الصّمت، إننا نقتل

ما يحدث اليوم في غزة لم يعد يهم الفلسطينيين فقط ولا العرب وحدهم، ولكن الإنسانية جمعاء بما يميزها عن الهمجية، ويمنحها فرصة الارتقاء بالإنسان نحو الأسمى. عمليات التقتيل جارية في مشهدية عالمية عن طريق القنوات التي تنقل الجرائم على المباشر. قد تكون الصور مرتبكة ولا تسير وفق مسارات موحدة، من الصور التي تبحث عن المبررات للفعل الإسرائيلي إلى الصور التي تدافع عن الحق الفلسطيني في ظل احتلال مقيت، والعدوان ضد شعب أعزل، مهما كانت الأسباب المقدمة والمتعلقة بعملية مقتل الإسرائيليين الثلاثة التي أدانتها الرئاسة الفلسطينية.
تبدو العمليات جراحية اي أنها تستهدف أمكنة محددة ولكن هذه الجراحية المزعومة لا وجود لها. إذ أن هجمات الطيران تمس بشكل مباشر ثلاثة عناصر حيوية، أولا الإنسان الذي تتم تصفيته بشكل معلن. إسرائيل فخورة أنها لم تمس إلا عددا محدودا من الشهداء، أكثر من 200 منذ بدء العمليات العسكرية، بينما إسرائيل تقيم الدنيا ولا تقعدها على قتيل واحد في معبر إريتس بقذيفة المقاومة.
فزادت العمليات الإجرامية ضراوة. هل روح الإسرائيلي تساوي 200 روح فلسطينية؟ ثمة عنصرية معلنة بين شعب مختار وشعوب لا قيمة لها. العنصر الثاني تحويل البيوت السكنية إلى أهداف عسكرية، فدمرت على رؤوس أهاليها فأبادت عائلات بكاملها. ذنبها الأوحد أنها فلسطينية. هذه الهوية وحدها كافية بأن تجعل الإنسان في دائرة القتل. إضافة إلى حرق الأسواق في ظل حياة يومية صعبة، وأماكن العبادة، وتدمير لما تبقى من الأمن، وتشريد الشعب الفلسطيني ورميه في الطرقات. هناك نزوح خطير يرتسم في الأفق. الاختلافات في الحكومة الإسرائيلية ليست حول الحد من التقتيل، لكن في ضرورة توسيع رقعة الجريمة. نتنياهو يحسب حسابات نتائج يمكن أن ترميه خارج الحكم، ورؤية ليبرلمان المتطرفة الذي يطالب باحتلال القطاع من جديد. العنصر الثالث هو سياسة الأرض المحروقة التي تبيد الزراعة وكل سبل الحياة في منطقة محاصرة منذ سنوات عديدة. الذي نستغربه في هذه الحرب ليست ممارسات اليمين الأعمى، ولكن صمت النخب الثقافية الإسرائيلية اليسارية، من كتاب ومبدعين وفنانين الذين لم نسمع صوت أي منهم منذ بداية العمليات العسكرية. هذه المرة صمتوا كلهم وكأنهم اصطفوا نهائيا بجانب الجريمة. كاتب مثل عاموس عوز مؤسس حركة السلام الآن المناصرة لفكرة الدولتين، والذي كان مع فكرة الحوار للوصول إلى نتيجة الانفصال.
في الاعتداء الأول حاول أن يجد مسلكا وسطا والمتلخص في ضرب حماس بشكل جزئي والحفاظ على الأرواح، وكأن القنابل التي ترى جيدا أهدافها، ستختار ضحاياها. هل يعقل أن يكون رأي مثقفين مرشحين لنوبل لخياراتهما الإنسانية، بهذه السذاجة والتي تفترض أن الحرب مثل اللعبة نعلنها وقت ما نشاء ونوقفها بالضغط على زر. نعم يجب أن تتوقف الحروب حفاظا على الناس العزل، لكن في الحروب معتديا ومعتدى عليه. هناك مثقفون عظماء في تاريخنا الحديث ممن تخطوا الحواجز الصعبة في بلدانهم وأعلنوا عن مواقفهم التي تسببت لهم في الكثير من المصاعب، لكن التاريخ رفعها عاليا مثل إميل زولا الذي وقف بقوة ضد الآلة المعادية للسامية ودافع عن دريفوس العسكري الفرنسي ذي الأصول اليهودية، في عمق آلة اللاسامية العمياء. واضطر في النهاية إلى الهرب إلى بريطانيا بعدها نشر رسالته الموجهة لرئيس الجمهورية: إني أتهم. أثبت التاريخ صحة موقفه. الكاتبة العظيمة الحاصلة على جائزة نوبل، الراحلة نادين غورديمر، التي كبرت في مجتمع أنجلوفوني بورجوازي ووقفت بصرامة ضد العنصرية، وناضلت ضد سياسة الأبارتيد المقيتة.
رفضت أن تتسلم جائزة امرأة السنة، في عام 1976، وقالت يجب أن تسلم هذه الجائزة لزوجة مانديلا فهي أولى بها. أنقذت شهادتها أكثر من 20 متهما من أعضاء ANC من إعدام مؤكد. أين هي النخبة المتنورة في إسرائيل التي ناصرت فكرة الدولتين ووقفت ضد فكرة الحرب؟ الروائيون الكبار عاموس عوز وصديقه دافيد غروسمان وأفراهام ييشوا الذين يشكلون التيار الأكثر ميلا نحو السلام لم نعد نسمع لهم أي صوت. هل هو الاستسلام لسلطان اليمين المتطرف؟ وانتماء غير معلن له ولمشاريعه الإجرامية؟ أم التزام الصمت عملا بمقولة: Silence, on tue. غروسمان الذي رفض أطروحة الحرب من أجل السلام. بدون أن ينسى أن يقبل بفكرة الحرب العادلة من دون أن يعرفها. يقول: لا يمكن الحديث عن حرب من أجل السلام.
لا معنى لذلك. يجب الحديث عن حرب عادلة. كيف يمكن لمثقفين بهذا الحجم أن يصمتوا أمام هذا التقتيـــــل المنقول على المباشر. لا يمكن للقيم الإنسانية أن تتماشى مع الجريمة، ولا يمكن تبريرها أبدا وإلا سنكون قد خسرنا نهائيا إنسانيتــنا إذا بقي شيء فينا من هذه الإنسانية. ماذا بقي من مقولة الباحث جـــــون بيير منيار في مقالة بعنوان: كيف نتصرف تجاه حرب غزة: اقرأوا درويــــــش ستجدون فلسطين أخرى. واقرأوا دافيد غروسمان وإسحاق بن يوشوا وعاموس عوز، ستجدون إسرائيل أخــــرى غير إســــرائيــل الاحتلال؟

