ثمة ما يشبه التواطؤ بين الباحثين المتخصصين في دراسة اتجاهات السياسية الدولية، أنها عرفت تحولات كبرى بعد ربيع الشعوب العربية وخريف الديمقراطية فيها، إذ لاحظ عدد مقدر منهم، تراجع قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان في رهانات السياسة الخارجية لكل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، والنزوع نحو البراغماتية أو ما يسمى بالواقعية السياسية المتمحورة على الأمن أو المصالح ودعم الحليف الاستبدادي.
الولايات المتحدة الأمريكية، استمرت في السياسة»الانسحابية»، لكن بمنظور مختلف، ينعطف لخيار دعم الأنظمة الاستبدادية، وتهميش قضية الديمقراطية، ودعم المحاور الناشئة (المحور السعودي الإماراتي المصري) التي تخدم استراتيجيتها.
أوروبا، وبسبب من هجمات إرهابية استهدفت بشكل مطرد فرنسا وبلجيكا وألمانيا، وأيضا بسبب من تدفق الهجرة السورية، انعطفت لرؤيتها التقليدية التي تنتصر في مصالحها لأطروحة الأمن على أطروحة الدمقرطة وحقوق الإنسان.
بعد جريمة اغتيال خاشقجي في القنصلية السعودية بإسطنبول، حدثت تحولات دالة في السياسات الدولية، لا زالت دينامياتها تتفاعل إلى اليوم، وسط توقعات بإمكان مراجعة مسلمة دعم الحليف الاستراتيجي. فما حدث من تحولات في موقف الإدارة الأمريكية في هذا الشأن، والنتائج الدالة للانتخابات الأمريكية النصفية، التي أفرزت تقدم الديمقراطيين في مجلس النواب، وما يعنيه ذلك من تقييد صلاحيات الرئيس الأمريكي، فضلا عن التحولات في مواقف عدد من العواصم الغربية، التي وصلت حد اتخاذ قرارات بمنع بيع الأسلحة للسعودية، والدعوة لتوجيه عقوبات صارمة إليها، يدل في الحد الأدنى، على أن قضية الديمقراطية وحقوق الإنسان، ليست مستبعدة تماما عن طاولة التأثير في السياسات الدولية، كما أن مقولة دعم الحليف الاستراتيجي، ليست ثابتا مطردا من ثوابت السياسة الدولية في تحولاتها الجديدة.
صحيح أنه بالإمكان فهم تحولات الموقف الأوروبي، بذات المنطق التقليدي الذي ينزع إلى الأمن، إذا تم تأويله وعزوه لقضية اليمن، وليس لقضية جريمة اغتيال خاشقجي، على اعتبار الجدل الكبير الذي أثير في السنوات الماضية داخل الأروقة الأوروبية حول تدفق هجرة السوريين إلى أوربا لاسيما ألمانيا، والمخاوف المفترضة حول علاقة هذه الهجرة بالإرهاب وآثار هذا النقاش التي وصلت إلى درجة إعادة النظر في اتفاقات تخص الوحدة الأوروبية، لكن، هذا التأويل الذي تدفع به فرنسا لتبرر أطروحة دعم الحليف الاستراتيجي (الحليف الاستبدادي)، مثلها في ذلك مثل الإدارة الأمريكية المطوقة برلمانيا، ليس طارئا ولا جديدا، فالمأساة اليمنية، أخذت حوالي ثلاث سنوات، أي منذ سنة 2015، وبرزت حدثتها أكثر شهورا قبل اغتيال خاشقجي، ولم يصدر أي موقف أوروبي، وقتها بوقف بيع الأسلحة للسعودية، أو وقف حرب التحالف على اليمن، أو وضع النظام السعودي محل المساءلة، بل لم يتعد الأمر ـ في مختلف التعبيرات الأوروبية ـ قضية رفع المعاناة الإنسانية عن الشعب اليمني.
إن عودة الديمقراطية وحقوق الإنسان للتأثير على السياسة الدولية ليس فقط أمرا ممكنا، بل قد يكون محددا رئيسيا في السياسات الدولية، لاسيما إن قامت بعض الدول بدورها الأخلاقي في الانتصار للعدالة وحقوق الإنسان
مسايرة هذا المنطق، يقتضي ألا يتجاوز الضغط الأمريكي والأوروبي على السعودية قضية وقف الحرب، ووضع بعض القيود على تصدير السلاح ولو على الورق في انتظار تقادم القضية، وأن يتم مجاراة المخرج الذي فشلت فرنسا في تأسيسه، حينما اتهمت الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتسييس ملف اغتيال خاشقجي، وأن يتم التعبير العلني الثابت بأن مصالح أمريكا وأوروبا مع السعودية هي أكبر من قضية خاشقجي مما حاول الرئيس الأمريكي في اللحظات المبكرة فعله وفشل بسبب الإدارة التركية للملف ومقاومة المؤسسة التشريعية.
