تغنّي فيروز بيتي صغير، بكندا وأنا أجلس إلى طاولة في المطبخ أكتب عليها بالقلم على وريقات صغيرات، وتكتب عليها زوجتي بالسكين تجرح حبات الفلفل والبطاطس وتدمعها حروف البصل.. «بيتي صغير بكندا ما يعرف طريقو حدا.. بابو ما إليو مفتاح بالي مرتاح». أعدّ درس التمييز وأبحث عن أمثلة جديدة.. كره الطلاب أمثلتي القديمة صاروا يعلّقون عليها، وأنا رجل ديمقراطي لا أحبّ الطرد أو الإقصاء أو الشتم والتجريح. أقول لهم التمييز منصوب فيعيدون المثال على مسامعي قبل أن أنطق به (العسلُ صَافيًا دواءٌ) ويضحكون يقولون: الدواء يا أستاذ الغالي منه أرخص سعرا من العسل صافيا.. ثمّ يقول أحدهم لزميله مشيرا إلى التي تجلس إلى جواره وتلتحم به من ضيق الكرسي أو هكذا يبدو لي: هذا هو العسل صافيا.. ألاحق التمييز في أمثلتهم ويلاحقون في أمثلتي ما يناقض الواقع.
تقول عسلي الصافي ودموع البصل اللعين في عينيها.. هذه الأغنية مالحة.. تقول فيروزك.. أقعد وحدي منسية على شبابيك بيتي بكندا.. وحدو صوتي والصدى.. أقول لها وأنا أعيد مع السيدة: «بفكّر فيك واشتقلك..» تنظر إليّ بعين فيها رسائل مشفرة كثيرة أفهم بعضها ولا أجد الوقت لفهم البقية.. في درس التمييز تقول للطلاب هو مكوّن منصوب وتعدّد الأمثلة من نوع (اشتريتُ رطلاً عنبًا) يقول لك بعض صعاليك القسم: كم حبّةً فيه؟ تعاتبه فيقول لك إنّه لم يغادر درس التمييز أليست (حبّة) تمييزا؟ لا تدري أتفرح بأنّ الطالب فهم الدّرس، أم تحزن لأنّك تفهم قَصْدَه؟ تتظاهر بشكره على شطارته وتلعن أمثلة التمييز. «بيت صغير بكندا ما بدّي يزورو حدا.. إلا اللّي قلبي اختارو وقلو أسرارو.. بعرف السعادة هون بقلب بيتي الصغير بكندا..» قلت لها: ما رأيك أن نهاجر إلى كندا؟ قالت: أغربة هنا وغربة هناك؟ قلت لها: ستعطينا الدولة الكندية بيتا كهذا البيت هناك.. ابتسمت ومسحت دمع البصل اللعين الذي ما يزال يطلّ من مآقيها.. بعد أن تقول للطلّاب أنّ التمييز منصوب عليك أن تقول إنّه يجرّ أيضا.. كيف تفهم الطلاب أنّ التمييز مجرور لكنّه في محلّ نصب؟ قال بعض الطلاب مرّة وهو يمزح هل يكتري محلّ النصب؟ عجيبة هذه الاستعارة الحية كيف لم تخطر ببالي؟ سرقتها منه هو يعتقد أنّه يسخر مني ومن مقولاتي ومن محلاتي لكنّه مكّنني من استعارة بها فهمت قول الاستراباذي النّحوي إنّه لا يوجد في الحقيقة إلاّ محلاّن إعرابيّان هما الرفع والنّصب أمّا الجرّ فإنّه واقع في أحد المحلّين ولا محلّ له في الحقيقة.. هو باستعارة طالبنا يكتري محلّ الرفع في قولك (للباب مفتاحٌ) ويكتري محلّ النصب في قولك (بيتي صغيرٌ بكندا). أعيد الأغنية.. بعد أن وجدت أنّها في قلب الدّرس « شجر وعصافير كثير.. كل ما تثلج بينطر… يرجع ربيع.. بالي مرتاح.. مرتاح».
بيت من الطين هو بيتي الحقيقي الذي ولدت فيه هناك في جبل أجرد قاحل وراءه وليّ صالح يحملون إليه الشّمع يقولون إنّه يحرسنا، وإلى شماله وليّة صالحة هي أيضا تحرسنا.
التمييز يجرّ بحرف جرّ (منْ) هي أداة الجرّ هنا يسمونها (من الجنسية). في أيّام تدريسي الأولى للتمييز، كنت أغرق في العرق حين أنطق بهذا الاسم صحيح أنّ نيّتي تجلس القرفصاء، كما يقول أهلنا، لكنّها لا تُقَرْفِصُ لوحدها هي مع نوايا بني جلدتي وجيراني وبني وطني.. المثال الذي يقترحه عليّ النّحاة (ثوب من خَزّ) و(باب من سَاج) لا الخزّ بات ينسج منه ثياب بني جلدتي المقرفصين معي ولا الأبواب باتت تصنع من ساج فهذا خشب مستورد. نحت من الأغنية مثالا (بيتٌ من طين) يا لهذا الاكتشاف شكرا فيروز.. بيت من الطين هو بيتي الحقيقي الذي ولدت فيه هناك في جبل أجرد قاحل وراءه وليّ صالح يحملون إليه الشّمع يقولون إنّه يحرسنا، وإلى شماله وليّة صالحة هي أيضا تحرسنا.. تحرس بيوتا لنا من الطين.. الحيطان كانت حجارة وشيئا ما يمسكها، هو الطين.. كنا نعتقد أنّ من يمسكها كان الوليّ فإذا هو الطين. الآلهة تصنع من الطين الفاخر والأولياء من الطين.. فيروز تقول.. بيتي صغير بكندا.. وكنا نقول: بيتنا بلا صفة.. لا نعرف إن كان صغيرا أم كبيرا وإن كان الباب سَاجًا أم أبنوسا كان بابا وكفى يغلق في الليل لنية في أنفس غالقيه.. حين كنّا صغارا لم يسكننا التمييز البتة، كنّا متشابهين في الفقر والفاقة في العري.. لم نحتج إلى أيّ تمييز الملكة تسعفنا ولكنّ الملكيّة لا تهدينا إلى الفوارق التي بيننا .. البيت من الطين في الشتاء لا يكفّ عنّا الماء.. صحيح أنّه كان يكفّ عنّا أغلبه، لكنّه كان يدخل لنا بعضه.. عندها بدأنا نميّز بين ماءٍ نشربه وماء تشربه أغطيتنا.. أغطيتنا من صوف، والصوف يتشرّب الماء إلى أن يغرق والولي الصالح المسكين لا يستطيع أن يمنع عن بيتنا من الطين كلّ الماء والوليّة الصالحة كانت تعينه لا أدري كيف، ولكنّها كانت تعينه لكنّهما يعجزان عن ردّ الماء عن الصوف.. كنّا نفكّر في بيت الوليّ والوليّة الصالحين أكيد أنّها كانت في مأمن من المطر، وإذن ليس بيتاهما من طين.. وإذن عيونهم لا تدمع من البصل بكل تأكيد.. هي تدمع من البكاء علينا، نحن الذين من طين بيوتهم… بيتنا الصغير بكندا.. كل ما يمطر ننتظر.. أحزنني المثال.. أتظاهر بتقشير الثوم عساه يرفدني، لكنّ الثوم لا يُبكي.. يحرق فؤادي.. بحثت في أمثلة سيبويه وجدت (راقودٌ خلاّ) وقال لي إن شئت قلت (راقودٌ من خلٍّ).. كم كانت حالك ميسورة يا سيبويه تحتفظ بالخلّ في جرّة كبيرة وحياتنا نحن كانت من خلّǃ مضيت أقرأ فصل الكتاب الذي عنوانه «هذا باب ينتصبُ لأنّه قبيح أن يكون صفة» عرفت أنّ التمييز لولا أنّه ينتصبُ لكان صفة؛ إن كان صفة فسيكون قبيحًا.. ضحكت نيّتي المقرفصة.. كلّ قبيح يريد الفرار من قبحه عليه أن ينتصب.. إن انتصب زال القبح وتميّز.. في هذا الباب الذي هو ليس من السّاج المستورد ولا من الأبنوس الرفيع ذكر سيبويه الطين.. فقال «صحيفة طينٌ خاتَمُها».. تصوّروا ما تكون هذه الصحيفة التي بدلا من أن تغلق بالشّمع الأحمر تختم بالطين.. هذا مثال مشكل لأنّي لو قلت (خاتم من طين) لتغيّر المعنى ولتوهّم الناس أنّ فقري إلى درجة ليس تحتها فقرٌ حمدت الله على «بيت من الطين» وعلى خاتمي الذي أهديته زوجتي: هو خاتم من ذهب.. وقفت حذو زوجي أطلّ على قدر من البطاطس والخضر .. قلت لها سنظل هنا.. قالت بيتنا هنا أفضل من بيت من الذهب في كندا.. قلت أتلاعب بالحروف.. بيتي من الطين في كَمَدا.. قالت: هذا عبث لسانك بدأ يشتغل.
٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية
الله بالخير، توفيق، وزجوجتك، وفيروز وطلابك، أقترح عليكما زيارة كندا ،أو قضاء سنة تفرغ في إحدى جامعاتها العشرين كما أذكر ولن تندما،مع تحياتي.