انشقاق خدام: أهل السلطة وأهل المعارضة!
ميشيل كيلوانشقاق خدام: أهل السلطة وأهل المعارضة! لا أريد أن أفوت مناسبة انشقاق الأستاذ عبد الحليم خدام، نائب رئيس الجمهورية السورية السابق، دون إبداء ملاحظة من غير الجائز أن أفوتها في حمأة الحرب الكلامية، التي أعقبت انشقاقه وما قيل فيه تأييدا أو إدانة أو استغرابا. هذه الملاحظة تنصب علي ضرورة إجراء مقارنة بين سلوك أهل النظام وأهل المعارضة، في ما يخص علاقة أهل النظام بعضهم مع بعض، وعلاقتهم بأهل المعارضة، وبالعكس. ـ لا يقبل النظام السوري أن تتحدث عن وجود تيارات وخلافات فيه، لأنه في رأي أهله نظام منسجم منضبط مترابط الحلقات، لا يوجد ولا يمكن أن يوجد فيه خلاف أو اختلاف، بما أنه ينتج نفسه من فوق: من قمته، التي يمسك بها شخص واحد يشرف إشرافا مباشرا علي تسييره: من رأسه إلي أخمص قدميه. لكن أهل النظام يعترفون بصورة مواربة بوجود فروق تفصلهم بعضهم عن بعض، تأخذ أشكالا قلما يجد المرء نظيرا لها في النظم الأخري، تتجسد في العداء بين المسؤولين، الذي يجعل كل واحد منهم يسعد ويطرب لأي نقد يقال عن غيره، ويفرح لأي سباب يطال شخصه وعمله. هذه الظاهرة، التي عرفها تاريخ ما قبل النظم الديمقراطية، قامت علي تمكين الحاكم من السيطرة علي آلة السلطة والحكم عبر التلاعب بتناقضاتهما وتبايناتهما وبخلافات الممسكين بهما. بما أن النظام السوري يعلن بفخر واعتزاز أنه نظام غير ديمقراطي، وأنه نظام حديدي لا تخترقه ولا يسمح أن تخترقه أية خلافات، فإنه يسعي إلي تجاوز تناقضاته الكثيرة عبر التلاعب بالتباينات والفروق القائمة بين مكوناته المتنوعة، التي يعتبر إدارتها مكونا رئيسا لفن الحكم، والتعايش معها ضروريا لأمن واستقرار أوضاعه. ثمة وراء وحدة النظام الظاهرية حروب كلامية وعملية تخوضها أقسام ورموز ومكونات الحكم والسلطة، ومن النادر أن يقابل المرء مسؤولا إلا ويبادر إلي الهجوم في حضوره علي غيره من المسؤولين، خاصة منهم أولئك الذين يقاسمونه العمل نفسه أو عملا قريبا منه، ويستطيعون معرفة خبايا نشاطه العام والشخصي وفضح ما قد يعود منصبه به عليه من مزايا ومغانم. وقد بدت تناقضات النظام وخلافات رموزه جلية في حديث الأستاذ عبد الحليم خدام وردود الرفاق عليه، وخاصة في حديثه عن فاروق الشرع، الذي رفض أن يقارنه أحد به، واتهمه بالجهل، حتي أنه لم يسمع بالحريري ولم يعرف من هو، رغم أنه بقي وزيرا لخارجية سورية طيلة نيف وربع قرن. كما ظهرت حقيقة العلاقات بين الرفاق خلال جلسة مجلس الشعب، حيث قال النواب كلاما لا يقال عن كلب، في من كانوا يعتبرونه إلي ما قبل أسابيع قليلة مفخرة الحزب والثورة ـ وقد وصفه شيخ عشيرة هو دياب الماشي بـ الشلب خلال مداخلة عصماء ضده ـ علما بأن بعضهم أتباع له أو من صنائعه. ليست المسألة هنا مرتبطة بالانتهازية وحدها، كما يمارسها قوم يعلمون أنه لا قيمة ولا رأي لهم. إنها تتعلق، قبل هذا وذاك، بطبيعة العلاقات بين رجال السلطة والمسؤولين