حين يلغي خيال جنوننا الزمن: الصور المستعادة بصفتها لحظات رخاء كوني
فاروق يوسفحين يلغي خيال جنوننا الزمن: الصور المستعادة بصفتها لحظات رخاء كوني1هناك جرأة من نوع ما ينطوي عليها كل فعل فني. هي في حدودها القصوي فعل يراد منه اختراق جدار ما، هو في كل الاحوال جدار افتراضي غير أن اختراقه غالبا ما يتخذ طابعا أخلاقيا، الامر الذي يسم بالشذوذ كل محاولة للذهاب بعيدا. وهنا ينبغي الحذر من تداخل مفهومين للأخلاق هما علي قدر هائل من التناقض: الأخلاق، كونها معيارا اجتماعيا والأخلاق من جهة مفهومها الكوني المطلق. وإذا ما نظرنا إلي الفعل الفني فان سعيه الي الجمال بصفته هدفا ساميا يجعله أكثر الأساليب تشددا في التعبير عن قطيعة المطلق بارادة اللااكتراث. لقد اقترح النقد ذات مرة فكرة التنصيص، فيما كان بيكاسو وبيكون قد استوليا منذ زمن بعيد علي رائعة فيلاسكز البابوية، وراحا يعبثان بها، كما لو أنها ارث شخصي، وهي كذلك فعلا. لطالما تألمت من جهتي وانا أقرأ قصائد سبقني الي كتابتها آخر. آخر ليس ضروريا أن يكون إبن زمني. هل تقنعني الجملة التي تقول: اني اتيت متأخرا؟ هناك من سبقني إذن وعلي الاستسلام لهذا القدر بكثافته الاخلاقية. شيري لافن (المولودة في بنسلفانيا عام 1947 والمقيمة في نيويورك) تواجهنا بخيار مختلف، ذلك لأنها تري في التنصيص قناعا، لذلك فإنها تذهب الي العمل الفني الذي شلها عن التفكير والعمل مباشرة، لتستعيره، بل لتضمه إلي مقتنياتها الشخصية، بل وأكثر لتدعيه، عملا شخصيا من غير أن تزعم اختراعه. هذه الفنانة المولعة بلغة الما بعد تعيد انتاج الأعمال الفنية التي يغيظها أنها انتجت من قبل فنانين آخرين، من خلال العين التقنية الثالثة: الكاميرا. إنها تستنجد بخيال جنوننا التقني. 2هناك مسافة هائلة تفصل بين فنسنت فان كوخ ومارسيل دوشامب، تعترف بها العين الخبيرة ويهبها التأريخ نوعا من الرخاء المعرفي، غير أن المتعة المتأنية لا تراها، بل انها تنفعل بصريا بما لا يقيد كوخ ودوشامب بتلك المسافة التي لم يفكرا بها أصلا. وهي متعة تنبثق من رغبة في الاستيلاء علي الجمال، بصفته جملة غير مكتملة. ما تفعله الفنانة شيري لافن يدفع بنا الي التساؤل: كيف انتهي الجمال إلي هذه الحال؟ هذه الفنانة تمزج الازمنة بخفة، تصنع من مزاجها الجمالي ميزانا لتذهب من خلاله إلي الحكمة التي تؤكد اختلافها. لافن تصور لوحات لديغا وسيزان ومانيه وصورا فوتوغرافية لوالتر ايفانس ومبولة دوشامب، وتطبعها بحجوم كبيرة ومن ثم تعرضها بتوقيعها الذي يحمل عنوان: ما بعد. أي ما بعد ديغا وما بعد مانيه وهكذا. شيري هذه لا تنصص. إنها تحضر العمل الفني مثلما تراه، لكن من خلال عينها الأخري، وهي عين متعتها المتحررة: الكاميرا. تري تلك العين احيانا في الشيء الممتع فكرة للتماهي مع معانيه البصرية كما هو الحال مع حذاء فان كوخ فتتحرر منه، وقد تكتفي بصورة من أيفانس تسد أمامها طرق الالهام وتنفي حريتها. تقنعنا شيري لافن بان الفن هو الآخر يصلح أن يكون مصدر الهام للفن، ليست الطبيعة وحدها. هناك العين التي ترعي مصائر المرئيات: صورا كانت تلك المرئيات أم وقائع معاشة، لا فرق. تري