عرب أمريكا اللاتينية

حجم الخط
0

عرب أمريكا اللاتينية

أمجد ناصرعرب أمريكا اللاتينيةقبل بضع سنين التقيت، في مهرجان شعري عقد في مدينة أمالفي الايطالية، شاعراً من البيرو، لا أتذكر، الآن، بسبب تنكدي منه (آنذاك) سوي اسمه الأخير: إيدوم.كان للشاعر السبعيني هيئة عضو مجلس بلدي متقاعد، من أولئك الذين كانوا يقضون سحابة نهارهم وهم يلعبون الطاولة في مقهي الكوكب الزرقاوي.بربطة عنق برتها الأيام وشارب محتوت، وصلعة تخالطها بقايا شعر يحرص، تماماً، علي تمشيطه، وقامة موظف إداري ما تزال تحافظ علي اعتدالها، كان أول من يجلس إلي طاولة الأفطار صباحاً لكي يحتسي قهوته المصحوبة بسجائر متتالية، من دون ان يمس، تقريبا، طعامه.لم يكن كثير الخلطة، أو الحديث، مع بقايا جيل البيت الشعري الامريكي المشاركين في المهرجان الذين كان يُسمع لغطهم من درج الفندق، قبل أن يتدفقوا إلي المطعم، ليلتهموا، كعاصفة استوائية، كل ما يتوافر علي الطاولة من طعام، ولا كان يتحدث، الينا، ايضا، نحن شعراء العرب الثلاثة المدهوشين من قوة الحياة التي تسري في عروق شعراء الستينات الامريكيين ونهمهم للطعام.لفتت نظري كنيته (إيدوم) أكثر مما لفتتني جلسته المتوحدة، فجازفت بالحديث إليه، بالانكليزية، فطلع الرجل يعرفها أكثر مني.قلت له ان كنيته ليست لاتينية الجرس، فوافقني، قائلاً، بضجر او بتبرم من اقتحامي مداره المتوحد، ان عائلته تنحدر من لبنان وهذا هو لقبها. حاولت إعادة هذا اللقب الي أصله العربي، إلي أن رنَّ في ذهني لقب قاض لبناني شرس يدعي عدنان عضوم كان قد ارتبط اسمه باغلاق محطة تلفزيونية لبنانية واجتراءات اخري علي حرية التعبير في لبنان.. فقلت للشاعر البيروفي الذي لم يكن يرغب، بالمرة، بمواصلة حديث الأنساب هذا: عضوم! إسم عائلتك العربي.. عضوم.لم يبد ذلك الشاعر الذي عمل في بعثة بلاده الدبلوماسية في الأمم المتحدة (أو ربما لدي امريكا) اي دهشة من علومي كنسّابة عصريًّ، إما لأنه كان يعرف ذلك، او لصدي عن الاسترسال في الحديث معه.قلت في نفسي ان هذا الرجل سعيد بكونه بيروفيا ولا يريد ان يذكره أحد بأصله العربي. طبعا، لم يكن هذا صحيحاً.فهو لم يبد سعادة بأي شيء، حتي بالبحر المتلأليء أمامنا كشهقة من الفيروز حيث تقع علي الطرف الآخر منه تلك البلاد التي هاجر منها والده (او جده).كانت تلك المحاولة الفاشلة للتقرب من الشاعر البيروفي ذي الأصول اللبنانية، كفيلة بانصرافي عنه طيلة أيام المهرجان، والتصاق صورته في ذهني كرجل لا مثيل لنكده.تذكرت صاحبنا إيدوم (أو عضوم) قبل أيام وأنا اشاهد واحداً من افضل برامج الجزيرة الوثائقية: عرب أمريكا اللاتينية.كانت الحلقة مخصصة لثلاثة أشخاص، لا يعملون، لحسن الحظ، في التجارة التي كادت ان تشكل طبيعة ثانية للمهاجرين العرب الي قارة الامطار المدارية والكوكا والهنود الحكيمين. شاعر ومسرحية، وفنانة تشكيلية، تعاقبوا بتلك الزقزقة التي تميز اللغة الاسبانية، علي فتح صناديق ذاكرة الآباء، او الاجداد، الذين جاؤوا من لبنان وفلسطين والعراق (الأخير لم يكن يعرف الهجرة سابقا).الشاعر تتحدر عائلته من حصرون اللبنانية، اما المسرحية فجاء والدها المخرج والكاتب المسرحي من بغداد، بينما الفنانة التشكيلية مزيج رائع من أب فلسطيني وأم لبنانية.لا شيء في اولئك الذين يحملون ألقاباً عربية: صوما، ياسين، يشبه صاحبنا عضوم . صحيح انهم منخرطون، تماما، في حياة بلدانهم الحالية ولكن في اعماقهم نوستالجيا لا شفاء منها حيال بلاد أسلافهم.هجرة معظم العرب الي امريكا اللاتينية هي هجرة حقيقية.أولا: لأنها تمت منذ عشرات السنين.ثانيا: لأنها كانت الي بلاد بينها وبين بلادهم الاولي شهور من السفر في البواخر.وثالثا: لأنها حصلت في وقت لم تكن فيه وسائل الاتصال قد عرفت هذه الثورة التي لمت أطراف العالم كصرة جدة ريفية.تلك، فعلا، هجرة وانقطاع كبيران في البلاد والعباد، وقد لمست ذلك في زيارتي إلي كولومبيا التي استغرقني السفر إليها نحو ثلاث عشرة ساعة طيران متواصلة بين مدريد وبوغاتا، وقابلت، خلالها، عراقيا درب طفله الصغير علي الغناء لفيروز بصوت حدأة!ليس هذا حال مهاجرنا الأوروبية التي تمت في عصر طائرات البوينغ و الايرباص والهاتف والفاكس.. والكومبيوتر والانترنت لاحقا.نحن، الذين نقيم في المهاجر الاوروبية، علي مرمي حجر من بلادنا، بقينا، بحكم هذا القرب ووسائل الاتصال والمشاغل السياسية، والثقافية، علي صلة بتلك البلاد التي أغلقت آفاق الحياة أمامنا، ولم يكن المهجريون العرب الاوائل الي امريكا اللاتينية كذلك.فمعظم الذين غادروا الساحل السوري في نهايات القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين، فروا من الانكشارية التركية والجوع الذي راح يضرب، كوباء، المدن والجبال والسهول سواء بسواء.وباستثناء تلك الكوكبة المنيرة من الشعراء الذين تكونوا، اصلاً، في بلادهم الأولي، وأعطونا، من تلك الاصقاع البعيدة، أول أشكال النهضة الشعرية العربية الحديثة، فإن معظم المهاجرين كانوا محدودي العلم والثقافة، فحملوا صرر بضائعهم علي ظهورهم وطافوا بها علي دساكر مرمية في قلب العالم المداري.من الجيل الثاني والثالث لأولئك المهاجرين برز ساسة وكتاب وفنانون وعلماء وتجار بارزون حتي ان غابرييل غارسيا ماركيز، يذكر في سيرته عشت لأروي أن احد المرشحين الأقوياء للانتخابات الرئاسية الكولومبية في اواخر الاربعينيات من القرن الماضي يتحدر من عائلة طربيه اللبنانية.قال الشاعر الكوستاريكي المنحدر من عائلة صوما اللبنانية في الحلقة الأخيرة من برنامج عرب امريكا اللاتينية جملة أذهلتني، ولم أتوقع أن عرب اليوم، الذين حصدت انظمة الهوان العربي أحلامهم وكبرياءهم، يمثلون لحظة تحد كبري في تاريخ صراعات القوة.بكل بساطة، قال ذلك الشاعر ان العرب يشكلون اليوم طليعة القوة البشرية التي تتصدي لأعتي جبروت استعماري في العالم!من تلك الأرض المدارية البعيدة رأي شاعر كوستاريكي من أصول لبنانية ما نشك، بقوة، اننا نمثله.ولكن بعد مشاهدة نشرة الأخبار التالية علي قناة الجزيرة قلت لنفسي: لعله علي حق!0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية