أقلام.. وخناجر
ssعلي كنعانsssppIفي مدينة ساحلية هادئة تحتفل بالشعر، أوشكت حرب داحس والغبراء أن تندلع من جديد بين عبس وذبيان لأن الشاعر علي الجندي علَّق علي إحدي القصائد قائلا: هذا ليس شعرا ولا نثرا، لكنه مديح متهافت لا يساوي الوقت الذي أضعناه في سماعه. ويومئذ، حمدت الله كثيرا علي ما أنعم علينا من آلاء لأنه وضع في أيدينا أقلاما ولم يضع خناجر أو مسدسات! ولو تحولت الأقلام يوما إلي خناجر لأصبحت الساحات العربية، علي امتدادها، مغطاة بجثث الشعراء والمفكرين والنقاد… وربما لن يسلم الواقفون علي الحياد لأن أفكارهم مقروءة مسبقا! واليوم، يكفي أن نقرأ نماذج من التعليقات المنشورة في عديد من المواقع الإلكترونية، والتي يتفضل بها أصحابها معلنين عن آرائهم علي هامش ما يكتب من مقالات، ولا سيما المقالات التي تحمل رأيا حرا مستنيرا وتدعو إلي الخروج من أهوال محاكم التفتيش وظلمات القرون الوسطي. وحتي الأصدقاء الذين يكتبون في “القدس العربي” لم يسلموا من خناجر النقدة الأشاوس… وليس لي أن أكرر ما قاله أولئك المعلقون المنقوعون بالحقد والضغينة من دون أن داع واضح أو مسوغ منطقي لذلك. pppهذه مجرد إشارة إلي واقع الحال في المزاج النفسي والأخلاقي السائد في كثير من مجالات حياتنا الثقافية، وهو واقع أشد بؤسا وانحطاطا وظلامية من أيام السلطنة العثمانية وهي تودع الأرض العربية من دون رجعة. إن خمسين سنة من غياب الحرية، أي علي مدي جيلين متواصلين، جعل التفوه بأي رأي مخالف للقارئ أو المتصفح عرضة للنهش والتهشيم والتنكيل. والآية الكريمة: [… ولا يغتب بعضكم بعضا، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه..] هذه الموعظة الربانية، لم يعد أحد يتفكر فيها.. حتي الذين افتتحوا دكاكينهم الحزبية في محراب الدين الحنيف، تناسوها وانزلقوا إلي المستنقع الوخيم الذي غرق فيه الآخرون!IIماذا تعني الدعوة إلي الديمقراطية أو الكتابة في سبيل تحقيقها، إذا كان المزاج السائد في المجتمع، سواء السياسي منه أو المدني، لا يقبل أي لون آخر غير لونه ولا يريد أن يسمع غير صوته؟! هل يتحول الكتَّاب من أنصار الحرية وسيادة القانون إلي حفنة من عشاق عذريين فاتهم القطار فانطووا علي جراحهم وخيباتهم ليمسحوها بالابتهال والدخان والنواح؟!وفي مجالس الأصدقاء، علي قلتهم وضيق أوقاتهم، أري أن الموالين لنظام الحكم في بلادهم – من موريتانيا حتي العراق- أكثر انسجاما بعضهم مع بعض وأقرب إلي التفاهم والمسايرة من أولئك المعارضين والمناوئين، ولا سيما بين قوي اليسار، علي اختلاف انتماءاتهم وتعدد مشاربهم. وحتي الذين ذاقوا مرارة السجون وقضوا في سراديبها سنوات وسنوات.. خرجوا منها أشد توترا ونفورا من أصحابهم الآخرين، فهل كان لرطوبة السجون أثر سلبي علي معادنهم الصلبة فلم تكسبها إلا صدأ وتصدعا وتشظيا؟! وأنا هنا لا أتحدث عن أولئك المناضلين الكبار، إنما أشير إلي كثير من أولئك الصغار الذين يختفون وراء الأقنعة وينشرون بأسماء مستعارة، ويحولون الكلمات إلي خناجر ملفوفة بالحرير وسموم كيمياوية قاتلة. إن الكاتب- الذي يعتصر قلبه أن يري وطنه نهبا للرياح الداهمة من كل اتجاه في الداخل والخارج- لا يملك إلا أن يتأمل، بقهر ومرارة، مشاهد هذه الدراما الدائرة في الساحات العربية، وهي من أقسي أنواع الكوميديا السوداء. وليس في يد هذا الكاتب غير أن يقول كلمته التي سرعان ما تتبخر في الهواء، بعيدا عن أي فعل أو جدوي… وكأنما يغنِّي في طاحون أو يكتب دفعا للعتب! لكن كثيرا من الممثلين الأساسيين في أداء هذه الدراما، فضلا عن المخرج العالمي الكبير، يحاولون أن يقلبوها إلي تراجيديا شيكسبيرية لا تنتهي حتي تغطي الخشبة بجثث المتفرجين وأشلاء الضحايا.IIIأين المشروع الفكري المستنير، علي مستوي الأمة.. وأين قواه الجماهيرية المساندة؟ كنا نحلم بانتصار معارك التحرر الوطني منذ أيام تأميم قناة السويس ودحر العدوان الثلاثي… ماذا فعلت الأحزاب القومية الاشتراكية الحاكمة؟ وماذا فعلت الأحزاب والتيارات المعارضة؟ وما هي المحصلة؟ ولماذا كان العدو الصهيوني هو الرابح الوحيد في هذا البازار الدموي الرهيب؟!من السهل أن نلقي بكل هزائمنا وخيباتنا وإحباطاتنا علي كاهل الاستعمار الجديد والصهيونية العاتية، وهما طرف داخلي في اللعبة الجهنمية بقدر ما هما ضاغطان من خارجها… هذه حقيقة فاقعة الألوان، لكن ماذا فعلنا نحن؟.. ماذا فعلت الأنظمة الحاكمة؟ وماذا فعلت قوي المعارضة؟ وماذا فعلت الأكثرية الصامتة التي تحولت، تحت ضغوط الحاجة والعوز وأشباح الخوف المتربصة بها في كل زاوية، إلي قطعان بكماء خانعة وجاهزة للمسيرات والاستماع والتصفيق؟!ونحن الكتَّاب الذين نطمح إلي أن تكون أقلامنا مشاعل لا خناجر… ماذا فعلنا؟ وماذا فعل أصحابنا في المجالات الثقافية الموازية؟ هذه الأسئلة، علي مرارتها، ليست لجلد الذات واسترجاع حالات الندب والتجريح التي ابتلينا بها بعد هزيمة حزيران. إنما لا بد لنا من مراجعة أنفسنا وأفكارنا وانتماءاتنا في ضوء الواقع اليومي ومتغيراته الرهيبة.IVبعد تجربة العراق وفلسطين ولبنان والصومال.. وغيرها من التجارب الدموية التي يرشحون لها أكثر من بلد عربي، بدءا من سوريا وليس انتهاء بالسعودية، أشعر بأني صرت أميل إلي الوقوف ضد ما يسمي بـ “الديمقراطية” في البازار العالمي الواسع ومنابره المتعددة. وحتي هذه اللعبة البازارية، علي الطريقة اللبنانية، لم تعد تستهويني أو تريحني… بل تحولت إلي كوابيس في اليقظة أمر وأدهي من كوابيس النوم إن الذين يراهنون علي المحكمة الدولية، مثلا، لتغيير النظام في سورية لا يختلفون عن أولئك البائسين الحالمين، جهلا أو تواطؤا أو انتفاعا، بأن يحقق لهم السيد الحريري الثورة الاشتراكية علي طبق من ذهب إقطاعي وهاج يقوم السيد جنبلاط بتصميمه وتصنيعه في أجمل منتديات الاشتراكية الدولية! ومع أني أقف وراء المقاومة اللبنانية الباسلة وقائدها، بلا تردد ولا تساؤل، ما دام السلاح موجها إلي قوي العدو الصهيوني… إلا أن الإجراءات الأخيرة التي اتخذها حزب الله والتيار الوطني الحر لا يمكن النظر إليها باطمئنان.. كما لا يمكن الاطمئنان لما يفعله السفير الأميركي والمعتصمون في سراي الحكومة. إن الحرائق المدمرة تبدأ من أصغر الشرر. وأنا، في هواجسي هذه، أقف مع الشاعر أحمد منصور في معظم ما جاء في كلمته المخلصة والمستفيضة التي نشرتها “القدس العربي” قبل أيام.Vكلمة أخيرة خارج السياق:إن اجتماع أعياد الأضحي والميلاد ورأس السنة لن يتكرر قبل ثلث قرن قادم، وكم أتمني من رؤساء الدول العربية، بدءا من الدكتور بشار الأسد، أن يكرموا هذه المناسبة السماوية الجميلة فيقرروا تبييض السجون السياسية حتي تكتمل الأفراح بالأعياد بين الأهل والأحبة والأصحاب. وأنا علي يقين جارح أن كثيرا من الكتبة سوف يشتمونني علي هذا الطلب المتواضع، لكني لا أملك إلا أن أقول لهم مسبقا: سامحكم الله!ہ شاعر وكاتب من سورية8