شيري الي الأعمال الفنية التي سحرتها من جهة كونها وقائع خيالية تستحق أن تري كما لو أنها لم تر من قبل أو كما تتمني لو أنها لم تخترع من قبل. لا تهم فضيحة بورتريه فان كوخ، فهي تذيل الصورة بما يحث علي التأمل: أن نكون موضوعا كما حدث لفنسنت. توقيع شيري لا يفقدنا الثقة بفنسنت بل يؤكدها، لكن من خلال الايمان بعريها، وهو عري يفرضه الجمال ضالة مطلقة. أعمال الآخرين الفنية هي بالنسبة لها أشبه بالأشياء الجاهزة التي حين تستعمل في الفن تطلق رؤيا مختلفة.3 لـ(ماري الين ستروم) أسلوب آخر في استعادة الصنيع الفني التي تشعر أن آخر قد سبقها إليه. إنها تعيد انتاج ذلك الصنيع واقعيا، تؤثث الواقع به، وتصوره كما لو أنه فكرة عيش محتملة. عملها يستند إلي مهارة مقلوبة. فهي تستخرج نساء رينوار العاريات علي سبيل المثال من لوحاته لتهبن حياة، هي الأخري تتحول الي مصدر خيال من خلال الصور الفوتوغرافية. ستروم هنا تجهز لرينوار مفردات عمله، كما لو أنه يستعد للرسم، إنها خادمته التي حضرت بعد أن استهلك حياته سعيدا ومضي الي الموت. خيال مقلوب يمتد بفضاء الصنيع الاصلي خارج زمنه. فما من امرأة تشبه امرأة أخري. لذلك فان نساء ستروم لسن نساء رينوار، إنهن يقمن بأداء أدوارهن بعد انتهاء العرض. لا يتشبهن بقدر ما يسعين الي التسامي بلحظة الخلق الجمالي لتكون لحظة ترجمة لا لحظة اقتباس. جمالهن ليس رينواري بل هو صناعة مخادعة. ربما رغبت ستروم في تخيل نساء رينوار بصفتهن نماذج (موديلاً) للرسم، غير أنها سعت الي التعريف بهن، بصفتهن كائنات ما زلن علي قيد الحياة. بهذا المعني فانها لا تستعير من رينوار نساءه بل فكرته عن جمال لا يتعرض للاذابة بفعل الزمن، جمال يتكرر مثل خطأ لين. في كل مرة يكون آخر. لا بد أن نساء ستروم قد شعرن بالسعادة وهن يقفن أو يجلسن أمام عدسة كاميرتها في مشهد تمثيلي يسافر بهن بين العصور بصفتهن ربات جمال، غير أن ماري الين ستروم هي الأكثر سعادة من بينهن، ذلك لأنها من خلالهن استعادت لحظة خلق تمنت لو أن الآخرين لم يسبقوها إليها. 4دائما هناك حكاية شخصية، الفن يقترحها. شيري لافن وماري الين ستروم وقعتا مثلما ملايين من البشر المسحورين في غرام الماضي الحائر والمحير. ماض يضع الجمال علي ركبتيه ويبكي. لقد وقفتا مثلما كان يفعل الشعراء العرب قريبا من الاطلال، غير أنهما حرصتا علي أن تتنفسا هواء عصرهما. لذلك اختارت كل واحدة منهما الحيلة التي تجعلها في منأي عن الخضوع للماضي بصفته ماضيا. لقد جرتا ذلك الماضي من قرنيه إلي ملعب حريتهما. اعتذرت لافن بصيغة لغوية يغلب عليها التأويل المفاهيمي هي صيغة المابعد فيما اتجهت ستروم إلي الواقعة الحياتية بصفتها مصدرا لجمال لا يزال ممكنا. كلاهما مشغولتان بمادة جاهزة، غير أنهما تعـــبئان تلك المادة بخيال قلقهما وحيرتهما وشـــجاعتهما. تدرك لافن جيدا أن أحدا ما لن يشــغله سؤال ما بعدها، كذاك ستروم فإنها تعرف أن المسرح الذي صنعته هو مسرح مغلق علي فكرتها، غير أن فضيلة فنهما تكــمن في قدرته علي أن يعيدنا الي السؤال القـــديم الذي يتجدد في استمرار: ما الجمال؟ ہ شاعر وناقد من العراق يقيم في السويد0