مأزق المعارضة بين الوطنية المهددة والديمقراطية المؤجّلة

حجم الخط
0

مأزق المعارضة بين الوطنية المهددة والديمقراطية المؤجّلة

مطاع صفديمأزق المعارضة بين الوطنية المهددة والديمقراطية المؤجّلة تظل المجتمعات قبل الصناعية غير واعية لدلالات التكوين المدني لافتقارها إلي البني المؤسسية، وسيطرة التماثلية علي مختلف قطاعاتها بحيث يصعب تمييز أدوار تعددية ما بين وحداتها السكانية. فالكل والواحد لهما طبيعة متشابهة. وليس ثمة ظهور للفرديات المستقلة. وبالتالي من الخطأ إطلاق التوصيف الحداثوي علي الحياة السياسية العامة الذي يميز بين اتجاهات اليمين واليسار والوسط، أو يساعد علي إنشاء أحزاب بمعني الكلمة، متنافسة علي أساس برامج وتوجهات موضوعية، ومتباينة تعددية في أهدافها. لذلك لا يمكن النظر الي المتغيرات، من ضمن سياق يتمتع بمقدمات محددة، ويؤدي الي نتائج متوقعة أو متصورة. فالاختلاف بين حال وأخري لا يخضع لقانون واضح. وكثيراً ما تقع التحولات العامة، بشكل عابر أو مفاجيء، كأنها نوع من الصُّدف الطارئة، غير قابلة للتحليل العقلاني، وإنما يضطر الفهم أن يلجأ الي مجرد التسويغ والتبرير،دون أن يكون ذلك متطابقاً بالضرورة مع منطق الأهداف كما هي.هكذا مثلاً سيطرت فكرة الاشتراكية علي معظم دول العالم الثالث بعد فوزها بالاستقلال الوطني مباشرة، وكأنما كانت مجتمعاتها ناضجة التكوين الطبيعي، ما بين البرجوازية والبروليتاريا، وهو الوضع الذي لا يمكن أن تصل اليه إلا المجتمعات الصناعية، وبعد تطورات بنيوية في علاقات الإنتاج عبر فترات تاريخية متتابعة تتطلب أجيالاً من المتغيرات وحالات الوعي المصاحبة لها. هذا الوهم وما يشبهه كذلك من الأدلجات المجلوبة الأخري، فتح الطريق أمام قيام الدولة الشمولية التي استحوذت علي مختلف خطوط التطور، وأخضعتها لنماذج من التكييف والقولبة، المضادة غالباً لطبيعتها، والمتجاهلة لواقعها وإمكانياتها التي تخصها. مثل هذه الإكراهات الفوقية المفروضة علي الدويلات الطرية العود، ساهمت موضوعياً في إحباط مستقبلها التنموي الذاتي، وحرفته عن مساراته الأصلية. وجعلت مجتمعاتها ذات الطبيعة الهلامية عرضةً لقولبات قسرية تخترعها الفئات الحاكمة كيما يتاح لسلطاتها الإمساك بمختلف مفاتيح التطور، ومفاصل التكوينات المستجدة، ووضع خطوط الحراك الاجتماعي تحت رقابتها الأمية والجاهلة المتجاهلة لأبسط معطيات الواقع وظروفها المتغيرة تلقــائياً. فتـــأتي تدخلاتها الطائشة لتفسد مقدماً كل خمـــائر التقـــدم النوعي والتاريخي الذي تنادي به وتنتـــظره ما يســمي بالطلائع المثقفة المخضرمة والمعــاصرة لمرحلة الاستقلال ما قبلها وما بعدها.إنه قانون التطور المجهض بإيقاعاته الثابتة والمتشابهة بين مختلف دويلات العالم الثالث تقريباً، ومن بينها خاصة الكيانات العربية التي عانت جلّها من صدمة الانحلال المبكر؛ وقد فاجأها منذ خطوات البدايات الاولي الخاطئة. وهو الوضع الذي مهّد لظهور دولة القمع من جهة، كما ساعد من جهة أخري في دعم ركائزها وتسليط أجهزتها الامنية، وتغلغلها في العمق من أنسجة المجتمع، ومفاصل هيكليته العامة، وفتح كل الأبواب أمام اختراق شبكية الفساد بأشكاله العامة. وامتد سريعاً الي مختلف مؤسسات الحكام والمحكومين معاً. صار التسلط والفساد توأمين يكتسحان معاً كل الساحات، يشكلان الفعالية الرئيسية المتحكمة ببقية الفعاليات، والموظفة أولاً لحسابها.ما يقال عن انهيارٍ لتجارب العالم الثالث وانتكاس مختلف المشاريع التنموية الجادة، وضياع ثرواتها الوطنية مجدداً، وانحسار أدوارها السياسية المعقودة عليها آمال شعوبها، في مجال الصراعات الدولية ومتغيراتها المصيرية، إنما يعود أولاً لتبديد فرص النهوض الحقيقية الكثيرة التي تتحمل مسؤوليتها التاريخية أنظمة الاستبداد والفساد التي اختطفت جميع مبادرات العمل والفكر والتنظيم وعزلت شعوباً كاملة عن المشاركة في تسيير أبسط شؤونها العامة، وكَبَحَتْ إرادة التغيير بكل وسائل العنف المادي والمعنوي. والمثال النهضوي العربي بخاصة يأتي في مقدمة هذه القصة البائسة، التي لم تنهض خلال فصولها الدرامية، إلا أسوأ قوي الاستغلال والتسلط والنهب العام والخاص. فالمحصلة السياسية المرة لانهيار مشروع النهضة الثانية المعاصرة لم تتجسد فقط