إذا ألقينا نظرة عن قرب إلى خطوط الانقسامات العمودية في المشهد السوري اليوم، لرأينا أن إمكانيات التعايش بين مكونات المجتمع الأهلية، في مستقبل يطوي الصراع الدموي المديد، ضعيفة جداً. وذلك على رغم أن التعبيرات السياسية القائمة تتنكر لهذا الأمر باعتباره غير مقبول أو غير لائق بمقاييس الوطنية المقدسة. في حين أن الضمانة الوحيدة المتبقية لوحدة الدولة السورية هي، للمفارقة، القوى الدولية الفاعلة في الصراع السوري. وذلك بخلاف رهاب منتشر بيننا حول أن «الخارج» يريد تقسيم وطننا.
شارك كاتب هذه السطور شخصياً، في سنوات سابقة، بتحليلات تحذِّر من احتمال وجود نوايا دولية لتقسيم سوريا، بالاستناد إلى تنافرات داخلية قائمة. سبق ثبوت بطلان وجود تلك النوايا في المثال العراقي الذي كان، وما زال، أكثر نضوجاً لمشاريع مماثلة. لقد رأينا كيف أن الأغلبية العراقية ودول الجوار والمجتمع الدولي جميعاً قد وقفوا موحدين ضد الاستفتاء على استقلال الإقليم الكردستاني. وفي سوريا، نرى أن الحلول الدولية المقترحة، سواء في مسار جنيف أو في مسار سوتشي، تتعاطى مع موضوعها على أرضية سوريا موحدة، وإن كانت تلك المقترحات فاشلة لأسباب أخرى، ولا يبدو أنها قابلة للنجاح في الشروط القائمة. وربما يشير فشلها بالذات إلى غياب الإرادة الداخلية الجامعة للحفاظ على وحدة البلاد. لا يعني هذا الكلام إضفاء الفضيلة على القوى الخارجية، أو نزعها من القوى الداخلية، بقدر ما يعني وجوب التساؤل عما إذا كانت الوحدة خيراً مطلقاً أو الانقسام شراً مطلقاً.
ربما الكرد وحدهم، من بين المكونات الأهلية السورية، يعبرون عن طموحهم لوضع دستوري جديد يراعي خصوصيتهم القومية ـ الثقافية، من غير أن يصل إلى فكرة الانفصال في دولة مستقلة، ليس تعففاً عنها بقدر ما لأنهم لا يرون شروط تحققها الواقعية متوفرة. كذلك يتفاوت تعاطي الأكثرية العربية مع ذلك الطموح بين رفض قاطع وعدائي، وقبول مشروط وعلى مضض. وعلى امتداد هذا التفاوت، من أقصاه إلى أقصاه، ثمة تقبل أمر واقع لفكرة اختلاف المكون الكردي، مقابل رفض قطعي لأي انقسامات أخرى على أسس دينية أو مذهبية أو جهوية. مع العلم أن الدويلات الخمس التي قامت، في سوريا تحت الانتداب الفرنسي، بين عشرينيات القرن الماضي وثلاثينياته، لاحظت هذه الانقسامات بالذات، وتجاهلت اختلاف المكون الكردي.
سيحتاج حل الصراع إلى قيام حكم انتقالي ما تتوافق عليه الدول الفاعلة، ويرغم السوريين على القبول به، يدعو إلى انعقاد مؤتمر وطني تأسيسي، تتمثل فيه المكونات الأهلية والتيارات السياسية
الشكوى الشائعة بصدد خروج مصير سوريا من يد السوريين، من المحتمل أن تنقلب إلى طلب متزايد على «حَكَم خارجي» يوفّق بين السوريين المتنافرين، وهو المجتمع الدولي المرذول في الخطاب السياسي السوري. صحيح أن التدخلات الخارجية زادت الأمور تعقيداً، وأمدّت بعمر الصراع الدموي، ولكن دعونا نتخيل الوضع بمعزل عن تلك التدخلات. كان من شأن عزل الداخل السوري عن أي تدخلات خارجية، في الأشهر الستة الأولى للثورة السلمية، أن تؤدي إلى سحقها من قبل النظام على مثال صراع مطلع الثمانينات. بالمقابل كان من شأن عدم تدخل إيران وروسيا، بين 2012 ـ 2015، أن يسقط النظام وتنتصر قوى إسلامية مسلحة، فيصبح الوضع السوري شبيهاً بنظيره الليبي، مفتوحاً أمام صراع مديد. أو كالمثال المصري الذي انتهى بعودة النظام القديم بصورة أسوأ مما كان عليه قبل 2011.
الغاية من طرح هذه الاحتمالات الافتراضية هي أن نعيد النظر بمسلمات مألوفة تنظر إلى الأمور بمنظار الأبيض والأسود، أو تتثبت على مقولات تجاوزها التاريخ. فلا معنى اليوم لاستمرار التغني بالأيام الأولى للثورة (شعبية، سلمية، وطنية جامعة، مدنية..) أو بالجيش الحر في عصره الذهبي أيام عبد القادر الصالح وأمثاله، أو للتمسك المرضي بنموذج الدولة المركزية، على سبيل المثال.
بالمقابل، لا تعني حاجة السوريين إلى تحكيم خارجي (دولي) لضمان وحدة بلدهم، تبريراً لتبعية الأطراف السورية لقوى دولية وإقليمية، سواء في ذلك النظام أو معارضيه. فتلك تبعيات تعمق الانقسامات بدلاً من الوحدة. وهي سائدة ما دامت القوى الخارجية نفسها متنافرة في الشأن السوري وغيره. القرار الوطني المستقل سوف يبقى مطلب حق وضرورة، بصرف النظر عن الحاجة إلى تحكيم دولي من عدمها. بل إن من شأن وجود القرار الوطني المستقل أن ييسر توافق القوى الدولية ذات الأجندات المتضاربة حول سوريا.
عاجلاً أم آجلاً، سيتضح أن التسويات المطروحة على أساس الغَلَبة غير قابلة للتنفيذ وبخاصة الديمومة، وسيحتاج حل الصراع إلى قيام حكم انتقالي ما تتوافق عليه الدول الفاعلة، ويرغم السوريين على القبول به، يدعو إلى انعقاد مؤتمر وطني تأسيسي، تتمثل فيه المكونات الأهلية والتيارات السياسية ـ الإيديولوجية جميعاً، يقوم بوضع دستور قائم على عقد اجتماعي جديد يشكل الحد الأدنى الممكن من التوافقات بين السوريين، ويقدم تصوراً لعدالة انتقالية لا بد منها لطي صفحة الصراع الدموي. كما يطمح إلى إقامة دولة عصرية «طبيعية» قابلة للحياة والتطور، بضمانة المجتمع الدولي إياه الذي كثيراً ما نهاجمه بحق. هذا إذا لم نذكر موضوع إعادة الإعمار الذي يبدو مستحيل التنفيذ بدون تضافر جهود عدد كبير من الدول.
بحل من هذا النوع يكون السوريون قد أرغموا على القبول بالعيش معاً في دولة أمر واقع مفروضة عليهم «من الخارج» بدلاً من التغني بسوريا طوباوية لم تعد تؤمن بها إلا قلة قليلة، وإن كانت الكثرة الكاثرة تزعم أنها تريدها.
كاتب سوري
تحليل عقلاني ومتوازن لكن ليس بالضرورة قابل للتحقيق طالما أن هناك قوى خارجية باتت تدافع عن مواقعها المكتسبة في سورية كروسيا وايران وتركيا وطالما ان النظام البائس نظام المجرم ابن المجرم بشار الكيماوي بائع سورية يرتكز على مقولة: الدولة أنا
وسورية هي سورية الاسد للأبد
شكرا أخي بكر صدقي, برأيي مهما حاولنا تحليل الأور بعمق أو ببساطة, المشكلة تكمن في النظام أي بقاء النظام وليس في رحيله.