عنها، وببنيتها التي تجعل وحدتها قائمة علي الغنم والغرم، علي الترهيب من جهة والامتيازات من جهة أخري، وما يلازمهما من تناقضات وتباينات بين مكونات السلطة وممثليها، يصعب استمرار حكم الفرد بدونها. أليس أمرا منطقيا أن يتوقع المرء انشقاقات سلطوية دائمة في نظام تشغله آليات كهذه؟. أليس أمرا طبيعيا أن لا يجد النظام طريقة تحول دون انشقاق مسؤولين جدد عنه غير منع معظم كوادره وقادته من مغادرة البلاد، كما تقول معلومات وشائعات كثيرة؟. يختلف موقف المعارضة من السلطة عن مواقف أطراف النظام بعضها من بعض، ليس فقط لأن المعارضة تريد أن تكون ديمقراطية، وتجد نفسها مجبرة علي تقديم نموذج آخر من التعامل مع الآخر والذات، بل لأنها تمتلك نظرة إلي واقع سورية ومشكلاتها تختلف عن نظرة النظام، وتقوم علي أولوية المصالحة الوطنية، التي لا تمنع النقد والصراع الفكري والسياسي، وإنما تتطلبه وتفترضه وتعطيه مضمونا توحيديا، وتعتبره أداة تنقية الحياة العامة من الفساد، وبناء فضاء مفتوح علي الوحدة بفضل التنوع وذلك الضرب من الاختلاف والخلاف، الذي يرقي الحياة العامة ويمدنها، ويبعدها عن التمزق الذاتي والحكم الفردي والنظام القمعي. في هذا النهج، ليس النقد سبابا أو شتائم، إنه موقف يستند إلي حجج وقرائن غير شخصية، لكونه ينصب علي قضايا ومسائل عامة. وليست السياسة فن خلق التناقضات وإداراتها، بل هي فن تقليصها وتخطيها والتخلص منها. وليس الإجهاز علي الآخر هدف العمل العام، وإنما فتح أبواب الحياة العامة أمامه وجعل مشاركته فيها مصلحة وطنية وسياسية عليا، بالنظر إلي أن الصراع السلمي، التنافسي الطابع، هو الذي يقرر مكانة القوي السياسية المختلفة وأدوارها، ومواقع الأفراد وقيمتهم السياسية. لهذه الأسباب، البنيوية، يختلف تعامل المعارضة مع السلطة عن تعامل قادتها بعضهم مع بعض، وتعاملها مع المعارضة، ويتسم خطابها عنها بالعقلانية، بينما يتعاظم حجم اللاعقلانية والهيجان في خطاب السلطة عن مجتمعها ومواطنيها، ناهيك عن خصومها، المتهمين دوما، وبغض النظر عما يفعلونه أو يقولونه، في وطنيتهم!.مزقت السلطة المجتمع السوري، لأن تمزيقه كان ضروريا لتوازنها وديمومتها. وحين واجهت الأزمات، عالجتها كل مرة بتطهير طال صفوفها، أخذ مؤخرا صورة تمزق ذاتي وصراع دموي، قالت إنه ضروري لوحدتها. واليوم، تتكرر التجربة في شرط داخلي وإقليمي ودولي مختلف، بينما يغادر سفينتها الكبار من قادتها وممثليها، احتجاجا علي إغراقها بيد القوي التي تقودها، وتقوض بسياساتها مصالح النظام في ظرف تبدل استراتيجي عالمي خطير، يتخطي أية اعتبارات تكتيكية تفرضها التطورات الجزئية، محلية الطابع. عاش الشعب في الشهر الأخير أحداثا سلطوية أظهرت كم انحدر مستوي النظام وارتقي مستوي المعارضة، وكم فكر النظام خلال العقود الأربعة الماضية بمصالحه الضيقة، وفكرت المعارضة بمصالح الوطن والدولة العليا، وكم كانت صحيحة مقولة إن في وطننا عالما يموت وعالما يولد. 9