مجانين المنطقة الخضراء
ssعلوان حسينsssppمكث جالساً بعض الوقت ثم تذكر قهوته التي بردت. رشف القليل من تلك القهوة الاكسبرس التي اعتادها كل صباح. هذه القهوة قد تكون سبباً في تعكر مزاجي هذا النهار.. حدث نفسه وتذكر انه نسي أن يضيف اليها الحليب. فتح كتاباً ليقرأ رواية قصيرة اسمها (الحميمية) لكاتب بريطاني من أصل باكستاني اسمه حنيف قريشي.بعد صفحات قليلة توقف عن القراءة، تذكر بأنه انتحر منذ بضعة أيام وأنهم واروه التراب وبعد أن مشوا عنه نفض عن عينيه النعاس ثم استغرق في تفكير طويل سها فيه عن نفسه فألفاها غارقة في النوم. ماذا يفعل في هذه الحالة الملتبسة.. هل يذهب الي النادلة ويطلب منها أن تصفعه مثلاً أو تسكب كوباً من الماء البارد علي وجهه لعله يتأكد بأنه حي يعتقد بموت لم يأتِ بعد، أو ميت يحلم بأنه حي لكن هل يحلم الموتي ؟ حاول أن يستعيد شريط الأحداث قبل الموت.. تذكر أنه رأي صورة أخته في جريدة تحت خبر يقول (امرأة عراقية تشهد مصرع زوجها وأطفالها أمام عينيها وتصاب بخمسة رصاصات في الرأس ولم تمت) انتهي الخبر وهو يدقق في الصورة لعل بصره يخدعه ويكذب الخبر. أفكار ومشاعر غامضة انقضت عليه لتسلب منه آخر قطرة من وعيه وتتركه نهب حالة من الضياع والتمزق. هرع علي الفور الي أقرب مخزن ليبتاع بطاقة مكالمة هاتفية، بعدها تأتي مرحلة التفتيش عن أرقام الهواتف. بيدين مرتجفتين يطلب رقما لم يحدد صاحبه بعد..pppـ آلو كيف الحال ؟ـ الصوت بعيد يمة هذا شخص يقول كيف الحال ؟صوت آخر يأتي متقطعاً – هللة عيني منو أنت ؟ـ أنا علوان من أمريكا..ـ عيني ما عندنا واحد اسمه علوان يعيش في أمريكا..ـ مو هذا بيت حسن ؟ـ لا عيني غلطان..ـ آني أعتذر أختي..ـ لا عيني ولا يهمك كلنا أهلك..ـ مع السلامة ـ مع السلامة عيوني..عاد الي مفكرته ثانية وعثر علي رقم أخيه حسن، كانت نبرته عادية ولم يجد أثراً لمأساة.. سأله عن الأحوال قال هي كما تعرفها وتقرأ عنها في الصحف، فوضي ضاربة اطنابها والقتل علي الهوية. الموت يتجول بثياب شبان صغار كانوا حتي الأمس القريب أطفالنا الأليفين والرعب شل حركة الناس والغريب أن الكل تحت المقصلة لا أحد بمنجي عن هذه اللعبة الشيطانية. وددت أن أسأله عن أختنا التي رأيت صورتها في الصحف لكنه طمأنني بأن العائلة بخير مؤقتاً ولا أحد يعلم ماذا يحصل غداً.قلت له بأني شاهدت صورة امرأة قريبة الشبه بأختي (هدية) علي صفحات الجرائد وكانت في حالة مريعة بعد أن نجت بأعجوبة من موت حصد جميع أفراد عائلتها التعسة. أخبرني بأن (هدية) الأخت الكبيرة كانت قد ماتت منذ أكثر من عشرة أعوام وأن بناتها يعشن مع أزواجهن وأولادها كلهم بخير. زادت المكالمة الهاتفية من بلبلة أفكاري المشوشة بالأصل وعدت الي صورة المرأة التي تتصدر الصفحة الاولي من جريدة الشرق الاوسط التي بيدي، كانت هي أختي (هدية) التي نسيت حادثة موتها، تأملت ملامح وجهها وهو يعبر بشكل بدائي وعميق عن الحزن، حزن المرأة النبيل وهي تفقد زوجها وابناءها في لحظة بدت قاسية ثقيلة وطويلة كدهر. المعالجة النفسية نصحتني بالسفر وتغيير الجو. قالت لي وهي تجس علي يدي:ـ صحتك معتلة وجسدك ليس هو المسؤول عن تدهورك الصحي ويبدو أنك لم تستجب للعقاقير وحتي الجلسات النفسية لم تؤثر عليك.. اذهب في سياحة طويلة لعل مغامرة او حدثا سارا يغير مسار حياتك كلها.. ـ لكني في سفر دائم وعقلي لا يمل من الترحال..ـ ليس هذا هو المهم.. سافر بجسدك وعقلك..