روسيا يلتسين: جدل المخاضات العسيرة والولادات الزائفة

حجم الخط
0

روسيا يلتسين: جدل المخاضات العسيرة والولادات الزائفة

صبحي حديديروسيا يلتسين: جدل المخاضات العسيرة والولادات الزائفةليس من المسلّم به أنّ التاريخ سيحفظ للزعيم الروسي بوريس يلتسين (1931 ـ 2007) تلك الصورة الأيقونية الشهيرة (في آب/أغسطس من العام 1991)، أمام البرلمان الروسي، حين امتطي دبابة تابعة لجنرالات الجيش الأحمر الذين أعلنوا الإنقلاب علي ميخائيل غورباتشيف، قبل أن يفشل الإنقلاب علي نحو تراجيكوميدي)؛ أو تلك الصورة الأيقونية الأخري (في تشرين الأوّل/أكتوبر 1993) حين أمر ـ باعتباره الرئيس، هذه المرّة، وبعد استدراج ولاء وزارة الداخلية والجيش الروسي ـ بقصف مبني البرلمان الروسي ذاته لفضّ نزاع دستوري مع النوّاب المعارضين، علي نحو غير بعيد عن الروحية ذاتها: المأساة ـ المهزلة.أم أنّ التاريخ سوف يحفظ، قبل هذه وتلك، قرار يلتسين بغزو بلاد الشيشان في كانون الأوّل/ديسمبر 1994، بعد اعتبار الخيار العسكري أفضل وسائل دحر التمرّد وإجبار الشيشانيين، وسائر القوقاز، علي البقاء ضمن الإتحاد الروسي؟ قرار الغزو ذاك كان نذيراً مبكّراً بما يمكن أن تسفر عنه، أو تجيزه أوتسبغ عليه ترخيصاً جيو ـ سياسياً زائفاً وبذيئاً، تلك التطوّرات الكبري التي اندرجت جميعها في نظرية نهاية التاريخ: ثورات القرنفل في أوروبا الشرقية، انهيار جدار برلين، وإغلاق دكاكين الحرب الباردة. ومن المدهش أن يلتسين نفسه كان السبّاق إلي الإعتراف بالمضمون الملتهب للملفّ الشيشاني، وأعلن بالحرف الواحد أنّ التدخل العسكري في الشيشان غير مقبول. ولو خرقنا هذا المبدأ فإن القوقاز بأسره سينتفض. ولسوف يسود الكثير من الرعب والدماء، بحيث لن يغفر لنا أحد بعدها . ولقد احتاج إلي أقل من أربعة أشهر لكي يتخلي عن هذا التقدير الحكيم، ويطلق دائرة الرعب والدمار والموت العميم، فلم تفلح خمس سنوات تالية في تذكيره بصواب التقديرات الأولي… تقديراته هو بالذات.وكان أكثر إدهاشاً أن ينقلب خطاب يلتسين رأساً علي عقب، في الإصرار علي تلقين دوداييف الدرس الذي يليق به ، وعلي ضرورة قتل الكلاب المسعورة ، وما انطوت عليه وقائع الغزو من مذابح ومجازر واغتصاب وتمثيل بالجثث وسرقة الأعضاء البشرية (هي االمشاهد ذاتها لتي تدور اليوم أيضاً في بلاد الشيشان،باتساق تامّ بين الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين، وجنرالات الجيش، ومعظم الأحزاب السياسية. كأنّ السلطات الروسية تعيد إنتاج حلقات العنف ذاتها التي حكمت علاقة السلطة المركزية بالشيشان طيلة عقد التسعينيات، وكأنّ المفارقات ما تزال هي ذاتها، أو تكاد). ولكي لا تُنسي أنساق التواطؤ الأمريكي، والغربي إجمالاً، مع حرب روسيا ضد الشيشان، نتذكّر واقعتين: حين استعر أوار هذه الحرب كان يلتسين ضيفاً عزيزاً علي قمّة العمالقة السبعة في هاليفاكس، يمرح في شوارع المدينة ويستمتع بالسيرك المعدّ خصيصاً للقمة؛ والصليب الأحمر الدولي أفاد