بغداد 2020: صورة شخصية علي مشهد عريض
في العراق الان سلطتان فعليا: حكومة متعاونة مع الأجنبي ومقاومة.. صامتة وأخري مسلحةمنذ بدأت الحرب والقوة هي القول الفصل في الواقع العراقي اما الثقافة فمستهانةبغداد 2020: صورة شخصية علي مشهد عريضبرهان الخطيب: بعد أربعة أعوام علي شن الموجة الثانية من الحرب العالمية الثالثة ضد العراق ربيع 2003 ، الموجة الأولي حرب إخراج العراق من الكويت بداية تسعينات القرن المنصرم بتحالف 32 دولة، تظهر أمام المهتمين بالمنطقة تساؤلات عامة وشخصية، هل سوف تكون هناك موجة ثالثة؟ ضد إيران هذه المرة أو غيرها؟ هل كان شنها صوابا؟ مَن علي صواب ومَن أخطأ، ولماذا؟ علي صعيد شخصي أجبت بدعوة من وسائل إعلام غربي حينه، وخلفي وأمامي مصلحة العراق، خبرة ودراسة وكتابة روايات خلال اربعة عقود، فطرحت فكرة أصدقاء لا عملاء لامريكا تحصنا ضد تذويب، توفيقا بين مشروع تغيير ديمقراطي منتظر في العراق طويلا، ومصادرة واجهاض له بعد الحرب، علي أمل إحيائه، مشروع لا بد منه، بل لا مفر منه، فشلت القوي الوطنية في صياغته وتحقيقه قبل وبعد حرب 2003 لتمحورها حول الطائفة والقومية والذات، فساعدت بذلك علي نشوب الحرب. من جانبي كتبت عن المصالحة بصحيفة لندنية قبل الحرب بسنوات. نتيجة تنكر الساسة للمثقف والوطن واضحة. لعل رئيس الوزراء المالكي وغيره حين كرروا لاحقا فكرة (أصدقاء لا عملاء) أرادوا تدارك بعض ما حصل. عموما الفكرة من تصور أوسع من أن يكون صادرا عن وجهة نظر غربية، جعلت نظام صدام واسلحة دمار شامل مفترضة عنده بعبعا مخيفا للعالم، ولا عن وجهة نظر صدامية، عرضت نظامه الدكتاتوري شديد البراءة، رغم أنه لا معني طبعا لحياد حين يتعرض الوطن لغزو. حياد هو إذن ليس بين الخير والشر، بل بين الخير والخير أو هكذا تمنيت أن يكون، أو هو بين الشر والشر صيانة لخير، هكذا كشف الواقع، ذلك من موقف إنسان شريف وجد نفسه بين سندان الدكتاتورية ومطرقة الغزو، خلافه ينتمي لأحد طرفين لاحتماء في الأقل من الطرف الآخر، هكذا توزعت كثرة علي الطرفين، مَن استطاع الصمت تحصن به، علي ما قد يعني من قبول أو رفض أو انتظار ريثما ينجلي الحال ويفسر كما شاء. حالة الاستقطاب الحاد التي خلقها تصريح بوش الابن قبيل الحرب (مَن ليس معنا ضدنا) جعلت آنذاك خيارات أجهزة الاعلام أيضا، إن كانت لها، في التعامل مع الآراء المطروحة محدودة جدا. خيارات تراوحت أيضا بين (مع أو ضد) هكذا مُسحت خانة الوسط علي الساحة الاعلامية، هكذا تم التعامل مع الرأي المطروح والمستنطَق، قصد فرز ورصد العامة والخاصة تهيئة وتيسيرا لحالة حرب. بالنسبة لي لم تكن مُرضية تلك الطريقة في التعامل مع الرأي، تكلمت عن ذلك مع صحافيين سويديين وكتبت عن جانب منه في القدس العربي وتم في لقاءات تالية معي مثلا تدارك ما أمكن تداركه. في حالة الاستقطاب تلك، ومع غياب المعلومات الدقيقة الحرة، لتأميم وسائل إعلام من مؤسسات تسخره لمصالحها قبل المواطن، غالي البعض في إبداء موقفه، عرضه دون ظلال، تبني فجأة آراء ما آمن بها، ثمة من احتل سفارة عراقية، ذهب أبعد و داس مفهوم الوطن والاخلاص له، عذره تغير المفهوم، وطنه اصبح حساب بنك، خالطا بين المقدس والمدنس، بين الوطن والنظام والحُكم. أسيء أيضا استبيان مُستنطقين، ومن قراء ومشاهدين ومستمعين أسيء فهم عقلانيين، حُرّف الرأي أحيانا، ما جعل أحد السادة يكتب مؤخرا تعليقا في صحيفة طالبا اعتذاري للشعب العراقي، لتأييدي برأيه شن الحرب علي بلدي العراق! مَن يعتذر لمن؟