ـ سيدتي ربما لا تعلمين بأني أطوف العالم يومياً ولكن عبر خيالي..ـ هذه المرة أريدك أن تفعلها حقيقة.. اذهب، لا أريد أن أراك الا بعد شهرين أو ثلاثة علي الأقل..انطلقت لتوي الي مكاتب السفر، ابتعت تذكرة ووجدت نفسي في الطائرة. ايقظتني المضيفة الجميلة لتخبرني بوصولي سالماً لعمان. في المطار أخبرني الموظف بأن حقائبي لم تصل، علي الانتظار ربما ثلاثة أيام ريثما تصل حقائبي. غادرت المطار الي الشارع. كان الوقت فجرا والطقس في عمان لطيفا خصوصا عند الصباح. كان الطريق طويلا جدا وأنا أغذ الخطي في السير بعد جلوس منهك علي مقعد واحد قرابة إحدي عشرة ساعة متواصلة. في الطريق أوقفت تاكسيا الي الساحة الهاشمية. قررت أن أتناول فطوري في مطعم عراقي ثم أذهب الي مقهي السنترال لعلي أحظي برؤية علي السوداني وعبد الستار ناصر وجمال الحلاق وغيرهم من الأصدقاء هناك. طفت ماشيا في شوارع عمان الأليفة أحدق بالوجوه التي أشعر بأني تركتها البارحة. خمس سنوات مرت علي تركي هذه المدينة التي تشعرني بالدفء والحميمية والبؤس أيضاً. عراقيون في كل مكان، باعة ومتجولون عاطلون عن الحياة، آخرون حالمون بالسفر، شعراء وغجر وباعة أحلام وهاربون. هناك دوما هاربون من جحيم ما علي شكل وطن أو قتلة، طاردون ومطرودون، لا بد لكل نظام جديد من محرقة وضحايا جدد. هكذا الحياة تستبدل الأدوار في لعبة الكر والفر، لا أحد رابح دوماً، الكل خاسرون ما دامت الكراهية تغذي النفوس وتؤجج العنف وعمليات الثأر.. في لحظة سرقتني يدٌ من شرودي بعد ان هزتني بعنف.. رجل أمن يطلب جواز سفري. أفتش جيوبي مرتبكاً قليلا لأفاجأ بضياع جواز السفر مع حقيبتي اليدوية التي بداخلها هويتي الامريكية ونقودي وأشياء أخري مهمة.. لقد سقط الأمر من يدي هل يصدق رجل الأمن قصة عدم وصول حقيبة السفر وضياع الحقيبة اليدوية وبأنني أنا العراقي الذي يقف أمامه مواطن امريكي وسائح أيضاً..- حضرة الشرطي المحترم.. لقد أضعت حقيبتي اليدوية وبداخلها جواز السفر والنقود وانني……- ستقول هذا الكلام في دائرة الامن.. جرني الي سيارة الوافدين حيث انحشرت مع الذين سبقوني من العراقيين الذين تجاوزوا الاقامة المحددة لهم ولا يملكون ثمن تجديد اقامتهم، لا يملكون في جيوبهم سوي بعض الأفكار عن السفر والرغبة في تغيير الحياة..في غرفة صغيرة وجدتني متكوماً مع عشرات الأجساد محشورين في مساحة ضيقة، مرميين علي البلاط العاري وكأننا وسخ الدنيا وقمامتها التي ينبغي التخلص منها بأسرع وقت. ساعات طويلة وأنا أصغي لقصص هؤلاء الذين سوف يرحلون الي بلد صار مجرد تذكره يثير الرعب في قلوبهم الوجلة.. لم نعد نخاف الحكومة يقولون، صار خوفنا من المجهول.. موت غامض ينبثق في أية لحظة، يتطاير مع الهواء كالشرر.. السعيد الذي يموت بين أهله في بيت وديع، ميتة هانئة وهادئة خالية من الروع وتشويه الجسد والروح.حدق بي ضابط الامن طويلا وبدا غير مصدق حكاية الحقيبة التي لم تصل ولا حقيبة اليد التي أضعتها ولا كوني مواطناً أمريكياً يتمتع بحصانة معينة تمنعه علي الأقل من التفكير بتسفيري الي طريبيل. كنت في حالة نفسية سيئة جداً منعتني من التفكير بالجوع الذي أخذ يقرض أحشائي. طلبوا مني ورقة المطار التي سهوت عن أخذها من الموظف المختص، وتبينت أن لا وثيقة رسمية بيدي تؤكد وصولي المطار وموضوع الحقيبة.. ويبدو أن ضابط الامن أشفق علي بعد أن راعته حالتي النفسية المريعة، الحقيقة وددت أن أخبره سيان عندي الذهاب الي بغداد أو كاليفورنيا في هذه اللحظة. فقط الجوع هو سبب تقهقر حالتي والشحوب الذي بدا مرتسماً علي وجهي. جلبوا لي صينية كباب أكلتها بشهية عجيبة، بعد كوب الشاي الثاني اعتدل مزاجي ولم أعد أفكر في شيء. بدت حكايتي مسلية لضباط الامن الذين أجلسوني علي الأرض وشكلوا هم أمامي نصف حلقة يستمعون باهتمام بالغ الي بعض التفاصيل التي رأوها مشوقة أكثر من غيرها، كحكاية المعالجة النفسية ونصيحتها الثمينة لي بالسفر والمغامرات التي سوف تشفيني من الكآبة.أحدهم سألني عن رأيي بشخصية كاسترو. كان السؤال غريباً. حاولت التملص من الاجابة عليه، لكنه ألح بمعرفة اجابتي. قلت له (كاسترو شخصية سينمائية فيه السحر والغموض وروح الشر التي يضمرها دوره كنجم وزعيم سياسي بكاريزما فرضته كظاهرة مطلوبة أحياناً ولو كصورة). بعد بضعة أيام وحين تركوني وغادروا اكتشفت بأنهم كانوا يتحدثون عن كاسترو عمان، ذلك المجنون الذي يرتدي بدلة تُشبه بدلة كاسترو بنياشينه وميدالياته ولحيته الكثة وقامته التي لا تختلف بشيء عن قامة كاسترو. تركوني في مصحة للامراض العقلية التي سوف تقرر حالتي مجنوناً أم في حالة عقلية سوية. من حسن حظ الصدف كان الطبيب المداوم عراقياً وصديقاً لي هو الشاعر ريكان ابراهيم الذي استضافني في الجناح المخصص للاطباء، حيث حظيت بحمام فاخر ووجبة عشاء شهية وقراءات شعرية ثم نوم عميق حتي ضحي اليوم التالي. زودت بتقرير طبي يؤكد سلامتي العقلية واعتلال حالتي النفسية مع نصيحة في مراجعة طبيب نفسي مختص. في السفارة الامريكية فشلت في اقناع القنصل بمواطنيتي الامريكية. هو يريد الهوية الشخصية أو جواز السفر، وأنا في حالة شرود لا أفكر سوي بطريقة ناجحة للانتحار. ذهبت الي مكتب شؤون اللاجئين لتسجيل نفسي طالبا للجوء الانساني. كان الاسم مدوناً لديهم في الحاسوب، احالوني الي دائرة التحقيق في المخابرات الأردنية العامة بتهمة التزوير. مكثتُ شهراً بأكمله في زنزانة ضيقة وقذرة غير قادر علي أن أستجمع أفكاري، العزلة عن الناس والخوف ورهبة التحقيق وعدم الرغبة في العيش منعتني من التفكير الصحيح في حالتي وكيفية الخروج من المحنة بسلام. كنت أتباطأ في الأجوبة، وعلي استعداد لمنح جلاديي فرصة الانتقام مني واضفاء هالة من الغموض والخطورة لحالتي جعلتهم يظنون بي الظنون. حاول بعض الضباط مساعدتي في منحي فرصة الدفاع عن نفسي بحرية، لكنني فضلت الصمت والموت بحرية قد لا أظفر بها خارج المعتقل. قررت أن أترك الأقدار تقرر مصيري طالما بدت الحياة لي حلماً آخر لعلي لا أستفيق منه أبدا. في حلم ولدت، وحالماً عشت تاركاً للأحلام أن تحلم عني وتحقق لي أحلامي الغامضة. هل كانت الأحلام تعويضاً عن حياة ناقصة كما يقولون أم هي الحياة نفسها عبارة عن حلم يفسده تحقيقه. في العشرين كانت لي رؤيتي العاطفية لنفسي وللحياة، كنت أراها عبر الحب وصورة الحبيبة. كانت الأغاني، أم كلثوم وعبدالحليم حافظ بشكل خاص تؤجج النبع الراقد في قلبي، تتدفق المياه البيضاء حارةً فوارة وهي في تدفقها وفيضها تنظف لي الوقت من غبار الكآبة وتضيء لي الصباحات بشمس الأحلام وموسيقي الأفكار التي تتقاطر في رأسي كغيوم بيض. كدت أظن أنني قصيدة بجسد من كلمات وعواطف وبراكين ودماء وشبق ولحم قابل للاشتعال. أظنها الآن فاسدة تلك القصيدة التي كتبها شاعر ملعون، وأظنني لست أكثر من جيفة تستحق طمرها تحت