رسمياً أنه لا يوجد أي أسير شيشاني في قبضة الجيش الروسي، ليس لأيّ اعتبار آخر سوي أنّ هذا الجيش لا يعترف بتسمية كهذه! اللافت أنّ وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر كان آنذاك أقلّ حماساً لشخص يلتسين في الانتخابات الرئاسية، فطالب الإدارة الأمريكية وإدارات العالم الحر بأسره أن تقف وراء سيرورة التغيير، وليس رجال التغيير؛ وراء المحرّك، وليس الهواة الذين يتدربون علي طرائق تشغيله؛ وراء روسيا الراقدة مؤقتاً قبيل صحوة عنيفة، وليس حفنة رجال شاءت الأقدار وحدها أن ينفصلوا عن عقود طويلة من العمل في الحزب الشيوعي السوفييتي، وأن ينتسبوا إلي نادٍ ليبرالي لا يفقهون من قواعده حرفاً، ولا يبدو أنهم سيفعلون في أي وقت قريب منظور. وحين لاح أن كيسنجر لا يبدي أي قدر من التخوّف علي مستقبل يلتسين السياسي، فليس لأنه وضع هذا الأخير في سلّة واحدة مع خصمه المرشح الشيوعي غينادي زيوغانوف، بل لأن خمس سنوات من الليبرالية العمياء ما بعد اصطخاب الـ بيريسترويكا وعجيج الـ غلاسنوست ، لكي لا ننسي، كانت تكفي بذاتها لتغطية خمسة عقود من جدل المخاضات العسيرة والولادات الزائفة!والحال أنّ نزيل قصر الكرملين كان يقترب من صورة القيصر بوريس، بقدر نأيه عن صورة الرئيس العصري الديمقراطي الإصلاحي، وكانت قراراته المتقلبة المتسارعة تبرّر وصف زيوغانوف المستمدّ من فيودور دستويفسكي: قد لا يكون هذا الكرملين بيت الموتي، ولكنه بالتأكيد بيت المجانين! ستّة رؤساء وزارة في ثمانية عشر شهراً… ألسنا بالفعل في بيت مجانين ؟ سأل الزعيم الشيوعي زوغانوف، دون أن يبدو سعيداً أبداً بحقيقة أنّ رئيس الوزراء الجديد، فلاديمير بوتين، يأتي من قلب مؤسسة شيوعية عتيقة كانت علي الدوام مدرسة تأهيل وتخريج الحرس القديم: المخابرات، أو الـ KGB دون سواها. ولقد توفّر تصريح آخر شهير، عالي البلاغة بدوره، علي الضفة الأخري: رائحة احتضار الكرملين، ممتزجة بجنون سيّده، تفوح من هذه القرارات العجيبة ، قال بوريس نمتسوف الذي كان حتي وقت قريب عضواً في الحلقة الإصلاحية الضيّقة التي أحاطت بالرئيس الروسي بوريس يلتسين إحاطة السوار بالمعصم. إنه، بدوره، لم يكن مبتهجاً أبداً بتسمية بوتين لرئاسة الوزارة، ليس لأسباب تعود إلي انتماء الأخير إلي تلامذة الحرس القديم ومدرسة القلعة الإستخبارية السوفييتية العتيقة، التي تواصل الحياة رغم تحوّل عظام النظام السوفييتي إلي رميم. كان حزيناً لأسباب ليبرالية صافية!سخط من جانب الشيوعيين الملقبين بـ المحافظين ، وسخط من جانب الإصلاحيين الملقبين بـ الليبراليين ، سواء بسواء. أيعقل أن تلك كانت الديمقراطية الوليدة التي أُريد لها أن تجتثّ الشيوعية السوفييتية من جذورها الأقدم التي ترتدّ إلي أواخر القرن التاسع عشر؟ أيعقل أنّ البُعد الثاني بعد جنون القيصر بوريس، هو أنّ العائلة حلّت محلّ الحلقة الإصلاحية في صناعة وصياغة قرارات الكرملين، الداخلية وذات الصبغة الإستراتيجية بصفة خاصة؟ و العائلة تلك، أليست رهط الأفراد القلائل المقرّبين من يلتسين، القابضين علي زمام الأمور في السياسة الداخلية والأمن والإقتصاد، وأصحاب المصلحة الكبري في هندسة مستقبل روسيا علي نحو آمن خالٍ من العواصف الديمقراطية ؟ ألم تكن هذه الوقاية تعني انتفاء التحقيق في الفساد المالي، والتجريد من الإمتيازات، وتفكيك شبكات النفوذ، وضبط الإستثمارات (النفطية بصفة خاصة) وسياسة المصارف والبورصة؟والحال أنه كان يكفي المرء أن يستعرض لائحة أفراد العائلة هذه لكي يدرك حجم تأثيرها في عقل وروح وجسد القيصر إياه، الذاهل الذاهب أبعد فأبعد نحو خريف البطريرك: تاتيانا داشنكو (ابنة يلتسين)، ألكسندر فولوشين (رئيس أركان الكرملين)، بوريس بريزوفسكي ورومان أبراموفيتش (أبرز شيوخ المال والأعمال والمصارف). هؤلاء كانوا القطط السمان في التعبير الشائع، أو الأوليغارشية الجديدة في التعبير الروسي الخاصّ، وكانوا يملكون مفاتيح الجبروت الكبري: من شركات النفط والصحف اليومية وأقنية التلفزة، إلي مصانع التعدين والأغذية ومؤسسات الاستيراد والتصدير، وصولاً إلي الأهمّ والأخطر: المصارف الخاصّة.وفي الخلفية الاجتماعية ـ الإيديولوجية، كانت تحتدم معركة خفيّة حامية الوطيس، بين استقطابين عملاقين تتمحور من حولهما وتلتقي فيهما، أو علي النقيض منهما، جملة التيارات الشيوعية والليبرالية والإشتراكية الإصلاحية و اشتراكية السوق والنزعات القومية المعتدلة أو تلك المتطرفة. وكانت المعركة تصنع كلّ يوم، وتبلور أكثر فأكثر، تيّارين مركزيين باتا جزءاً لا يتجزأ من الفسيفساء المعقدة التي رسمت قسمات شعوب أوروبا الشرقية ما بعد الحرب الباردة: الإستقطاب الإستغرابي (نسبة إلي الغرب)، والاستقطاب الأورو ـ آسيوي (نسبة إلي موقع روسيا الفريد علي التخوم الحاسمة لقارّتين شهدتا وتشهدان أعمق الصراعات الحضارية علي مرّ التاريخ). ولكي لا يخوض المرء علي الفور في المستنقعات العكرة لأطوار ما بعد الحرب الباردة (خصوصاً بعد أن تكفّل التاريخ ذاته بإلحاق الهزيمة النكراء بالنهايات الفوكويامية)، تجدر الإشارة إلي أن هذين التيارين لم يولدا علي حين غرّة. والباحث الروسي فلاديمير بيلينكين رصد الأجنّة الأولي منذ السبعينات، في الأوساط الإيديولوجية والفكرية القريبة من المكتب السياسي للحزب الشيوعي السوفييتي والأجهزة البيروقراطية العليا، فضلاً عن الـ KGB. وغنيّ عن القول إن هذين الاستقطابين كانا يتناميان في حاضنة مناسبة للغاية، أبرز عناصرها هي التالية:ـ قوة عظمي تملك ثاني ترسانة نووية في العالم، ولكنها تنزلق رويداً رويداً إلي مصافّ المقاييس التقليدية لدولة عالمثالثية، في المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.ـ إقتصاد نهض علي التصنيع الثقيل، ولكن أساسه الوطني صار يعتمد علي تصدير المواد الخام واستيراد المنتجات الغذائية المصنّعة، فتزايد ارتهانه للرأسمال الأجنبي والإستثمارات المتعددة الجنسيات.ـ تباين صارخ في التوزيع الاجتماعي للثروة القومية، وشروخات حادة بين الأغلبية الأكثر فقراً وبؤساً، والأقلية المنعمة المنشطرة بدورها إلي كومبرادور رأسمالي متحالف مع الشركات الغربية العملاقة، وقطاعات طفيلية متحالفة مع المافيات الداخلية ومجموعات الضغط القوموية.المرتكز العقائدي للإستقطاب الاستغرابي الروسي بدأ من إعادة النظر في الثورة الروسية والطور السوفييتي بوصفهما إجهاضاً للمسار التاريخي الكوني الطبيعي الذي كان سيفضي بروسيا إلي النظام الرأسمالي، كما هي حال أوروبا والغرب إجمالاً. من هنا دعا هؤلاء إلي تصحيح الخطأ التاريخي الفادح، والعودة بالاقتصاد السياسي والنظرية الاجتماعية إلي الينبوع: إلي آدم سميث ومفهومه للمجتمع المدني المنظّم ذاتياً، وإلي مدرسة شيكاغو الاقتصادية في أقصي تمثيلاتها اليمينية (جورج شولتز، وأضرابه). وبالطبع، لا مجال عند هؤلاء للتفكير في الديمقراطية بمعزل عن الليبرالية والسوق المنفلت من كل عقال، ولا مجال أيضاً لأية عقلنة في اقتباس الأنساق الثقافية السائدة في النماذج المعاصرة من المجتمعات الرأسمالية. وهكذا كان يتمّ استيراد الليبرالية والثاتشرية والريغانية والتفكيكية وما بعد الحداثة، تماماً كاستيراد سيارات المرسيدس والأوبرا الصابونية والـ سيكس شوب وعنف شوارع لوس أنجليس والبغاء المخملي.ولكن خطّ التدهور الموضوعي الملازم لهذا الانفتاح البربري كان كفيلاً باستيلاد القطب الأخلاقي النقيض له، أي ذاك الذي يدغدغ روح روسيا وماضيها الإمبراطوري العريق. وهكذا فإنّ دعاة هوية روسيا الأورو ـ آسيوية لم يتورعوا عن وصف الحضارة الغربية بـ الظاهرة الكولونيالية الإثنو ـ ثقافية ، التي تستخدم الاقتصاد والسياسة والثقافة والجيوش لإخضاع الحضارات الأخري وإجهاض مسارات تطورها الطبيعية. أكثر من ذلك، وبدل الذهاب إلي آدم سميث، توقف الأورو ـ آسيويون عند الأنثروبولوجيا الثقافية لكي يشددوا علي أن الروس جزء رائد في عائلة الشعوب التي حكمت وجودها، وصنعت حضارتها، قيم أخري مختلفة عن تلك التي أشاعتها وفرضتها أوروبا الرومانية ـ الجرمانية .هل تدخل هذه في عداد الأيادي البيضاء، حتي غير المباشرة، التي يمكن أن تُسجّل لصالح يلتسين في ذمّة روسيا المعاصرة؟ ليس تماماً، لأنّ أطروحات المستغربين قرّبت بيوتات المال والمافيا ونفّرت عامة الشعب، وأطروحات الأورو ـ آسيويين أدّت إلي العكس: إثارة حفيظة المستثمرين والصيارفة والليبراليين والتكنوقراط، واستقطبت سلسلة التناقضات العقائدية التي تجمع الحزب الشيوعي والحزب الزراعي وحزب جرينوفسكي القوموي العنصري… ذلك يجعل روسيا بوريس يلتسين، كما تتواصل في روسيا خلفه فلاديمير بوتين، مخلوقاً ديناصورياً نووياً مغترباً عن هويته، عاجزاً عن مجاراة أعدائه الرأسماليين القدماء، تماماً مثل عجزه عن مجاراة حلفائه الشيوعيين القدماء (الصين بصفة خاصة). أو كما اختصرها الجنرال ألكسندر ليبيد: روسيا الضائعة الحائرة بين فكرتين: واحدة قديمة أسالت أنهاراً من الدماء، وأخري جديدة لم تتحقق إلا علي نحو رديء .9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية