الاقتصاد السوداني يعاني بسبب اعتماده المتزايد علي عائدات النفط
ppالخرطوم ـ من خالد تيجاني: واجه الاقتصاد السوداني هذا العام مصاعب جمة. فالبلد الذي يتزايد اعتماده علي عائدات إنتاجه النفطي وجد نفسه محروما من الإفادة من طفرة أسعار النفط عالميا بسبب سوء الإدارة وتعقيدات التسوية السياسية لحرب الخمسين عاما في جنوب البلاد التي يدخل النفط في معادلتها.مع انطلاقة العام بدت الأجواء الاقتصادية مفعمة بالتفاؤل. فقد أجاز المجلس الوطني (البرلمان) موازنة طموحة. فالسودان الذي ينتج نحو 300 ألف برميل نفط يوميا، ويستهلك نحو خمسها محليا ويصدر الباقي، كان علي موعد مع نقلة كبيرة في إنتاجه من مشاريع نفطية جديدة كان مقدرا لها أن تضيف أكثر من مئتي ألف برميل إلي إنتاجه الحالي.كما أن أسعار النفط المتصاعدة كانت تعني أن الخزينة العامة ستغتني من عائدات النفط المفترض أن يتخطي إنتاجه النصف مليون برميل يوميا.pppولكن ما أن حل النصف الثاني من هذا العام حتي تبددت هذه الأحلام وتحولت إلي كابوس يقض مضجع المسؤولين، اذ فشلت مهمة الشركات التي أوكلت إليها عمليات ما بعد استخراج النفط في نقل الـ 200 ألف برميل الإضافية من موقع الإنتاج في حقول فلج بأعالي النيل جنوب السودان إلي ميناء التصدير علي البحر الأحمر (1600 كيلومتر)، ما أدي الي عدم دخول هذه الكمية التي كان مقدرا لها أن تحسب في عائدات الموازنة العامة منذ مطلع العام.وكانت تقارير صحافية أفادت بأن السبب الرئيسي لهذا الإخفاق يعود إلي أن وزارة الطاقة المشرفة علي قطاع النفط في البلاد عهدت إلي شركات سودانية وثيقة الصلة بدوائر نافذة في الحكم بهذه المهمة، علي الرغم من أنها تفتقر الي القدرات الفنية الكافية والخبرات المطلوبة.ولم تكن هذه هي المشكلة الوحيدة. فقد انخفض كذلك الإنتاج في حقول النفط الرئيسية التي تنتج 285 ألف برميل يوميا بنسبة 10 في المئة. وكانت حصيلة المشكلتين فقدان الخزينة العامة لموارد أعلنت وزارة المال أنها تبلغ 159 مليار دينار سوداني أي ما يعادل نحو 800 مليون دولار امريكي.ولم يكن هذا الأمر سهلا علي موازنة تعتمد بأكثر من 50 في المئة علي عائدات النفط في توفير إيراداتها، ولذلك واجهت ما اعتبره خبراء اقتصاديون انهيارا لم تستطع السلطات تحمله بعدما استنفدت خياراتها البديلة. فقد لجأت في أيلول (سبتمبر) إلي رفع أسعار المحروقات بنسبة 28 في المئة، ما أثار استياء شعبيا واسعا، وتساؤلات إزاء كفاية الأداء الاقتصادي لحكومة الرئيس عمر حسن البشير.ولم يتردد وزير المال الزبير أحمد الحسن في الإقرار بأن موازنة هذا العام كانت صعبة المنال لما واجهته من حزمة من التحديات والمتغيرات والمتطلبات الحرجة، وهو ما فرض علينا الالتزام بدرجة عالية من التركيز وموازنة سلم الأولويات لأن أي آثار سالبة علي الموازنة العامة تفضي إلي خلخلة الاستقرار الاقتصادي وتعريض البلاد إلي انتكاسات اقتصادية كبري .وقال الحسن لوكالة يونايتد برس انترناشونال (يوبي أي) ان انخفاض عائدات النفط عما هو مقدر في الموازنة لم يكن المشكلة الوحيدة التي واجهتها. فقد تأثرت الموازنة سلبا بارتفاع أسعار النفط عالميا لأن اتفاق السلام الذي يخصص 50 في المئة من عائدات النفط لحكومة الجنوب يشترط أن يتم حساب النفط المستخدم محليا حسب الأسعار العالمية.ويضيف وزير المال السوداني برغم أننا منتجون ومصدرون للنفط، إلا أننا في الواقع نستورده من جنوب السودان حسب الأسعار العالمية السائدة، وهو ما اضطرنا الي دفع فارق السعر كدعم للمستهلكين .وكان سعر النفط للمصافي المحلية جري حسابه في الموازنة علي أساس أن متوسط سعر برميل النفط 45 دولارا، بينما تعين أن يحسب بمتوسط 64 دولارا بعد ارتفاع الأسعار.ويقول الحسن أن أحد أهم التحديات التي واجهت موازنة هذا العام كان الاستمرار في الإنفاق علي مواجهة التهديدات الأمنية للبلاد وذلك في إشارة إلي الوضع في دارفور ومناطق أخري.وأشار إلي الأعباء التي تحتمها مقابلة الالتزامات المالية التي تفرضها التسويات السياسية للحروب الأهلية في جنوب السودان، ودارفور، وشرق البلاد.وكشف وزير المال السوداني عن ضعف وفاء المجتمع الدولي بتعهداته في مؤتمر أوسلو الذي عقد بعد أشهر قليلة من توقيع اتفاق السلام مطلع العام الماضي، قائلا إن المانحين لم يسددوا هذا العام سوي 23 مليون دولار لبرامج الأعمار والتنمية وإعادة توطين النازحين، وهو مبلغ ضئيل مقارنة بأكثر من أربعة مليارات ونصف المليار دولار تعهد المانحون بدفعها في غضون سنوات قليلة.وتعاني الموازنة أيضا من معالجة الديون الخارجية للسودان التي أعلن بنك السودان المركزي أنها تبلغ 27 مليار دولار لمؤسسات تمويل دولية وصناديق إقليمية. ويشير الحسن إلي أنه تم دفع 238 مليون دولار هذا العام في إطار إستراتيجية معالجة الديون الخارجية.غير أن وزير المال السوداني يري أنه برغم المصاعب التي واجهت موازنة هذا العام إلا أن وزارته نجحت بفضل إجراءات اتخذتها في معالجة الإختلالات التي حدثت، لافتا إلي الترشيد في الإنفاق العام، وتقديم محفزات تشجيعية لقطاعات الإنتاج، ورفع الحد الأدني للأجور بنسبة 20 في المئة، ومواصلة برنامج الإصلاح المؤسسي وتطوير الأداء المالي، وتحسن قيمة العملة الوطنية. ويقول الحسن إن العام الحالي شهد تحسنا كبيرا في علاقات السودان الاقتصادية الخارجية يدل عليه ارتفاع حجم تدفق الاستثمارات الأجنبية التي زادت علي نحو غير مسبوق ويقدر لها أن تصل بنهاية العام إلي 3.6 مليار دولار .وأضاف علي صعيد استقطاب العون والمساعدات الخارجية فقد تمكنا من توقيع اتفاقات تمويل تبلغ قيمتها 967 مليون دولار جاءت معظمها من الصين والهند وتركيا والبنك الإسلامي للتنمية .وعلي صعيد التجارة الخارجية تبلغ عائدات صادرات السودان لهذا العام 6.5 مليار دولار يشكل النفط 82 في المئة منها، بينما يبلغ حجم الواردات 5.7 مليار دولار.ويعزي الحسن ارتفاع الواردات إلي ازدياد واردات الاستثمار من السلع الرأسمالية والتي تصل إلي 26 في المئة من حجم الواردات. ويلفت إلي أن السودان استورد 500 ألف طن من السكر برغم أن الإنتاج المحلي بلغ 700 ألف طن ، كما تم استيراد مليوني طن من قمح.ولم تجد السياسة الاقتصادية لحكومة البشير القبول عند غالبية الذين جري استطلاعهم فثمة إجماع بينهم علي أن غلاء المعيشة لم يعد محتملا. ويقول مختار أحمد (مهندس متقاعد) إن الحكومة تلجأ دائما الي الحلول السهلة بإلقاء الأعباء علي كاهل المواطن ضاربا المثل برفع أسعار المحروقات لمواجهة عجز الموازنة و يقولون نحن دولة نفطية ولكننا لم نحس لذلك أثرا .وينتقد عبد الله عثمان (خريج جامعي) الوضع قائلا إنه لا يجد عملا علي رغم الشهادة المرموقة التي يحملها منذ سنوات. وعثمان نموذج لنحو مئتي ألف خريج جامعي عاطلون عن العمل يمثلون 10 في المئة من جملة مليوني عاطل عن العمل في البلاد.ويشن الحزب الشيوعي السوداني المعارض هجوما عنيفا علي السياسات الاقتصادية لحكم البشير قائلا إنها ظلت تنتهج سياسات أدت الي تراكم معظم الفائض الاقتصادي في أيدي القلة الداعمة للنظام والمنتفعة به، وأدت إلي المزيد من الفقر. ويتهم الحكومة بتصميم موازنات مالية تحشد موارد البلاد للحفاظ علي بقاء النظام، وتوجه الإنفاق نحو الأجهزة السيادية والأمنية والعسكرية حيث أنفقت عليها 19.7 في المئة من موازنة هذا العام، بينما لم يبلغ الصرف الفعلي علي التنمية الاجتماعية سوي 2.5 في المئة.ويقول الحزب الشيوعي في بيان أصدره هذا الأسبوع إنه لا يصدق الأرقام التي ساقتها وزارة المال في شأن عائدات النفط وتبريرها لرفع أسعار المحروقات. واعتبر الحكومة في واقع الأمر تجني مكاسب لأنها تبيع برميل النفط المكرر بضعف المبلغ المقدر في الموازنة في الوقت الذي تقول أنها تدعم أسعار المحروقات للمستهلكين.أما حزب البعث السوداني فيقول في تقييمه لموازنة هذا العام إنها انهارت بعد الانخفاض الكبير في الإيرادات العامة والذي يقدر بـ30 في المئة من إجمالي الإيرادات. واعتبر أن هذا إخفاق كان يستلزم استقالة من أعدوا الموازنة ووقفوا علي تنفيذها. ويضيف أن انهيار الموازنة حدث، إلي جانب انخفاض عائدات، النفط بسبب الزيادة الكبيرة في المصروفات الحكومية الناتجة عن ازدياد مصروفات الأمن والدفاع والصرف خارج الموازنة علي مشروعات اعتبرها ذات طابع سياسي ترتبط بحسابات حزب المؤتمر الوطني الحاكم للانتخابات العامة المقبلة.يقول وزير المال السابق، عبد الله حسن أحمد، إن المصاعب التي واجهت موازنة هذا العام تكشف خطورة اعتماد الدولة في إيراداتها علي عائدات النفط بأكثر من 50 في المئة ، وان استمرار الاعتماد علي سلعة متقلبة الأسعار سيجعل الموازنة دائما عرضة لمفاجآت غير محسوبة يصبح معها الحفاظ علي الاستقرار الاقتصادي أمرا بالغ الصعوبة. ويشير الباحث محمد الناير إلي أن الحكومة في ظل سهولة الحصول علي إيرادات مالية من النفط أهملت جوانب الإنتاج الأخري في قطاعات يملك السودان فيها موارد غنية مثل الزراعة والثروة الحيوانية. ويشير إلي أن الصادرات غير النفطية لا تمثل عائداتها سوي أقل من 18 في المئة ، وهو وضع سلبي سيزداد سوء مع ارتفاع قيمة العملة الوطنية أمام الدولار بنحو 20 في المئة هذا العام ما يقلل من القدرة التنافسية للصادرات السودانية التي تعاني أصلا. وينتقد صلاح إبراهيم أحمد (رجل أعمال) ارتفاع قيمة الدينار السوداني أمام الدولار قائلا إن ذلك لا يحدث وفق آلية السوق، كما يشدد علي ذلك محافظ بنك السودان المركزي، معتبرا أن البنك المركزي يتدخل إداريا في تحديد أسعار العملات.4