من عروض الدورة الثلاثين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي: محصلة المراهنات عذابات فلبينية يعمدها موت مؤجل عبور التراب بصيرة عراقية كردية تنتصر للوجدان

حجم الخط
0

من عروض الدورة الثلاثين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي: محصلة المراهنات عذابات فلبينية يعمدها موت مؤجل عبور التراب بصيرة عراقية كردية تنتصر للوجدان

زياد الخزاعيمن عروض الدورة الثلاثين لمهرجان القاهرة السينمائي الدولي: محصلة المراهنات عذابات فلبينية يعمدها موت مؤجل عبور التراب بصيرة عراقية كردية تنتصر للوجدانالحرب تتوافر بتورية ذات فطنة باهرة في الشريط الفليبيني محصلة المراهنات للمخرج جيفري جوتيريان (عرض ضمن خانة مهرجان المهرجانات ) ولكن باختزال درامي ذكي لن نكتشفه الا لاحقا، وعبر تجسيد روح الابن العسكري الذي قتل في ارض معركة بعيدة. السيدة امليتا (اداء باهر من الممثلة جينا بارينو) تعيش مع زوجها المعاق (القابع امام التلـــــفزيون) في كوخ ضيق، ويعانيان من شظف العيش، فحياة المدينة الكبيرة لا ترحــــــم لمن تحصن في ازقة الاحياء القصـــــديرية القذرة والخطرة. وبما ان البطلة لم تختر قدرها، بل وجدت نفسها امام اشتراطات عائلية تستوجب التحايل علي الفاقة وحاجاتها، لا تجد سوي مشاركة العشرات ممن امتهنوا تحصيل اموال المراهنات من طالبي الثراء السريع.فيلم المخرج جوتيريان (ولد في مانيلا عام 1959 وهذا عمله السينمائي السادس) هو رحلة ثلاثة ايام من حياة البطلة، وفيها تصور الكاميرا المحمولة علي مدي 98 دقيقة لقاءات امليتا المتعددة مع كيانات مسحوقة وتجولها في الأزقة الخانقة، سعيا الي اقناع اكبر عدد من المضاربين. هنا سنصادف سيدة تستجدي كي تؤمن مراهنتها، وصاحب بسطة فقيرة يقتطع لقمة اولاده من أجل فوز مستحيل، واخر يمد يد اللصوصية علي المال المؤمن لديه ضاربا بالثقة عرض الحائط، اما اكثر الشخصيات اثارة فتتمثل في الشابة التي ستقدم لها امليتا مباركتها بـ فوزها بسائح امريكي سيخلصها من حياة النكد التي تربت فيها ودفعتها الي العمل كنادلة، تقول لها البطلة: امسكي الحظ باسنانك ولا تعودي ثانية ابدا .امليتا هي جان دارك الاحياء الاشد فقرا تحمل في يدها ورقة وقلم المراهنات (بدلا من السيف والدرع) وتجاهد في العودة الي بيتها وقد ضمنت مورد اليوم، علي ان تدخل في صراع مشابه في اليوم التالي. في هذا المضمار كتب المخرج جوتيريان شارحا: في بلد يغوص عميقا في الفقر وفساد نظاميه السياسي والاجتماعي، اصبحت الحياة لا تطاق الي سواد الفلبينيين، وعليه فان كل يوم بالنسبة لهم ليس تأمين لقمة العيش بل، ببساطة، السعي للبقاء احياء !. تري من يزكي ـ يتساءل جوتيريان ـ هذا العمر الهامشي؟ يجيب: لا احد سوي الاموال فهؤلاء الذين ضمنوا الراحة من عذابات حياة عصية، ستكون اعادات تمظهرهم بمثابة اشارات للنعي المقبل للاموات التاليين، ومنهم امليتا التي ستشاهد، في اقصي درجات رعبها بعدما وجدت نفسها تائهة في الدروب الضيقة، ان احدهم يتتبع خطاها طمعا باموال المراهنات، لنكتشف معها ـ بعد رحلة شقائها ـ انه خيال الابن الجندي. وحين تشارك البطلة العجوز مع عائلتها في العيد الوطني لشهداء الحروب، سيتمظهر هذا الابن مرة اخري في جثة الشاب الذي قتله اعوان الشرطة السرية بالخطأ اثناء مطاردة لص. تحتضن امليتا الشاب الميت، لتري الدمعة التي تنسفح علي خد ابنها الواقف علي الرصيف المقابل، وكأنه يقول: لا تراهني عليه، فحياتك القصيرة ايضا رهان فاشل. وموته مثلي برصاصة طائشة، يجعل من لهفتك علي البقاء حية مدة اطول ليس سوي هباء سينتهي عاجلا .في المشهد الختامي، سنري البطلة، وسط الجموع الراكضة، وهي تتعثر بخطواتها ضاغطة علي جهة قلبها العليل. لن نشهد موتها بالضرورة، لأن محصلة المراهنات ما زال عليها دفع اقسام قدرها المؤجل في اكثر احياء مانيلا بؤسا.الفيلم العراقي الكردي عبور التراب للمخرج شوكت امين كوركي (ولد في زاخو عام 1973 ونشط فنيا في ايران قبل عودته الي كردستان العراق في 1991) يداور حكايته المتباسطة علي ثيمة القدر ذاتها في محصلة المراهنات الفليبيني، فالموت المقبل لمقاتل البشمركة الشاب آزاد علي يد عنصريين من ازلام النظام السابق، هو تعميد بهي لنقاء روحه وطلقه الحياتي، ما يجعله علي طرف النقيض من رفيقه رشيد الذي يحمل في دواخله غلا وحقدا بعدما فقد عائلته في جريمة الانفال . المخرج كوركي سيمتحن دوافعهما ويفضحان بتأن درامي. انه يوم السقوط الكبير، والشابان ضمن مجموعة مقاتلة تشاهد الجنود الامريكيين وهم يسحبون تمثال الحاكم المجرم وسط بغداد في اليوم التاسع من نيسان (ابريل) 2003. وبعد فرحة قصيرة يأتي ايعاز القيادة لهما بضرورة نقل المؤونة الي مركز آخر، يستوجب عليهما سياقة سيارتهما العسكرية عبر مناطق (ارادها المخرج كوركي خليطا بين جاليات متراكبة، في اشارة لا تخلو من سذاجة الي تنوع النسيج العراقي). وفي منطقة معزولة سيصادفان صبيا يلبس دشداشة عربية ويبكي بحرقة. يصر آزاد علي انقاذه وايصاله علي الاقل الي اهله، فيما يقف رشيد معارضا. هذا الفعل الانساني البحت سيتحول الي مواجـــــهة بين مفهومي الوجدان والفرقة، حين يستــفهم ازاد الصبي عن اسمه سيفاجأ بالجواب البري: اسمي صدام ! يقع الاسم ثقيلا علي كيان رشيد ويغل في اهانة الصبي، مواراة لانتقام متأخر. فيما يبقي الآخر علي قناعته بان الصبي لا يحمل ذنب اسمه (وتعضيدا لهذا يصور كوركي مرات عدة والد الصبي وهو يلعن اليوم الذي اطلق الاسم اللعين علي فلذة كبده، ويتحامل علي زوجته انت السبب. ان وجدناه سأغير اسمه الي عبد الله! ).ولئن كان وجدان ازاد (وهو الفنان الذي يعزف علي الناي كأحد رعاة الجبال) يدفعه نحو البراءة، فان قدره الدرامي ـ كشهيد ـ سيتحقق علي يد مسلحين يتنكر احدهما بعباءة امرأة (يظنهما الصبي والديه)، قبل ان يطلقا رصاصات الغدر (يقول احدهما في اتصال مع قيادييه لقد انتقمنا من الانفصاليين الغوغاء وقد بانت بوضوح اللهجة الكردية علي لسانه الاعوج!!). وبسبب عاهته التي هي نتيجة اصابة معركة، سيفشل رشيد في انقاذ حياة رفيقه. ولا يجد سبيلا في التخلي عن الصبي ـ المعضلة والذي تحول الي ما يشبه الدين الاخلاقي في عنق الشاب الذي تأكل الفرقة قلبه.في المشهد الختامي سيجلس صدام الصغير الي جنب رشيد وهما يسكبان دمعات الحسرة علي الشاب النبيل الذي اجتاز غبار الحياة الفانية ليحل شهيد دوافعه النبيلة. اما مكافأته فهي ضحكات الامل التي سيطلقها الصبي وهو يشهد حركة سحرية من جثة آزاذ اذ تمتد يده اليمني الي جيب صديريته التقليدية ليسحب نايه، عازفا انشودة الاجماع العراقي . عبور التراب فيلم ضد وشجاع في آن امام معايير العنصرية والطائفية التي تأكل الجسد العراقي اليوم، وما توكيده الضمني (والخالي من الشعارات المجانية) الي الالفة اللاحقة بين العصابي رشيد والصبي سوي دعوة نبيلة من المخرج كوركي لنبذ العداء الذي تكاد ان تكرسه مفاهيم الثأر وتجزئه الجريمة، مثلما فعل المخرج الكردي هونير سليم في فيلمه سيء الصيت كيلومتر صفر الذي ركب موجة التحامل ولي الحقائق حين جعل من الكردي الضحية الوحيدة لنظام القتل الجماعي.كوركي انتخب اقصر الطرق السردية سلاسة، وهو يبدو للمهني نصا سهلا وشديد المباشرة، بيد انني شخصيا لم اجد في ذلك ضيرا، اذ بان هدف المخرج الشاب في تركيزه علي مفارقة الاسم الذي سيتبرأ منه الجندي الامريكي اسوة بامام الجامع وقس الكنيسة وعامة الشارع، وكأنه مســـاءلة للقناعات التي تولدت بعـــــد سقوط النظام البعثي: ماذا سيتبـــــــقي بعد خمود غبار تراب التاسع من نيسان، الاصرار علي شبح صدام ام السعي نحــــو افق اوسع؟ (اللقطة الاخيرة تظهــــــر سيارة آزاد ـ رشيد ومعهما الصبي العربي وهي تسير نحو الافق المفتوح).ناقد سينمائي من العراق يقيم في لندن0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية