلفيقاً للخروج من الاتحاد الأوروبي، تتفق جلّ التقييمات على أنّه بغض النّظر عن آليته – طلاقاً وديّاً أو خُلعاً عدائياً – سيكون بمثابة كارثة اقتصاديّة وثقافيّة واجتماعيّة على البلاد، ربما لن يمكنها التعافي منها خلال عدة عقود قادمة.
النخبة البريطانيّة الحاكمة، التي أخذتها العزّة بالإثم، وتدفعها ذكريات العظمة الإمبراطوريّة – التي كانت يوماً سيّدة الكوكب قبل غروب الشمس عنها – إلى اعتداد قاتل بالنفس، رغم أن العالم وبشكل متزايد يراها على حقيقتها: جزيرة متقاعدة صغيرة معزولة تعيش من ريع السياحة النوستالجيّة وبقايا الفلولكلور الملكي وعوائد التجارة بأموال أثرياء العالم الثالث المشبوهة.
وهي استندت في بهلوانياتها هذه التي سمّاها الإعلام حينها بالبريكست على شرعيّة مستلّة من استفتاء شعبي أجرته الحكومة قبل أقل من ثلاث سنوات – مدفوعة بمصالح انتخابيّة ضيقة لحزب المحافظين الحاكم – كان انتهى إلى تقدّم طفيف بأقل من 2 % للطرف الذي يريد الخروج من الاتحاد.
فكيف انتهت تلك الغالبيّة البسيطة من البريطانيين العاديين إذن إلى مجاراة النخبة في ألعابها الخطرة والتصويت ضد مصلحتها وعلى حساب أجيالها القادمة؟

فتش عن الشاشات

عديد من الإعلاميين والمثقفين البريطانيين الكبار، يتحدثون وبصوت مرتفع عن دور مشبوه ومنحاز لعبته التلفزيونات البريطانيّة خلال مرحلة الحملات الدعائيّة التي سبقت الاستفتاء العتيد وتسببت على نحو أو آخر في خداع قطاع واسع من المواطنين العاديين الذين لا يعرف كثير منهم شيئاً عن الاتحاد الأوروبي أو السياسة أو الاستراتيجيا ويكتفون بمتابعة صراعات نساء القصر الملكي على النفوذ والاستعراض المفتعل أمام الكاميرات.
جون سيمبسون، الإعلامي المرموق، وكذلك روبرت بيستون، المحرر السياسي لـ (آي تي في – القناة التلفزيونيّة الخاصة الأولى في البلاد) انضما مؤخراً لكتلة متزايدة من منتقدي آداء تلفزيونات أمّة البقالين – كما كان يصفهم نابليون – واتهما بصراحة قاسية الـ”بي بي سي” وبقية الشاشات البريطانيّة (سكاي، والقناة الرابعة والقناة الخامسة والآي تي في) بالفشل الذريع في تقديم تغطية متوازنة حول البريكست أو تنوير البريطانيين بمعلومات موثوقة لتساعدهم على تكوين رأي غير منفعل بشأن موضوع شديد التعقيد مثل العلاقة مع أوروبا لا سيّما وأن صحف لندن التي يهيمن عليها التيار اليميني وتمتلكها حفنة من الأثرياء انحازت حينها وبدون أدنى تحفظ الاصطفاف السافر وراء دعوات الخروج من الاتحاد.
وقد دفعت هذه الاتهامات جيمس هاردينغ رئيس “بي بي سي” إلى الدفاع عن أداء مؤسسته بحجة أن الصحافيين التلفزيونيين ومقدمي البرامج السياسيّة منحوا بالفعل مساحات فضاء شبه متعادلة للطرفين – المعارض والمؤيد لفكرة مغادرة الاتحاد – لطرحِ حججهما. لكن دفاع السيّد هاردينغ الذي ربما أقنع بعض البريطانيين البسطاء بنزاهة مؤسساتهم الإعلاميّة الكبرى لم ينطل بالطبع على الخبراء المتخصصين. إذ ورغم أن وقت البرامج السياسية أُعطي بتساوٍ للطرفين، فإن تلك البرام لجمهور مسيس محدود، بينما ظهر انحياز واضح في نشرات الأخبار الرئيسة على مختلف الشاشات وهي النشرات التي تستقطب الجمهور العريض من المواطنين خلال أوقات الذروة المختلفة عبر ساعات اليوم.

تغييب صوت العقل

لقد تبيّن أن ثلاثة أرباع وقت الحديث عن البريكست في نشرات الأخبار خُصص لجدالات عقيمة بين سياسيين من المؤيدين والمعارضين يدور كلا الطرفين في فلك حزب المحافظين الحاكم بينما مُنحت مساحات تقل عن خُمس الوقت لسياسيين من أحزاب المعارضة، سواء مؤيدين أو معارضين مع هامش ضيّق يقل عن 3 % من الوقت أمام ناشطين من خارج الأحزاب الكبرى.
وقد اعتمدت التلفزيونات بتقديم تلك المساحات الشديدة التأثير على مذيعي النشرات الإخباريّة وهم في أغلبيتهم الساحقة – رغم طلّتهم الجاذبة وطراوة ألسنتهم – غير مؤهلين لإبداء الرأي في مسائل سياسيّة معقدة، وهؤلاء استضافوا بدورهم سياسيين منحازين سوّقوا لمعلومات مغلوطة وكاذبة – وفق هيئة الإحصاءات البريطانيّة – واكتفوا بالصراخ في وجه بعضهم وتسجيل النقاط، بينما لم تكلّف تلك الشاشات نفسها عناء استضافة خبراء متخصصين مستقلين لتقديم آراء موثقة وتقييمات متزنة بشأن مخاطر البريكست لتوعية الرأي العام. وهكذا كان سهلاً دفع أعداد كبيرة من المصوّتين إلى اتخاذ مواقف عاطفيّة وغير عقلانيّة دون التوصل إلى معلومات، معتمدين بالكليّة على كذب متبادل وتخرصات سياسيين محترفين.

الديمقراطية الشكليّة

سقوط الشاشات التلفزيونيّة بريطانياً – وفي موازاته رداءة صحافتها – ليس مقتصراً بالطبع على أزمنة البريكست، بل هو منهج عام استقالت فيه المؤسسات الإعلاميّة – عامة كانت كما “بي بي سي” أو خاصة كما “سكاي” – من دورها كسلطة رابعة تمارس النقد لأداء السلطات الثلاث في المجتمع الديمقراطي وتمنع تغوّلها على المواطنين، وانخرطت خانعة تروّج بسفور عجيب لمصالح وأوهام النخبة الرأسماليّة المهيمنة على مقاليد البلاد. هذه الاستقالة من الواجب لا تُدين الإعلاميين أنفسهم فحسب، بل وتكشف بوضوح عن خواء فكرة المجتمع الديمقراطي الليبرالي ومعها لعبة الكراسي الموسيقيّة الكاذبة لتبادل السلطة بين ألوانٍ من ذات النخبة لا تختلف مطلقاً على مهمة استدامة هيمنة المهيمنين. إذ كيف يمكن للمواطن العادي الذي تطحنه صراعات كسب الرزق اليومي أن يكوّن رأياً موزوناً بشأن الخيارات المطروحة عليه إذا كانت مصادر معلوماته الأساسيّة من تلفزيون منحاز وصحافة مسمومة تستقصد الترويج للكذب والخداع؟

الجهل معرفة والأميّة نعمة

إذا كان هذا حالُ التلفزيونات ومؤسسات الإعلام الكبرى بجزيرة تُعد مهد البرلمانات في الغرب وتقّدم لدول العالم الثالث كنموذج للحالة الديمقراطيّة التي يريدنا ذات الغرب الارتقاء إليها، فلنا أن نتخيّل ماهية الأدوار التضليليّة التي تمارسها الشاشات التلفزيونيّة – والإعلام عامة – في مجتمعات لا تدّعي وصلاً بالديمقراطيّة من حيث الأساس.
في مواجهة هذي الحقائق المرعبة، ولانعدام قدرة الكتل الشعبيّة على اجتراح حلولٍ جذرية للتعامل مع أزمات صارت بنيوية في تكوين المجتمعات الحديثة، ربما لا يتبقّى أمام الفرد إذا أراد تجنّب التسمم الفكري الذي تتسبب به أدوات الإعلام سوى الإعراض عن الشاشات والامتناع عن قراءة الصحف. لقد حقق هؤلاء الإعلاميون نبوءة الروائي البريطاني ذائع الصيت جورج أورويل في روايته الديستوبيّة الأشهر 1984: لقد خلقوا للناس فضاءات، الجهل فيها معرفة والأميّة تاج على رؤوس الأميين، لا يراها إلا من أسقمتهم شاشات التلفزيونات في منازلهم أو صحف مدنهم الرديئة.

إعلامية وكاتبة لبنانية تعيش في لندن

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نضال زغب:

    مقال متوازن دقيق وسخي جدا مع تمكن لغوي بامتياز .

  2. يقول طارق أبو إلياس:

    ستنشغل بريطانيا لسنوات قادمة بترتيب بيتها الداخلي وسيجعلها تحتل موقع المتفرج فقط لما يحدث حولها إقليميا وعالميا.. الـتأثير الشعوبي على القرارات السياسية في بريطانيا تثبت بشكل جلي أنه مدمر ويؤذن لغروب شمس القوه العظمى “سابقا” بشكل أسرع مما كان يتصور

  3. يقول مزوار محمد سعيد (تلمسان):

    عندما تنحاز الشاشات الاعلامية في امبراطورية سابقة، وديمقراطية حالية، وبهذا الشكل الفضيع لطبقة قليلة العدد من الوجهاء، مضللة الرأي العام الانجليزي المثقف.. فكبر على الوعي العربي ثلاثا.

  4. يقول واحد من الناس:

    إن من يملك المال يملك النفوذ ، وباستطاعتة غسل ادمغة المثقف والجاهل ،
    عندما اشاهد المرآة اعتقد وداءما اني اسمع واشاهد غسالة الملابس ،
    ولكن أيها السيدة الموقرة ، ما يحدث الآن في هذا العالم ما هو إلا انتقام الله من الظالمين فية ، وما هو إلا مكر الله ، فهو قد سمع نداء المظلومين وجعل من ظلموا يقاتلون بعضهم البعض وهو قد كشف الظالم للظالم قبل المظلوم ، وفي نهاية المطاف سيدمر الظالمين بعضهم البعض ، وما هذا الا لان كلمة الله عي العليا ،
    ومن لا يؤمن بوجودة قد ظلم نفسة .

إشترك في قائمتنا البريدية