كتبت ردا عليه إلي الصحيفة أوضحت فيه بعض لبس كرره، لم ينشر لا أدري لماذا. كتبت ردا ثانيا بعد أسبوع حين تأكدت من عدم النشر، لم يصل الثاني أيضا. اتصلت بالأخ محرر الزاوية الثقافية مستفسرا فاقترحَ نشر موضوع بهذا الصدد علي صفحة رأي، علي ذلك اتفقنا، بدأت كتابته، ثم ظهر تعليق ثان لنفس الشخص مكررا طلب الاعتذار، كتبت ردا ثالثا ولم ينشر، أو لم يصل أيضا، ثم بلغني الأخ المحرر برسالة في موضوع آخر أن ردي المتفق عليه لم يصله. إنني أشكر طالب الاعتذار، علي تعليقيه وحماسه النبيل، قبل أيام تكاتبت مع سيدة عن ضرورة (القارئ الفعال) باعتباره سلطة خامسة، أراه إذن ممثلا فيه، مرحبا ومرحي، إنما سوف أحاول العبور من الخاص إلي العام توضيحا لأمور أكبر. أسوأ من تجني الاعلام في تلك الفترة فهم مبتسر من متلق فضّل الزعيق علي صوت هادئ، سها عن النص وما تحته، عن لغة الحركة (بودي لانغويج) وما تحتويه، عن نبرة الصوت وما تخفيه. في الغرب يولي اهتمام لذلك. معلوم كلمة لا مثلا يمكن قولها بطرق منها ما قد تعني نعم هكذا وبسبب عرض رأيي محرفا طلبت لاحقا من صحافية الاطلاع والتوقيع علي لقائنا مطبوعا قبل نشره. رفضتُ إجراء مقابلة. ثم أعلن رسميا في ستوكهولم في هذا السياق بعد حين ان إعلاما سويديا أسكت الصوت المعارض أثناء الحرب. في ردي ذلك الوقت علي مراسلة صحافية، مما تم حجبه، قلت مثلا: حتي لو كان العراق يملك اسلحة دمار شامل ليس ذريعة هذا لشن الحرب عليه لأنها موجودة في اسرائيل وايران والافضل معالجة المشاكل الموجودة في المنطقة كحزمة، سلميا، غير عملي الفرز بينها. المراسلة قالت: إنس هذا الموضوع، اسرائيل لم تستعملها ضد شعبها كالعراق في حلبجة، وامتلاكها لها غير مثبت. قلت وهل مثبت امتلاك العراق لها؟ في لقاء ثان قالت لي: أنت الوحيد أسمَعَني: مشاكل العراق لن تنتهي بعد عشرة أعوام لو بدأت الحرب. أذكر جيدا ما صدر عني ذلك الحين. العراق في كتبي، وهو غير النظام طبعا، غارق في محبتي. دفاعي عنه لم يكن بكلام بل بسلوك وعمل، بشخصي تمنيت أن أكون خير مَن يمثله، وبعملي خير مَن يستوعبه، يعرف ذلك مَن قرأني وعرفني. مَن خاطب صدام كما فعلتُ علي إيلاف قبيل الحرب بأيام مطالبا بتنحيه عن السلطة، ليحفظ اسمه في الأقل، ويجنب العراق كارثة، لا يمكن أن يكون داعية حرب. صدام بتعنته ساعد علي شن الحرب ضد العراق، مرتين، بحرب الكويت، والأخيرة المستمرة حتي اليوم. ومَن يُسأل عشية الحرب الوشيكة عن أفضل وسيلة لتجنبها ويرد مثلي: بانقلاب قصر، يحفظ الدولة والمجتمع من خراب، نراه يتوالد، لا يمكن ان يدعو لشن الحرب. ومَن يقول بالتلفزيون هناك حروب عادلة وأخري غير عادلة يعني أنه مع شعبه لا ضده، وقت كانت الحرب واقعة لا محالة. حين أصبح سقوط النظام محتوما وكنت سباقا ربما بالتنبؤ به بروايتي (الجنائن المغلقة) المكتوبة عام 1996 ونشرت عام 2000 إذ تنتهي بقدوم رجال صدام بعد سقوط نظامه إلي أوروبا للجوء، أي ما نراه اليوم، وحين عجز جيشنا عن انقاذ البلد من الحرب وصدام في آن بانقلاب، ولو صوري يجنبنا الغزو، أصبح عناد صدام المستديم عقبة أمام وضع طبيعي، لوطن عندي الأهم. لم يبق لي سوي التصريح بأن الحرب الآتية عملية جراحية لاستئصال مرض. العملية الان علي