واسيني الأعرج

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول نورالدين القلي الجزائري:

    باختصار لانهم جميعا صهاينة و في النهاية يلتقون جميعا عند نقطة واحدة هي مصلحتهم القومية .

  2. يقول حسين:

    لا انسانية لا سلام لايمين او يسار في اسرائيل يوجد فقط الاجرام يا دكتور و العالم يتفرج و يستمتع بالمشاهد الحية المنقولة من غزة جراحنا الدامية

  3. يقول عبد الله محمد الجزائري:

    نريد كل فلسطين

    القدس وقف اسلامي
    ما تسمى دولة إسرائيل هي احتلال لأرض فلسطينية
    وبالتالي لا داعي للاحتفاء بحل الدولتين، لانها سراب يحسبه الضمان ماء، ناهيك انه يعطي مشروعية للاحتلال على الأرض الفلسطينية

    لا للتطبيع
    لا لحل الدولتين
    نعم لفلسطين كل فلسطين من النهر الى البحر

  4. يقول عبد الله محمد الجزائري:

    في مقالك السابق. انتظرت منك تصحيحا لفكرة الاعتراف السياسي بما تسمى إسرائيل ، ولكن ؟
    وفي مقال البوم احتفاء بمواقف مثقفين إسرائيليين حول حل الدولتين ؟!
    أرجو ان يتم التصحيح في مقال اخر
    وشكرا على إهتمامك بالحق الفلسطيني

  5. يقول abu salem-USA:

    هناك مثل عربي \ يا طالب الدبس من——–النمس

  6. يقول عبد الله محمد الجزائري:

    قول شاعر
    لا تحلم بالحل السلمي أنسى الأحلام
    في الكون نسور وذئاب ما فيه حمام
    قم غادر بيتك لا تقعد واحمل ألغام
    ودع الكرسي لمن جبنوا ودع الأقلام
    ان كان عدوك ذا بأس فالحرب سجال

  7. يقول دحمان- الجزائر:

    ماتت الانسانية انها نهاية العالم . ماركل تقول ان من حق اسرائل الدفاع عن نفسها و امريكا تقول نفس الشيئ و فرنسا تتخوف .هل هذا دم ام ماء .اين الاعراب ؟ هل ستكونون جثثا احسن بصمتكم المطبق ؟
    التحية الخالصة للشعب الفلسطيني في غزة و الرحة للشهداء و الانتصار للمقاومة باذن الله .

إشترك في قائمتنا البريدية