يأتي العدوان الاسرائيليّ الراهن على الفلسطينيين في لحظة اقليمية يستعر فيها التصادم المذهبيّ في المشرق العربي، بأنهار من الدماء، ومناخات احيائية ومهدوية، ووقائع غلبة وسفك دماء وشهوات إباديّة.
يأتي العدوان – الحدث ليُتَرجَم على الفور كعدوان – مناسبة. هي «مناسبة» لقراءة الصراع مع اسرائيل من معين الصراع المذهبي السنّي – الشيعيّ، كما أنها «مناسبة» لقراءة انفجار هذا الصراع مجدداً كطوق نجاة من الفتنة المذهبية. وفي معظم الأحيان يتداخل المستويان.
كأنّه كُتِبَ على الصراع العربي الاسرائيليّ أنْ يؤرّخ هكذا: فترة نشأته في ظلّ الهيمنة الاستعمارية البريطانية على المنطقة، وفترة توطّده بالحروب النظامية في مرحلة الاستقلال الوطني والحرب الباردة، ثم فترة التداخل والتنابذ بينه وبين الاستقطابات والتصادمات ذات المنحى المذهبي في المنطقة.
وهذا اتخذ في السنوات الأخيرة طابع الانشطار الرمزيّ بين «المآل الشيعي لقضية فلسطين» وبين «المآل السنّي للفلسطينيين».
فالمآل الشيعي لـ»القضية» عمره من عمر الثورة الايرانية وتمدّد نظامها في الاقليم، في مقابل كبوة مصر ونكبة العراق ورحيل ياسر عرفات. يتكثّف هذا المآل في صيحة أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله «نحن شيعة علي بن ابي طالب لن نتخلى عن فلسطين»، وذلك على وقع تدخله ضد ثورة سورية ذات «طابع سني».
و»المآل السنّي للفلسطينيين»، لم تتكفّل به الأبعاد المذهبية للصراع بين النظام السوريّ ومنظمة التحرير على الأرض اللبنانية، بقدر ما تكفّلت به القطيعة بين حركة حماس والنظام السوري، وسط انتشار شعور ملتبس بوجود مسألة «عربية سنية» عابرة للحدود في هذا المشرق العربي، وعابرة للاحتلال الاسرائيلي نفسه.
واحتساب الأقوام بميزان «الشيعة والسنة» غير ثابت وغير مرتبط بالانتماءات الدينية فقط. لم يكن بديهياً أبداً قبل عقود قليلة أن يُحتَسَب العلويون ضمن «كلّ شيعي» في مقابل «الكلّ السنّي»، وأن لا يُحتَسَب الدروز كذلك بالقدر نفسه. ولم يكن واقعياً، في زمن القمع الصدّامي للأكراد، أن يُقيّد الأكراد على انتمائهم المذهبي، على النحو الذي أوصله نوري المالكي الى ذروته القصوى باعتبار اربيل قاعدة لتنظيم «داعش». في المقابل، «الشعور بالسنّة» لم يكن مستقرّاً أبداً عند الفلسطينيين، حيث يتداخل بأنماط شتى من التقارب والتنافر مع الهويات الأهلية الأخرى. زد على انّ «الوعي السنّي» في شعب السواد الأعظم من مسلميه من أهل السنّة لا يمكنه أن يكون بحيوية ومحورية هذا الوعي عند شعب ينقسم مسلموه بين المذاهب المختلفة بشكل جديّ ويتخذ الانقسام المذهبي فيه خواصَ اثنية جزئية أو شاملة، يمكن أن تُحبَس أو أن تُصعّد بحسب الموازين الديموغرافية الاقتصادية والسياسية، وتبعاً لانتشار العقائد التي تستثمر في هذا الانقسام، وتلك التي تعيد انتاجه بالمكابرة عليه ظاهراً، ومفاقمته واقعاً.
ما زالت العلاقة بين الصراع العربي الاسرائيلي وبين الصراع المذهبي السني الشيعي في قيد «غير المفكّر» به بامتياز في هذه المرحلة. أن يأتي العدوان الاسرائيلي على الفلسطينيين كمناسبة جديدة تغتنمها آليات تقاذف تهمة «التخاذل» مذهبياً، أو التزاحم على «شرعية ادارة الصراع» مذهبياً أيضاً، أو أن يأتي هذا العدوان كمناسبة للاعتقاد بامكان «هجر الفتنة» الى حيث وطنية وقومية وحضارية الصراع، فهذا يعني، في الحالتين، المتداخلتين، عدم التمكّن من الشخوص الى ما يصنع الفارق بين الصراع مع اسرائيل وبين الكوارث الدموية الأخرى التي نكابدها على يد الأنظمة الاستبدادية والحروب الأهلية ذات المنحى الاثني والمذهبي.
وانه، من قبيل التسطيح أن تختزل المسألة بالاحتساب العددي للضحايا في العراق وسوريا مقارنة بالفلسطينيين. ان يتجاوز ضحايا الاستبداد والحروب الاهلية عدد ضحايا الاستعمار فهذا على مرارته ينبغي ألا يلغي «الفاصل الكولونيالي» بين آليات قمع وتدمير لشعب تأتيه من ما وراء المحيطات، وبين آليات قمع وتدمير سيبقى من الممكن، نظرياً على الأقل، وعملياً أيضاً، أن تتنازع عليها الأقوام المختلفة في بلد واحد لـ»تجريبها» ضدّ بعضها بعضاً، تداولاً، أو تعاقباً، أو تزامناً. ما يجري اغفاله انّ الفلسطينيين عندما ينكّل الاسرائيليون بهم لن يصفوهم بأنهم «مثل صدّام حسين وبشّار الأسد»، في حين أنّه، ما بين طغاة المنطقة وشعوبها، يمكن أن «يؤسرل الخصم» سواء كانوا قوماً مضطهداً على يد طاغية، كـ»أسرلة» الأكراد مثلاً، أو كان طاغية مضطهِداً لأنسجة اكثرية ثائرة عليه من مجتمعه، كـ»أسرلة» صنيع بشار الأسد في خطاب المعارضين السوريين. الاختلاف الأساسي قائم هنا. يمكن للمضطهَد فئوياً في العراق أو في سوريا أن يتخيّل قلب المعادلة لصالحه وبالوسائل نفسها أو ما يعادلها، في حين لا يمكن أن يتخيّل الفلسطينيون ذلك في مواجهة الاسرائيليين. هذا الفاصل «الكولونيالي» لا يجوز ولا يمكن تضييعه. من دونه يصير العدوان على غزّة «مناسبة» تضيع في دماء المنطقة، في حين أنّ حدّاً أدنى من «ترسيم الحدود» بين مستويات الصراع المختلفة في المنطقة. هو الصراع العربي الاسرائيلي في زمن التصادم المذهبي، والعلاقة بين المستويين ليست علاقة سبب ومسبب، وفاعل ومنفعل، من دون ان تكون مع ذلك علاقة بين متوازيين مصادفة، او بين متقاطعين عرضاً. لم يصنع وجود اسرائيل الاستقطاب السني الشيعي لكن اعطاه نمطاً مختلف كثيراً عما قبله. لن يصنع العدوان الحالي محطة لهجر التصادم السني الشيعي، او لكسر حدّته، لكنه من حيث هو عدوان، ومن حيث هو مقاومة لعدوان، سيعطي حججاً أساسية للأبعاد «الناسوتية» من الواقع، في مقابل المناخات الاحيائية، المهدوية منها والاستخلافية، هذا في الوقت نفسه الذي سيجد الباحث عن «المؤثرات الميثولوجية» ضالته.
وسام سعادة