وشك فشل، ولم تعد سياسية، القتل لم يعد بالمفرد بل بالجملة، المعتقلون لا بالمئات بل بالآلاف، بيوت مخربة ومهجورة، مدن محاصرة. لكن المريض العراقي المار بالاهوال منذ هولاكو سيتعافي بقدراته الذاتية، بكريات دمه الحمراء والبيضاء، إلاّ إذا امعنوا في اغتياله لتقاسم إرثه. أعين الخلّص له ومنها القارئ الذي طالبني عن سوء فهم باعتذار تذود عنه، فلا خوف عليه سوي من الغفلة، أيا كان مصدرها. عالم الأسود والأبيض انتهي، لا يعني هذا نهاية التشدد، هو منطقي حين يُنتخب ديمقراطيا، لا حين يفرض بقوة عمياء. إن وصف ما كان يجري علي هذا الشاطئ أو ذاك لا يعني العبور إليه. حين سُئلت مثلا عن أفضل الطرق لضمان استقرار العراق بعد الحرب، وهي واقعة لا محالة، وأجبت لو أعيد المطالب بالعرش لعرشه في بغداد سنوات تجري بعدها انتخابات يخير بها الشعب العراقي بين الملكية والجمهورية وصولا تدريجيا إلي اختيار الحكم الصالح لا يعني أنني من انصار الملكية، فأنا جمهوري الهوي والعقل، هذا لا يمنعني أيضا من القول أن ملكيات في منطقتنا أفضل من جمهوريات، يعني إذن كنت أبحث عن الطريق الأسلم لاستقرار العراق حتي لو كان ضد رغبتي. مستقبل العراق واستقراره أهم عندي من رغبتي الشخصية. وحين سُئلت عن رأيي في الفدرالية وأجبت لن أقف ضدها لو اختارها مجموع الشعب العراقي باستفتاء نزيه، لا يعني أني راغب فيها ومحبذ لشن الحرب، التي رفع آلهتها شعار الفدرالية قبل شنها، لأني وطني حتي النخاع، خاصة حين أري وطني مهددا، بل يعني أني احترم رأي الأكثرية حتي لو كان ضد رأيي. كلام ليس علي المودة ذهبت أبعد حين أجبت علي سؤال عن الفدرالية وراء كاميرا التلفزيون، بأني سوف أوافق علي الفدرالية للعراق لو قبل ذلك منحت اسبانيا الباسك استقلالها، وأمريكا دولة للهنود الحمر، وخرج الانكليز من ايرلندا، والفرنجة أطلقوا كورسيكا.. و.. كنت أعرف تلك اللحظة أن ردي سوف يكون آخر كلام بيني وبين اجهزة الإعلام الغربية، كلامي لم يكن علي المودة المطلوبة، ما اهتممت، ألغيت نفسي بنفسي مقابل أن أقول رأيي، مقابل أن لا أكذب عليهم، أن لا أخون وطني الأم العراق. كذلك كان. بعد ذلك اللقاء ما اتصلت بي سوي صحيفة راديكالية اعتذرتُ عن مقابلتها. لو كان لأحد أن يعتذر، وأنا مع طالب الاعتذار بضرورة اعتذار مَن أخطأ، اعتذار مَن خدم الأجنبي وهو يراه يخرب بلده، ببرامج سخيفة، بسلاح لم يستعمل كما يجب لصالح البلد، اعتذار مَن استفاد من الأذي أو ألحقه عامدا، أي أجرم، فيتنظف، يعقبه عفو الذي وقع الأذي عليه أو ممثله، فرابع المعتذرين بعد بوش وبلير وبريمر لتخبيصهم بعد الحرب بل أولهم كان يجب ان يكون صدام ثم اتباع نهجه. لا أقصد البعثيين عموما فقد سرق صدام حزبهم منهم، ولاتباعه حق في رؤيته بطلا قديسا، فهو مضي لحتفه شجاعا مؤمنا بقضيته، لكنه لم يكن قائدا محنكا حريصا علي شعبه، النيات الحسنة لا تكفي، جهنم يقال قد تكون مليئة بذوي النيات الحسنة، وأنا لا أتمني لأحد أذي، ذلك كان دافعي في كل ما قلت وكتبت وفعلت، ليت طالب الاعتذار اطلع حسنا علي مجمل ما صدر مني في الشأن العراقي قبل تجنيه وطلبه الاعتذار مني. هذا لا يعني أن كل ما قلته آنذاك كان صائبا، خطأ المثقف اجتهاد نزيه لذلك يجب ان يُحترم خلاف خطأ المنتفع المستفيد، لذلك يُحاسب. أخطأت في أمرين، أولهما امتدحت عبد العزيز الحكيم مثلا مرة لمشاركته في العملية السياسية علي طريق الاندماج في خط وطني ثم اتضح أنه يسعي شاء أم أبي لتقسيم بلدنا بفدرالية طائفية أسوأ من القومية، فأسفت علي ذلك. وأيضا اقتنعت حتي الأمس بجدوي العملية السياسية، مع ابتعادي عنها لعنفها، لاجراء مصالحة في الأقل بين طرفي النزاع الأساسيين، الحكومة والمقاومة (لا القاعدة) فيما يتضح شيئا فشيئا أنها ساعدت علي فقدان شروط التفاهم والمصالحة والاستقرار مع وجود محتل يعوّل علي طائفيين وشوفينيين ومنتفعين، من غير الوطنيين، لحل مشاكل وطن، وقت لا تنفع أولئك مصالحة.نقطة أخري شوِّهت، دار عنها أيضا نقاش قبل الحرب، حل الجيش العراقي، أحد معارفي القدماء من الذين يشغلون موقعا متقدما اليوم في الإعلام الرسمي، لا أستشهد بإسم في أي مناسبة، اتصل تلفونيا بي حينه وسألني رأيي في الموضوع، أفهمته ضرورة عدم المساس بمكانته النبيلة.. حتي قال لي: أنتم الذين خدمتم في الجيش لا فائدة من الكلام معكم في موضوعه فهو مقدس عندكم. هو يذكر ذلك حتما. بعد حين ظهر في صحافة كأني مؤيد لحله، ذلك لم يكن صحيحا تماما، خاصة بطريقة رأينا كيف تمت. طبعا هناك مَن يدافع حتي اليوم عن صحة الاجراء، عذره الجيش حل نفسه بنفسه حين تلاشي من ميدان بغداد أول يوم الحرب، تنقض هذه الفكرة أخري عندي وهي أن الجيش اتبع وما زال إحدي سياسات خصمه، الفابية، تراجع تراجع حتي تنهك الخصم، أي ما نراه اليوم أمامنا من كر و فر. بعد أسبوعين من شنها قلت لمحدثي: ليت أحدهم يكتب مقالا بعنوان (سقط النظام لا بغداد) ظهرَ الموضوع. ولم يمر عام حتي كتبتُ: الحرب لم تتوقف، لا يمر يوم منذ بدء الاحتلال دون عملية وقتلي. وأنا ما زلت في العراق صيف 2003 قلت للتلفزيون السويدي وظهر ذلك في الفيلم الذي بث بأكتوبر نفس العام: حاملو السلاح ليسوا فقط اللصوص كما نسمع بل منظمات سياسية لها برامج سياسية. الخروج من القنينة مسائل العراق لم تحل، تزداد ومعها التساؤلات حولها، الأكبر والأهم بينها: كيف الخروج من مأزق الوضع الحالي؟ الخطة الأمنية لن تكون فعالة علي المدي البعيد، تعالج سطح لا لب المشكلة، تغيّب أو تغييب طرف أساسي عن الحياة السياسية. ثمة أكثر من رد علي التساؤلات المتعلقة بالوضع، حسب زاوية النظر والوقت. شن الحرب مثلا لو نظرت اليه من زاوية عامة اليوم تقول كان ذلك خطأ، لكن هذا هراء، لأنها وقعت فعلا، أما أن تسأل هل يصب وقوعها في مصلحة الغرب؟ فهذا ممكن مناقشته والاختلاف عليه، كان في إمكان الغرب استيعاب صدام دون حرب لتجنبها وتوفير الخسارات، إنما ذلك لا يعني أنه كان ممكنا فعلا استيعاب صدام دون حرب. بطبيعته العنود وسياسته كان ظل شوكة في عين الغرب، والمشكلة قائمة بينهما، وبقينا نحن العراقيين نتعذب من تسويف ومجابهة وحصار، حتي تتفاقم لحظةَ مجابهة أخري، لحظةَ حرب أخري، تطرح عين التساؤلات والاحتمالات فالأحداث. مع جو 11 ايلول (سبتمبر) أصبح لا مفر من الحرب لأمريكا لاستعادة شخصيتها، حدث تضاد في طبيعة ومواقع الأشياء وكان لا بد لها من تجاوزه، قد تكون الحرب ليست في مصلحة أمريكا، كان في إمكانها تجنبها، إنما هي للعراق كانت شرا لا بد منه، ليس لذلك علاقة بالنيات والأماني ولا النتائج، لنكن واقعيين مرة في العمر، نعم خراب العراق كبير، كان لا بد من كسر الزجاجة التي حُشر العراقيون فيها، من حصار خارجي ومن دكتاتورية داخلية، الحرب فجّرت خُرّاج الدكتاتورية ونظام