كم مرة سُئلت هذا السؤال في مقابلات أجرتها معي وسائل إعلام عربية هذه الأيام، والقادم في الطريق بلا ريب.. ويفرض الجواب، في زعمي، واقع ثلاثي الأبعاد لا محيص عن أخذه بعين الاعتبار، إذا أردنا تفكيك خصوصيات المعادلة السياسية الفرنسية من الداخل، أو على الأقل، إذا أردنا محاولة ذلك.
تعد سابقة في تاريخ الجمهورية الفرنسية الخامسة أن يوضع رئيس سابق للجمهورية، بادئ ذي بدء، رهن تحقيق الشرطة القضائية، كما يعد، سابقة أخرى، استدعاؤه أمام قضاة النيابة المالية على الساعة الثانية من الصباح الموالي لإيقافه بتهم ثلاث. لا بد من التسليم بأن هذين الحدثين منفصلان انفصالا تاما عن مسألة الحسم في ضلوع الرئيس الفرنسي السابق في الملفات المنسوبة إليه من عدمه.
طريقة إيقاف الرجل، بعد وضعه قيد الاحتجاز أولا، مرتبطة بالشكل، والشكل يمكن للرأي العام أن يدلي فيه بدلوه ويتعامل معه بمنطق حدّث و لا حرج. ولا أستثني أحدا من هذه الصورة، فكلنا، شئنا أم أبينا، وإن بدرجات متفاوتة، نميل إلى حيث يميل القطعان. وهذه ثغرة تشكل فرصة ذهبية لمن يريد تمثيل دور الضحية، بغض النظر عن «شرعية» الأداء أم لا.
أما مضمون الملفات التي أنيط بها اسم الرئيس السابق، فأعيد وأكرر، إنها مرتبطة بالمضمون، وبالمضمون القضائي تحديدا، وهو من أكثر المضامين تعقيدا لا يدخلها إلا الراسخون كما يقال.. هذا أيضا يعلمه جيدا من يتقن مخاطبة الرأي العام بكلمات ينتظرها الرأي العام، لأنها كلمات الرأي العام.
هل انتهى ساركوزي سياسيا؟ أكيد أن للسؤال بعدا قضائيا. ولكن أكيد أيضا أنّ له بعدا سياسيا. كفانا تذكيرا بمدى إجادة تقمص ساركوزي دور»الحيوان السياسي» كما جاء على لسان أكثر من مراقب في فرنسا، ولكن للسؤال أيضا وهو الأهم بعدا إعلاميا.
أن يكون الإعلام والسياسة متلازمين متناغمين ليس جديدا، ولا أن تتضافر السياسة والتغطية الإعلامية لتجعلا من القرارات القضائية وقودا للتطبيل، ولا أن يتحوّل التطبيل إلى أداة طيعة في يد أطراف المعادلة الثلاثة: الإعلامي والقضائي والسياسي.
وهنا تكمن الإشكالية، إشكالية أن يصبح أي إجراء قضائي يطال «نجما» من «النجوم» «قضية داخل القضية»، بحيث تنضاف إلى قضية الملاحقة القضائية الأصلية أكانت وقائية أم تأديبية، القضية الجديدة التي سيخلقها ورود تفاصيل الحدث بأمانة متفاوتة في المحافل العامة، حينئذ تصبح القضية، إضافة إلى أن تكون قضية من تخصه، قضية الجميع. والإشكالية في هذه المراوحة، فهي تقدم طبقا ذهبيا للضحية أو المتهم، المحلل لا يجزم لتسييس المشهد، معتمدا على نمط من التفاعل مع الجمهور معروف قائم على نظرية التواطؤ.. هذا النمط، لم يفوّته رئيس الجمهورية السابق طبعا، فبنى عليه مقابلة تلفزيونية سارع إلى المطالبة بها.
وهنا نسأل: هل انتهى ساركوزي سياسيا؟ فقد فتح ما سماه المحللون السياسيون بالساركوزية عهدا جديدا وطريقة مبتكرة في ممارسة السياسية، مبدؤها كما رأيناه مخاطبة الشعب بلغته، مما مهد لارتياد أساليب جديدة من التواصل، منها اللعب على أوتار المشاعر واستدرار العواطف.
لا ننسى أن ساركوزي، الذي كان رئيسا، محام أيضا، فيجيد بالتالي تبوأ مركزي الدفاع والهجوم. كما لا ننسى أن شعرة معاوية بين ساركوزي والقضاء لم تنقطع أبدا، مما لا يمكن إلا أن يجر الملفات القضائية إلى الأرضية السياسية.
أصبح السؤال الآن سؤالين: هل كتب على ساركوزي النكوص المكره عن خوض رهانات جديدة – كما هو زعمه الذي أعلنه في مقابلته التلفزيونية الأخيرة، أم، بصورة أشمل، هل انتهى نمط خاص من الممارسة السياسية، يتميز بقدرة على خلق المفاجأة يخدمه تحكم فائق لوسائل الاعلام؟
لم يعد سؤال هل انتهى ساركوزي سياسيا، وإن بات طبيعيا أن يرد على لسان كل صحافي فرنسي ودولي، هو الوحيد الذي يشكل مركزية النقاشات في العالم السياسي المصغّر حاليا، بل صار سؤال آخر يطرح نفسه بالإلحاح ذاته وهذا السؤال هو هل انتهت السياسية ساركوزيا؟
باحث اكاديمي وإعلامي فرنسي
بيار لوي ريمون