المواقف المتواترة التي عبرت عنها الإدارة الأمريكية وعدد من العواصم الأوروبية، تؤشر على أن الأمر هو أكبر من قضية اليمن، وأن جريمة قتل خاشقجي، وتداعياتها الخطيرة على القانون الدولي وعلى حقوق الإنسان، هي التي تفسر هذه التحولات، وتؤكد هجانة السياسات الدولية القائمة على منطق البراغماتية ودعم الحليف الاستبدادي، وتعرضها لنكسة بنيوية يصعب الخروج منها من غير تعديل ولو جزئي لاتجاهها صوب الانتصار لقضية الدمقرطة وحقوق الإنسان.
والحقيقة، أن العقوبات المفترضة على السعودية أمريكيا أو أوروبيا، أو حتى الضغط لتغيير بنيتها في الحكم، ليس هو ما يمكن وحده أن يؤشر على هذا التحول، فمجرد أن توضع السعودية في دائرة الضغط للاستجابة لمتطلبات التحقيق في الجريمة، ومجرد أن تبدأ في التلويح تصريحا أو إشارة بقابليتها لتغيير سياستها مع بعض خصومها في سبيل التخفيف من الضغط عليها، ومجرد شعورها بضرورة تعبئة الجبهة الداخلية، وما يفرضه ذلك من إعادة النظر في أطروحة ترويض كل المؤسسات، وإطلاق سراح الأمراء، وما يمكن أن يتوقع قريبا من إطلاق سراح حقوقيين وعلماء ودعاة، فهذا ينهض دليلا على عودة تأثير الدمقرطة وحقوق الإنسان في السياسات الدولية، وأن الواقعية السياسية القائمة على منطق المصلح ودعم الحليف الاستبدادي لم تعد وحدها تفسر تحولات السياسة الدولية.
صحيح أنه لحد الآن، لم يظهر على مستوى السعودية أي مؤشر انفراج حقوقي، فلم يتم إطلاق سراح الدعاة والناشطين الحقوقيين، في مقابل، خلخلة كاملة للبناء المؤسساتي في أمريكا، وصراع حاد بين المؤسسة التنفيذية والتشريعية، ومساع قوية لتوظيف المؤسسات والأجهزة، سواء لدعم الأطروحة المحافظة التي تتمترس خلف المصالح، أو الأطروحة الديمقراطية التي تحاول استنقاذ أمريكا من ترامب وسياساته التي عرضت سمعة أمريكا الديمقراطية للخطر.
بالنسبة للسعودية، يمكن تفسير التأخر في الاستجابة للضغوط في تحقيق انفراج داخلي بالرغبة في استعمال هذه الورقة للمقايضة ومساعدة ترامب في مساعيه لدعم نظام بن سلمان، لكن بالنسبة لأمريكا، فما يجري داخلها من محاولة موضعة قضية خاشقجي في قلب رهانات سياساتها الدولية، فأقل ما يؤشر عليه، هو حدوث زلال عنيف في الأطروحة المحافظة، وسعيها لتجاوز هذا الزلزال بمحاولة خلق تركيب مقبول بينها وبين جزء من الأطروحة الديمقراطية، في حين تسعى الأطروحة الديمقراطية إلى استعادة موقعها وتبرير الحاجة الحيوية إليها.
تركيب هذه الخلاصات، أن عودة الديمقراطية وحقوق الإنسان للتأثير على السياسة الدولية ليس فقط أمرا ممكنا، بل قد يكون محددا رئيسيا في السياسات الدولية، لاسيما إن قامت بعض الدول بدورها الأخلاقي في الانتصار للعدالة وحقوق الإنسان، واستثمرت انتهاكات الأنظمة الاستبدادية، ووضعت الدول الغربية في حرج دولي، يمنعها من الاستمرار في تبرير توجهاتها في السياسات الخارجية بمنطق المصالح ودعم الحليف الاستبدادي.
كاتب وباحث مغربي