حزب واحد بقاؤه لم يعد ممكنا بعد انهيار السوفييت وتوازن القطبين، عام 1985 قبيل تسفيري مخفورا من روسيا الي سورية بحجة نفاد اقامتي وهي فعالة صرحتُ لمجلة كويتية: الأفضل للعالم توازن عدة اقطاب بدل القطبين، به يكون النظام الدولي اكثر استقرارا. جميع الخيرين يريدون العراق معافي متطورا سعيدا، قد يضيف البعض: ما همني تحت حكم ملاك أو شيطان. الصراع الآن لا علي منحي تطوره بل علي مَن يمتلك البلد وثرواته، هو صراع فكري قبل كل شيء، البعث أدرك أخيرا، ربما قبل غيره، المحنة تعلم، ضرر اقتتال الأخوة منذ 1958 وضرورة دمقرطة الحكم، هذا تحول جوهري في تفكيره وادائه لصالح جبهة وطنية تحتضن البلد وتطوره المستقبلي وتهيئة مناخ لانسحاب مشرف للأمريكي، النزاع لا يحل بسلاح قلت ذلك قبل سنوات، والعراق يبقي يحتاج أمريكا وهي تحتاجه بعد رحيلها، والبعثيون بتركيبهم الإيديولوجي أفضل من سيمثل الأمريكان في العراق، لذلك كيف تم تفسير شن الحرب، كذلك المشاركة بالعملية السياسية التي اعقبت، ليست جرما يلبس برأس متعاون حسن النية، الجرم أسلفت حين يسرق شخص أو يكذب أو يشارك في تخريب بلده، والاتهام لا ينبغي صدوره بتجن من متعلمين وقفوا تلقائيا ضد الحرب لإهمال رأيهم، مجرد اعتراض أو شتم ليس بطولة، مناطحة التحديات بالفكر هي البطولة، أيا كانت نتيجة تفكيرك، إذا صبت في الخواتم كما اتضحت بعد أعوام كانت وضاءة، إذا ناقضتها كانت مظلمة، ذلك هو الفرق بين اجتهاد واجتهاد.تموز (يوليو) 2003 قلت في مقابلة لصحيفة كبري في السويد أفكر في زيارة بلدي العراق، وإذا وجدت فرصة هناك لأداء عمل بقيت فيه، اتصل مندوب تلفزيوني وسألني لو أمكن مرافقتي بالسفر، الظاهر وجد في موضوع عودة روائي لبلده بعد فراق عقود موضوعا إضافيا دسما لفيلم كان يعده عن عراق ما بعد الحرب. قلت لا بأس، اتفقنا منذ البداية لا أستلم فلسا واحدا منه مقابل تصوير سفرتي، كان ذلك ممكنا ومن حقي، شئت أن تبقي يدي كما هي، حتي في دخولنا مطعمين ثلاثة أثناء السفر كنت أدفع من جيبي مرة وهو وصديقه يدفع المرة التالية، قبل هذا قيل: التلفزيون يشتري تذاكر السفر لنا، حجز التذاكر والتوقيت ميسر لهم، قبلت ذلك فقط منه. في بغداد تمكنا من دخول المنطقة الخضراء، باستدعاء من عراقي عامل فيها، كان ذلك لي مشوقا جدا، جزءا من اهتمامي بكتابة رواية عن عراق ما بعد صدام. نفعني فعلا بعد حين في انجاز علي تخوم الألفين . في الاذاعة هناك تعرفوا في الحال عليّ، كما في أماكن أخري قبل وبعد ذلك، التقيت في الممر صحافية فاضلة تعرفني من الستينات، اقترحتْ اجراء مقابلة معي توا، تمت المقابلة سريعا علي الهواء. ثم اقترب أحد العاملين في الإذاعة وقال أن زملاءه تشاوروا، يريدون أن أكون مديرهم الجديد، مدير الإعلام القديم وشك انهاء عقده. شكرته علي ثقتهم وقلت لا اصلح لهذه الشغلة، اصر: بل تصلح ونحن نريدك ونريد ردك الآن. قلت سوف أفكر. ثم نسيت الموضوع في الحال. حقيقة كنت وافقت لو كان بلدي حرا، وليس لكبر أو صغر المنصب، بل لأبقي في العراق. لكن البلد كان وما زال في حالة احتراب وأنا حامل قلم لا بندقية، ولا أمان، فماذا أفعل؟ عدت للغربة، هذه المرة بألم أشد. لا يعني ابتعدت عن بلدي، هو كما كتبت قبل ثلاثة عقود في قلبي دائما، أبتعد عنه بالأمتار فقط، ابتعادي عن النهرين حين آوي الي فراشي ليلا وهما في ذاكرتي يغذيان أحلامي وآمالي ككل العراقيين. تنطع ما بعد الوطن لا أفهمه. للطير وكره، للوحش وجاره، وللإنسان وطنه و جاره.إعلان حب حقيقيتوقف آخر، كنت عائدا لبيتي، عند نصب شهداء الحرب أراد الصحافي تصويري، كان هناك جندي أمريكي يحرس، قال الصحافي ونحن نترجل من السيارة يجب ان يكون اقترابنا من الامريكان حذرا، قد يطلقون النار علينا دون انذار، ابتعد الصحافي عني وبدأ يصور، وحدنا أنا والأمريكي، مد يده لي مبتسما، صافحته، تكلمت معه، لما ابتعدت عنه سألني الصحافي: ماذا قلت له؟ أجبت: أصافحك باعتبارنا إنسانين يحبان السلام لا باعتبارك محتلا وأنا عراقي. سأل الصحافي: وماذا رد الامريكي؟ قلت اسأله أنت. قال الصحافي: أصدقك أخبرني. أجبت: قال هو يريد السلام لنا ومساعدة العراقيين في بناء الديمقراطية. الصحافي: وماذا قلت له؟ أجبت: قلت له وددت لو رأيتك في بلدي ضيفا لا محتلا. دهش الصحافي: قلت له هذا؟! قلت: ذاك هو اسأله. ذلك بعض ما كان في ألبوم شخصي، نافذة علي سماء الأعوام الأربعة الماضية المدلهمة. ماذا في صور لم تلتقط؟.. قانون النفط الجديد أوصل العملية السياسية الي غاية، تم التصديق عليه انتهت طامة، بدأت لعبة جديدة. مؤتمر بغداد أو غيره الأولي لو عُقد بعد المصالحة، لتفاهم مع جيران وأشقاء حول التزامات ومواثيق جديدة. كيف يمكن لمعارضة مسلحة ان تحضره وخطة أمنية تستهدفها! طبعا لا توجد معارضة فقط، في حال عدم التفاهم يوجد ارهابيون أيضا، مصالحة قائمة علي شراء أو إلغاء المسلحين يرفضها المسلحون، مَن يبيع نفسه خسرها، لا ضمان له في غد علي بقاء. إلغاء الخصم منطق تبناه صدام أمس، فلماذا يعيد اليوم أعداؤه تبنيه بجهل أو بنهل؟ الموضوع ليس خيمة مستوردة أو محلية، ولا ناسا فقدوا مراكزهم يريدون استعادتها، بل القانون والدستور، ما هو في صلب النظام، حين مرض بصدام حصل التدخل الخارجي، بعد فشل الداخلي لعلاجه، ببقاء الاحتلال يُعرقل اليوم ايضا العلاج الداخلي، هل يفشل هذا أيضا؟ المبضع الامريكي نجح في بتر صدام، معجزة شفاء المريض العراقي تعتمد علي قدراته الذاتية قلت، مصدر الاختلاف والاقتتال، ما جدوي أي مؤتمر إذن والعملية السياسية معطلة في الجوهر متحركة في المظهر؟ بوش الأب استخدم تعبيرا مَرة فكها، قال: هذا موضوع غير (سكسي) بمعني غير مثير أو غير حيوي أو غير آني ربما. فإذا نسجنا علي نوله يمكن القول عن العملية السياسية في العراق أنها أصبحت مثل إعلان (حب حقيقي..) علي محطة جنس فضائية.. قليل أو كثير صدق وإغراء ذلك الإعلان؟ يعتمد طبعا علي خبرة الزبون، استعداده، وحاجته. قد تجد في التشبيه شيئا من مجون، تراه مستهجنا. لكن، هل ما يحدث في شوارع العراق أقل مجونا واستهجانا؟ المضحك المبكي نهاية الضحك والبكاء. احتمالان أمامنا. الأمريكي أنجز نصف مشروعه في العراق، عن أرضه أزال خطرا كان يهدده، النصف الثاني بناء ديمقراطية مسألة فيها نظر. طالما لا يريدها أهل البلد كما يريدها هو لا يبقي فيه الي الأبد، أعلن ضجره، انسحابه يوما يغدو في عينيه عملا حكيما لا هزيمة، في مصلحته علي أية حال، لا الساونا العراقية ولا علي شواطئ دجلة ممتعة لو طالت. الجمهورية الخامسة تضطر للتفاهم معه أفضل حتي من الرابعة المنَصّبة منه علي عرش البؤس. مَن خاف علي البلد مِن حرب أهلية لو انسحب يتأقلم مع خوفه، العراق أكاديمية خوف الآن، مع تفاقم الأوضاع يفكر: لو انسحب الجن الغرباء أفضل ربما، يكفينا ما عندنا، هكذا يكون الحل عراقيا كما يريدون، من ألف مشكلة ومشكلة، هكذا تتخلص حكومة من تهمة عمالتها لأجنبي، هكذا يتخلص عراقيون من موت سريع أو بطيء. لا خيار للعم سام غير قضم هذا الخيار غير السام، الجهل متفش في العراق، شيئا فشيئا لا تصدق الغالبية ما يجري فيه كحرب ضد ارهاب، أي ارهاب هذا تستمر مكافحته اربع سنوات، لا الحرب العالمية الأولي ولا الثانية طولت بالها هكذا، حكومة من كل الطوائف والملل الآن وميليشيات من كل النخب وتحالف قوي كبري داعمة ولا تستطيع وقفه؟! عملية سياسية وقتل واعتقالات مستمرة منذ بدء الغزو، تغذي فوضي أكثر من النظام، مصالحة تضعف طرفين، وصدام قضي علي انتفاضة شاملة في حوالي اسبوع! ما هذا العجب، الأمر يحتاج لعراف!كل السلطة للوطنيين أمام عراف بغداد مواجهة كبيرة، ليس مع حرامي بغداد طبعا، رافضو احتلال مقابل مجموعة تتآكل نزاهتها ووطنيتها اساس شرعيتها، ساقطة في شوفينية وطائفية ونفعية. كتل قوميين كرد، سلفيين، مستقبليين، ولاءاتها يوما قادما لقوتين أساسيتين: مَن مع بقاء المحتل، مَن مع رحيله. في مرحلة اخري مَن مع تمزيق العراق، مَن مع وحدته. تضاريس ذهنية متحركة كالرمل يتحرك عليها تفكير عراقيين، يتبلور أوضح برحيل المحتل، مع فوضي مؤقتة تنتظم بمتنورين وطنيين، كما بعد سقوط الملكية، تذوب هذه المرة الانتماءات من أجل سلامة العراق وأهله. القاعدة لا قاعدة كبيرة لها في العراق. حزب أساس علي انقاض القديمة. يقوده ناس من ميول مختلفة يضم الوطنيين. ينتشر شعار: كل السلطة للوطنيين، لا مشاركة للعملاء. لن يستمر كل ذلك أبعد من 2010 بتقديري. ولن تكون تلك التحولات غريبة، هي ليست أغرب من تحول الحزب الشيوعي العراقي حين رحّل أعضاءه الأكراد عام 1987 ومنهم من ائتمنه علي بعض ماليته، إلي حزب شيوعي كردي خاص بهم. أخذ ذلك البعض معه تلك المالية باعتراف وزير سابق، مليون دولار، هكذا تحول الحزب عن أمميته ووطنيته إلي غيرهما دون استفتاء اعضائه، مقسما إياهم حسب انتمائهم القديم لا حسب فكرهم الجديد، فساعد في تباعدهم بدل جمعهم حسب معتقده المعلن. لينين نفسه ما وافق علي حزب خاص بالشيوعيين اليهود الروس، عذره الحزب الشيوعي الروسي لهم كما لغيرهم. يُسهل إعادة عملية الاندماج في الصف الوطني أن معظم الذين انضموا للحزب الشيوعي العراقي مثلا أو البعث أو الوطني الديمقراطي أو الاستقلال وغيرها فعلوا ذلك لوطنيتهم قبل كل شيء، مع اختلاف بسيط بفهمهم لها، متضامن مع البشر، متضامن مع قومه، أنضجهم متضامن مع وطنه علي منهج الخبز والأمن أولا ثم الكيك والسفر، الاختلاف تعمق بجهل أو مكر من مغلّب لخاصته علي العام، فشق الوطنية اساسهم المشترك، وانهاروا جميعا في النهاية. الوطنية جامعتهم وحاميتهم، بهوانها يتفتت الوطن والبيت، بتساهل حزب في تحديد أولوياته، بتفضيل الثانوي علي الرئيسي، يشطب نفسه، يغدو ملحقا للأحداث، لا صانعا لها، فتنعدم طليعيته وتقدميته وضرورته.في العراق الان سلطتان فعليا: حكومة متعاونة مع الأجنبي، ومقاومة. مقاومة صامتة وأخري مسلحة. لو تفاهم متنورو الشيعة وبقية رافضي الاحتلال مع البعثيين تبدأ نقطة صفر، لمقاومة أوسع. البعثيون ينتقدون انفسهم، ضمنا زعيمهم الراحل، ما يؤهلهم ليكونوا معهم محورا. العقل مثل الطير لا يحلق بجناح واحد قلت مرة. فك ارتباط بالاجنبي للمتعاملين معه يعادل فك بعثيين ارتباطهم بمنهج صدام، وانتقال الصدريين من الطائفة إلي عامة الشعب. لماذا يؤيد شيعة هيئة علماء السنة وأقل يؤيد سنة الصدريين؟ حمدا مظاهرة المليون تؤشر لتلاحم وطني عريض. الوطنية والعروبة هما المقياس والحسم. في الوضع الحالي لا قدرة لجهة واحدة علي الانفراد وإنجاز برنامج مقاومة، تتردد الغالبية في دعمها لغيابه. بلورته وتكاتفها شرط أساس للنجاح، لتحديد استراتيجية استقلال كامل ونظام شامل، التفاوض والقتال تكتيك مجرب في فيتنام لإخراج محتل. استبدال الاستراتيجية بالتكتيك والعكس هلاك جديد. في حال تثبيت البرنامج فحدوث الانسحاب تنعدم أسباب نزاع لاحق طويل علي السلطة، كالذي رأيناه واقعيا بعد 14 تموز (يوليو) حتي اليوم. الحكمة تنتصر في المحنة. الأمور تهدأ تدريجيا، إلاّ في شمال العراق حتي يقتنع الأخوة الأكراد بالحكم الذاتي. علاقة حسنة للعراق مع الغرب شرط آخر للنجاح. ايران تخلق توازن رعب في المنطقة. الأجدي للعراق الوقوف في مركز ذلك التوازن علي الميل لجهة وزيادة تأثيرها فإرباك التوازن. لذلك قد يهفت تشديد المطالبة بانسحاب كامل لأمريكا من العراق. حماية مصالح الغرب والعراق هدف مزدوج للطرفين. أمريكا لا تنسحب قبل ترتيب البيت الايراني، كيف؟ تخفيف تركيز الفوضي في العراق بنقلها الي ايران ايضا؟ بحرب سريعة أولا، ثم هيا يا خلق شوفي شغلك في ايران، خلافاتنا انتهت، لستِ ارهابية، أنتِ لا أسوأ من شيوعيين أوصلناهم الي الحكم في العراق، ندعمهم يوميا خفية وعلنا حتي يسمنوا طبعا، بعدين نشوف شغلنا وياهم اذا رفعوا عينهم علينا مثل عام 1959. خلق ترفض الآن ضربة خارجية لايران، لا بأس، الشهية تأتي أثناء تناول الطعام غالبا، يبدأ الاحتمال الثاني بالتحرك. خذوا يا بعثيين الدفاع والداخلية، اتركوا باقي الوزَرَة لغيركم، هكذا يأمن العم سام من الايرانيين برة، وشيوعيي ومتطرفي الداخل، فيفتي فيفتي، كما قال رئيسكم صدام قبل الحرب. اطلاق سراح سلطان هاشم وطاهر العاني وعزيز وبقية الرفاق فكرة ايجابية من علاوي تزيد رصيده، هاشم يتمتع بسمعة عالية بين المدنيين والعسكر، والعاني لم يؤذ أحدا. إذا ظل الرفاق علي عنادهم، وأبقي أهل الحكومة العصمة بيد الليبرالي، نبقي نتطاحن، نغير النشيد الوطني من: موطني موطني، إلي: موطئي، موطئي، شرط أن يكون صياح المنشدين أعلي هذه المرة، وضرب بعضهم بعضا أشد، خاصة وقت الانشاد.أي الاحتمالين أرجح؟ المحرمات العراقية الثلاثة أصبحت معروفة: لا للانفصال، لا لبعثرة النفط، لا لحكم عميل. يفلح مَن يفكر صح. ما هو الصح؟ مسألة نسبية، تحتاج الكثير من المعلومات لحلها. امريكا تحتاج البعثيين علي المدي البعيد أكثر من حاجتها للشيعة والسنة والشيوعيين، الأكراد يظلون بأهمية الوزير في لعبة الشطرنج، حتي تنتهي اللعبة طبعا، تبدأ لعبة جديدة. مباراة القرن الحالي بين الايرانيين والاتراك والعرب والغرب مستمرة الي عام 2020 وربما أبعد، رقعتها بغداد، أفضل نتائجها لا غالب ولا مغلوب، عفا الله عما سلف، استخدمه قاسم فليستخدمه الجميع مع الخصوم وهؤلاء معهم بدل قلب طاولة علي تخت كما فعلنا سابقا، النتيجة خسارة للجميع. مصافحة علي أفق مشرق أو هي سحابة أكثر دموية مما كان حتي الآن هناك؟منذ بدأت الحرب والقوة هي الفصل لا الكلمة، الثقافة مستهانة، لنؤمن أكثر بقوة الكلمة، لعلها تكون في الخاتمة أيضا، مثلما هي في البدء.ہ روائي عراقي7