في إنتاج أردأ أنظمة الحكم المعروفة في تاريخ التطور الحضاري وحدها، ولكنها، وهذه هي النتيجة الأفجع، أجهضت نشوء المجتمع المدني بأبسط خصائصه الإنسانية والحقوقية والثقافية. فما تَسَلَّمَتْهُ الأجيال الصاعدة اليوم ليس سوي حطام نهضةٍ أصابتها الشيخوخة وهي لم تفارق طفولتها الأولي بعد. عقائدها ارتدادية نحو عهود التكايا والزوايا وصراعات الملل والنحل. ثقافتها أمية القراءة وضحالة الإبداع، وسيطرة مطلقة للصور السمعية البصرية وشائعاتها العابرة، واقتصادها، ثروات فاحشة محتكرة في أيدي أمراء السلطة والعشيرة والحزب، ويتداولها فقط سماسرة الداخل والخارج، بينما يعمّ العوز والفقر وأشباهه غالبية الناس. آفاق العمل مسدودة أمام أجيال الشباب في أكثر أصقاع العالم الثالث، وتحديداً في أقطار العرب والإسلام، حتي في بلاد شيوخ النفط وأمرائه. فالبطالة هي صنو الجهالة، وبهما معاً تزدهر شعائر الخرافة والتعصب أو بدائُلها: العنفُ والإرهاب والهلوسة الغيبية. اما التداعيات السياسية فمحصورة بين أرباب السلطان وحواشيهم. لا شأن في خيارات الدولة وقراراتها العليا لأحد. وقد يخيّل للحاكم المستبد أن إرادته المطلقة سارية المفعول فيما يخصّ بلدَه، وفي كل مكان آخر. يبلغ غرور العربدة والنّزق الانفعالي بالمتسلطين حدَّ الاستهتار بأولويات المباديء المنظمة للعلاقات الدولية ومصالح أقرانهم الأقربين، جرياً علي عاداتهم في احتقار شعوبهم والاستهانة بردود أفعالهم علي تحدي الغيّ السلطاني واللصوصية العلنية الوقحة.لم يعد لمعظم الأنظمة العربية ما يدعم (شرعيتها) سوي مدي العنف الطغياني الذي استخدام أسوأ وسائله المباشرة المجلوبة من أظلم عهود البربرية. فالقتل الفردي والجماعي، المادي أو المعنوي، هو الحل الأسرع والأفعل للإجهاز علي المعارض، الذي يُعتبر في عداد المنافس المهدّد لملكيات المتسلطين اللامحدودة. وعندما اختنقت جذوة النهضة في مهدها، وانحرفت جميع مشاريع التنمية الإنسانية والاجتماعية عن غاياتها العامة، لتغدو مجرد صفقات فوقية لأهل السلطة وحدهم، تضاعف من ثرواتهم الفاحشة ومن نفوذهم، وتقوّي من مواقعهم ضد بعضهم بعضاً أولاً؛ في هذه الحالة الاستثنائية الشاذة من تطور الاجتماع الإنساني، لن تغطي ساحة العمل العام سوي تلك الفصائل، من سماسرة السلطة والمال أولاً، تسرح وتمرح بحماية عسس الأمن والقمع، فتصبح مسألة التكوين السياسي، وظهور منظمات حزبية حقيقية، وبروز هيئات معارضة تعتمد مناهج معرفية واضحة، وتمارس حقوقاً طبيعية أولية في طرح الأفكار، وممارسة الحوارات والنقاشات العلنية، تصير هذه المسألة من أصعب المداخل الضرورية للإفراج عن نواة المجتمع المدني المطمورة تحت حطام النهضة المجهضة.ولكن حينما يحدث أن تقع صدمة الاعتراض المداهمة، ومن الجهة أو المكان غير المنتظر، من الخارج الإقليمي المجاور والدولي الأبعد، ثم تتصاعد المداهمة الي مستوي التهديد البنيوي بانهيار الكيان، ودون التمييز بين حكامه ومحكوميه، بل أكثر من ذلك، عندما تحس فطرة الشعب المضطهد أنه هو المقصود المركزي من هجمة الدمرقطة الزائفة الأجنبية، وبحجة الاقتصاص من مسؤوليه المدانين أصلاً من قبل شعوبهم، بتاريخ طويل غاصٍّ بأنواع الارتكابات كلها، فكيف يمكن توقع الموقف من هذا المأزق الأخطر، هل سيرتد الشعب المعذب الي مجرّدِ فعل غرائزيّ، قد يجمع داخل شرنقة (الوطنية) بين أعداء الأمس واليوم بين الضحايا وجلاديهم معاً، وتحت شعيرة التضامن الارتكاسي الذاتي ضد التهديد الأجنبي؟ أم أن الموقف من المأزق المصيري سوف يكشف حقيقة أعمق مطمورة تحت هذه المسْرَحَة الصارخة للعبة الداخل / الخارج، فتنطلق المعارضة الشرعية من صميم الوطن المقموع ككل، مفسحاً للمرة الأولي، لولادة المجتمع المدني دفعة واحدة، ومن خلال هذا الفعل الواحد الشامل الذي هو المعارضة النهضوية، وليس السياسوية فحسب، وضد الإماتة الذاتوية المديدة، وبحراسة العدو الواحد، بجناحيه علي حديّ الوطن نحو الذات ونحو الآخر.إنه العدو الواحد المعروف والمكشوف دائماً، وقد حانت لحظة محاسبته، وليس هناك من يحاسبه ويمانعه تاريخياً مصيرياً سوي انبعاث المعارضة تحت شارة النهضة المدنية الممنوعة دائماً.ہ مفكر عربي مقيم في باريس9

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية