أعمال عبد الكريم الوزاني بين ثنائية اللعب والمرح

يعمد الفنان التشكيلي عبد الكريم الوزاني إلى الإقليلية كاتجاه فني يوضب فيه أعماله «الهوائية»، تلك الأعمال المرحة، والتي تقود المتلقي إلى الفترة الطفولية بألوانها الباردة والفرحة، إنها شاعرية الألوان وبهجة الأشكال الحاضرة في هيئتها الاختزالية. فعن اشتغال فاق 40 سنة استطاع هذا التشكيلي أن يركب أعمالا تجمع بين الواقعي في اختزاليته والمتخيل في بعده الحلمي، اشتغال لا يخلو – أبدا- من الروح الشعرية.
يبدع الوزاني منحوتات هوائية، تعتريها خفة السند وخفة المرح الطفولي الذي يسُودُها. وهو القائل «كل إنسان يحوي في أعماقه طفلا يتوق للفطرة ويحن إلى طبيعته الأولى ويسافر إلى عالم عجائبي تختلف مقارباته ويشكل العمق الإبداعي الإنساني الحقيقي». فهذا السفر إلى العجائبية الذي يتبع مساره الوزاني، قاده إلى نحت مواضيع إنسانية وحيوانية تأتي من الواقع وتتجاوزه، منذ معرضه الأول سنة 1978. تمرح أعمال عبد الكريم الوزاني في جغرافيا سحرية، ومن الفضاء ذاته تخرج لوحاته الصباغية ومنحوتاته الهوائية، عامرة بروح طفولية تهرب من حالة الكبر، روح باحثة عن بلاغة شاعرية تعتمد على الإقلال في مواد الاشتغال والبساطة في مفردات جملة الإبداع. فالوزاني لا يتحدث بأي لغة إلا لغة الأطفال، تلك اللغة الإشارية المستندة إلى اللامعبر عنه، عن المنفلت الذي لا يحضر إلا من خلال آثاره، أي تلك الخطوط التي تعمّرُ فضاء العمل، أو تركّب المنحوتة. فالفنان يكسر مفهوم العمق في اللوحة وحتى عبر منحوتاته، التي تتخذ حضورا رهيفا، تمنح للفراغ أكثر ما تمنحه للمواد المشكلة لها. كل هذا في بساطة كبرى وبراءة طفل اسمه عبد الكريم الوزاني. أعمال هذا الفنان تراوح نفسها بين الحداثي والمعاصر، ما يجعل إمكانية القبض عليها مستحيلا، إلا أنها تظل أعمالا تسلك دروب العجائبية المنطلقة من الواقع لتصل إلى الحلم، في سيرورة من الحواس المتداخلة، فالفنان يربك المتلقي إذ يضعه إزاء لعب بالألوان والأشكال، كطفل يحاول رسم عالمه البهيج.

يمرح الوزاني بأعماله الإقليلية في حيّز شاسع وواسع ورحب، فلا فرق عنده بين العمل الصباغي والنحتي، فكل أعماله تنبع من اشتغال واحد وتتنوع حسب الأساند التي أوكلت لها عملية «الخلق».

عالم يحتوي على أسماك طائرة وحيوانات هزيلة وعجلات ودوائر من المعدن الملفوف بالقماش المثبت بلصاق، ما يمنح المنحوتة سمكا، ويضفي الفنان على القماش ألوانا بهيجة في مرح ولعب لا يخلو من التلقائية، التي يتمتع بها الفنان عينه.


يمرح الوزاني بأعماله الإقليلية في حيّز شاسع وواسع ورحب، فلا فرق عنده بين العمل الصباغي والنحتي، فكل أعماله تنبع من اشتغال واحد وتتنوع حسب الأساند التي أوكلت لها عملية «الخلق». ويكاد يقارب هذا الفنان أعمال الفنان الإسباني خوان ميرو، الذي لا يمنح لكائناته أحجاما أو ملمحا تشخيصيا، وإن كان الفنانان يشتركان في كونهما ينطلقان من تلك الآثار التي يتركها الأطفال على الجدران، أو تلك العلامات التي حفرها إنسان ما قبل التاريخ على جدران الكهوف، فميرو يعتمد على اشتغال لوني يشترك فيه مع الوحشيين، بينما يعتمد الوزاني بشكل دائم على الألوان الزاهية والطفولية، كما أنه يعتمد على الرمز كمسوغ استتيقي لأعماله، خالقا بذلك تعددا دلاليا مركبا، رغم الاعتماد على البساطة كمحور الاشتغال صباغةً نحتا. يختزل عبد الكريم الوزاني أشكاله وكائناته، ما يجعلنا مرتبكين حتى في إطلاق صفات عليها أو تسميتها، إنها كائنات بلا هوية وبلا اسم، كائنات عجائبية وإن تتخذ في ذهنية المتلقي ارتباطا بكائنات واقعية (أسماك وحيوانات أخرى)، فهو عبر تبسيطه للأشكال يحاول امتلاكها، أي اعادة تسميتها، بل إنه يلقي فيها روحا، حيث أنه يلتقط خاماته ومواده من العالم الاعتيادي (قضبان، أسلاك، جبص، أخشاب، أصباغ طبيعية) فيهبها حضورا نبيلا، من خلال اشتغال جمالي يروم اعتماد دينامكية من الدلالات المتولدة عبر عمل اختزالي إلى أبعد ما يمكن. فبفضل معجم إقليلي ينتج ويعيد الإنتاج وينظم ويبدع الفنان الوزاني أعماله في تراكيب شعرية، محمولة فوق فضاء من الدلالات والرموز، أعمال تحتوي على ملمس بشري هش ورهيف، إنه ملمس طفولي بالتحديد، حيث البساطة والخفة والرهافة والمرح واللعب تتداخل كلها في بعضها بعضا.

أعماله النحتية لا تفتأ تعود إلى الأصل والبدء، إلى الخط الأول أي تلك العلاقة الرهيفة التي قادت الإنسان إلى التعبير عن ارتباطه بالعالم، لكنه تعبير لا يروم إلى التعقيد، بقدر ما يبتغي الخلود.

فالوزان ظل دائما مخلصا لرؤيته إلى العالم من منطلق المرح واللعب بالخصوص، يقارب هذا المنطلق ما يذهب إليه جاك دريدا حيث أن الأثر (الكتابة بالتحديد) يحضر كلعب، وهذا الأخير هو غياب المدلول الترنسدنتالي. إنه اللعب في العالم باعتباره علامة. فاللعب هنا يحضر بصفته انفلاتا من المألوف وتحطيما لأغلال العادة وعدم الارتهان لمكبلات الواقع، فـ»اللعب هو تمزيق الحضور وحضور عنصر هو، دائما، إشارة دالّة استبدالية منقوشة في نظام الاختلافات وحركة سلسلة. اللعب، دائما، تفاعل الغياب والحضور، ولكن بشرط أن يتمّ إدراكهما جذريا، إذ يجب التفكير في بديل الحضور والغياب، ويجب إدراك الوجود بوصفه حضورا أو غيابا يبدأ بإمكانية اللعب».
بالتالي يحاول هذا الفنان المعاصر أن يعيد كتابة المكان بما امتلكه من إمكانية اللعب، وإعادة تشكيل الفضاء والعالم، مستندا إلى أحلامه اليقظة، تلك الأحلام التي تقع بين عالم الواقع وعالم الحلم، أحلام هاربة بين العالمين، حرة ونزقة. إنه بهذا يسخر من العالم وشخصياته، فأعماله النحتية لا تفتأ تعود إلى الأصل والبدء، إلى الخط الأول أي تلك العلاقة الرهيفة التي قادت الإنسان إلى التعبير عن ارتباطه بالعالم، لكنه تعبير لا يروم إلى التعقيد، بقدر ما يبتغي الخلود. يحتضن عبد الكريم الوزاني الخلود في الروح الطفولية الهاربة من سلطة العمر وسنديان الزمن.
تشبه أعمال هذا النحات والرسام صاحبها، فهو الهادئ والمتواضع والمطمئن لوجوده، لا يبحث في عمله الفني عن أي إدعاء، فهو المنحاز إلى البساطة والاختزال والرهافة، لا يبتغي سوى قول شعري بليغ بأقل المفردات، كأني به يعيد تشكيل قصيدة نثر هادئة ومتدفقة في نهر الشعر. إنه بهذا شاعر اللون والشكل، والباحث عن إيقاظ الحلم الذي فينا، مخترقا الواقع نحو عالم عجائبي، تتأرجح فيه كائناته فوق تلك الأسلاك والقضبان والعجلات بمرح وفرح بهيج.

٭ كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سعيد الشمالي:

    مقال جد رائع، يتطرق فيه الباحث الجمالي عز الدين بوركة المجد إلى أعمال أحد رواد الفن في المغرب المهمين، فالوزاني شخص طيب جدا وأعماله جد عميقة لما تقدمه من أطروحات جمالية متعلقة بالإنسان وبالحلم.
    شكرا للباحث على هذه المادة الغنية.

إشترك في قائمتنا البريدية