التراب. يوم التسفير حملونا كبضاعة رخيصة في سيارة شحن خاصة بالمسفرين. سجن حديدي مغلق إلا من شبك صغير. كنا أكثر من عشرة عراقيين أبحرت سفينتنا البرية صوب طريبيل. كنت أرتدي بنطلون جينز وقميصا قطنيا وجيوبي فارغة تماماً. في منتصف الليل وصلنا المنطقة الحدودية حيث وضعونا في غرفة صغيرة عارية من الاثاث حتي الصباح. في الثامنة قاموا بتسليمنا الي رجال الجمارك العراقية، كنا بضاعة بخسة ومزدراة. حققوا معنا لساعات ثم تركونا لليوم التالي جياعا مرهقين وخائفين من المجهول. في بغداد قال لي الضابط العراقي الذي حقق معي طويلا ولم يصل الي مبتغاه ـ انك محظوظ فقد صرت من نصيب قوات التحالف، أنت منذ الساعة في عهدة الجيش الأمريكي. قلت له: انني مواطن عراقي.. ما دخل الجيش الأمريكي بي؟ قال: أنت مقبوض عليك خارج الحدود ولا بد من معرفة كل ما يتعلق بك من تفاصيل، ربما تكون شخصاً خطيراً..: تعني ربما أكون ارهابياً ؟ ـ كل الاحتمالات واردة..أنا في المطار، ليس في صالة الركاب، ولا في طائرة جامبو تنتظر الاقلاع بل سجين في معتقل داخل بغداد مدينتي التي لم آتها زائراً انما سجيناً وعند قوات التحالف الأمريكي.لم أر طائرات وركابا، رأيت قوافل عسكرية مجنزرات وآليات وكلابا بوليسية وسجونا.. وصلت المطار عند الظهر، تشممتني كلاب مدربة وتلقفتني عناصر المارينز انتزعتني من شرودي بوابل من الاسئلة حول التنظيم المزعوم الذي أنتمي اليه، وعدد المهمات الموكلة لي، وكم أمريكياً قتلت وهكذا انضممت رسمياًالي الارهاب والارهابيين شئت ذلك أم أبيت.. كان المحقق يسألني ويطلب معلومات محددة وأنا أجيب نعم ربما كان هذا ما تقول. هددني بالتعذيب الجسدي وأنا أنتظر بلهفة اللحظة التي أختلي فيها بنفسي لأني عزمت علي شنق نفسي في بغداد بالذات باعتبارها خاتمة سفر طويل لا بد منه لعودة ولو علي دابة حدباء محمول، هو يحتد ويتوعد وأنا أحدق في عينيه وأبتسم كطفل يحدق بقطة نائمة. حينما لم يحصل علي شيء نافع مني سألني: ما هي هوايتك المفضلة ؟ أجبته: الضحك.. لم تعجبه اجابتي ربما فكر أني أسخر منه.. قال: الضحك ومم؟ قلت: من الحياة ومن نفسي.. الضحك من الأقدار أيضاً.. قال: وهل ترانا ندعو للضحك ؟ قلت: بالنسبة لي كل العالم يدعو للضحك، خصوصاً أنتم الأمريكيين.. قال: ولماذا برأيك ندعو للضحك ؟ قلت: لأنكم عبرتم آلاف الكيلومترات مجتازين البحار والمحيطات والمدن لتحققوا معي أنا العراقي الذي ولد في هذه المدينة التي اسمها بغداد والانكي من ذلك أنني عراقي – أمريكي ولا أحد يعترف بي مواطناً ينتسب الي أرض ووطن، أنا أضحك من كوني مواطناً عالمياً يبحث عن هوية. في الختام سألني ماذا تطلب الآن.. قلت له أريد فقط الذهاب الي المرحاض.كانت نشوة عظيمة أن تقضي حاجتك بحرية وقارنت ما بين جلاديي السابقين في السجون العربية، كانوا يعدون الثواني علي السجين بعدها تنهال عليه الضربات والركل والكرابيج، كل هذا من أجل التخلص من سموم جسده، ولذلك لا يدري أحدنا في ما إذا كان يقضي حاجته أم يقضي عليه في هذا المكان الحقير. شكرت بامتنان الرقيب الأمريكي علي هدوئه وسماحه لي بالجلوس مطمئناً في بيت الخلاء. قلت لنفسي إذا كان هو السجن ليتهم يضعون معي الشمس والغيوم والسماء ونهر دجلة وتمثال أبي نواس وعطور شارع النهر وكتب شارع المتنبي وأشرطة حضيري أبو عزيز ومجانين المنطقة الخضراء كي يكتمل النصاب. كاتب من العراق يعيش في كاليفورنيا0