تداعت وسائل التواصل الاجتماعي بالكثير من الانتقادات للمصارحة الرئاسية التي أدت إلى اكتشاف أن كثيراً من المشروعات في مصر كانت لا تقوم على دراسات جدوى حقيقية، وما الجديد في ذلك؟ في مصر وغيرها من الدول العربية ليس لدراسات الجدوى أو أي خطوة ذات طبيعة علمية، وما تقدمه الرئاسة المصرية الحالية لا يختلف عن المنهج الذي كان يحكم الأمور في مصر على امتداد عقود ما بعد الثورة.
أقدم الرئيس عبد الناصر على عملية تحول سريع وغير مدروس للتصنيع، أدى في النهاية إلى تفكيك القطاع الزراعي، ويمكن أن يندرج ذلك على كثير من المشاريع الأخرى، ولكن ما كان يفعله عبد الناصر يمكن أن يتم تفسيره في إطار التركيز على التشغيل لإحداث حراك اجتماعي، صحيح أنه لم يكن منظماً، ولكنه في النهاية أسفر عن تغيير الخريطة الاجتماعية في مصر.
السادات بدوره دخل تجربة الانفتاح الاقتصادي بطريقة عشوائية غير مدروسة، وأدخل مصر في فوضى اجتماعية واسعة النطاق، وأصبحت فكرة توزيع الدخل والثروة مسألة تخضع للفهلوة، المصطلح الذي أخذ يطفو في الثقافة اليومية، ومع أن الرئيس مبارك بدأ مسيرته بمشاريع كبرى في البنية التحتية مثل مترو الأنفاق، وشبكات الصرف الصحي، إلا أنه اندفع إلى الذهنية الفرعونية مع مشروع توشكى، الذي أثبتت الأيام بأنه لم يكن سوى محاولة لبناء (هرم) معنوي للرئيس في ذلك الوقت. تحصل السيسي على هرمه الخاص خارج أي منطق لدراسات الجدوى، مع تفريعة قناة السويس، ووجد أن المشاريع القومية الكبرى واحدة من الأدوات للاحتفاظ بالأضواء لفترة طويلة، ولكن كان يفوته أنه لا يقدم شيئاً للهندسة الاجتماعية على النحو الذي قدمه جمال عبد الناصر، من خلال إتاحة فرص التشغيل الواسعة في المجتمع، وما يرتبط بذلك من فرص كثيرة للملايين، من أجل تغيير أنماط حياتهم، كما أنه لم يخلق مثل السادات ومبارك قطاعاً خاصاً ممتداً يرفع معه بعض القطاعات السكانية حسب توزع مصالحه، ويخلق طبقة وسطى وإن كانت تعمل على خدمته وإدامته، إلا أنها في نهاية الأمر تسهم في تشكيل واقع اجتماعي جديد.
لا جديد في أن تتغيب دراسات الجدوى في المنطقة العربية، وجزء كبير من المشاريع هي أهرام فرعونية حديثة في صورة ناطحات سحاب أو مولات تجارية أو حلبات سباق وما إلى ذلك، ولكن يبقى التشغيل في حد ذاته فرصة لإثارة الحراك الاجتماعي في بلد مثل مصر، بينما لا ينطبق الأمر في المقابل على دول الخليج التي تعتمد على العمالة الوافدة، ولا ينطبق في أي مكان تكون فيه فرص التشغيل مرتبطة بمجموعة من المتنفذين من المتورطين في المناصب السياسية، لأن الأمر لا يعدو وقتها سوى إعادة توزيع مشبوهة للثروة تتحصل عليها من الفقراء ومحدودي الدخل، لتصب في النهاية في جيوب فئة محدودة وضيقة من أصحاب رؤوس الأموال، الذين يحتكرون المشاريع الحكومية. توجد شكاوى عديدة في مصر من تدخل الجيش في الاقتصاد بصورة مكثفة ودخوله احتكارياً في بعض المجالات، ودفعت بعض المنظمات الدولية بهذه الملاحظة للحكومة المصرية، ولكن الأمر ليس جديداً، ولا يمكن تجاهل دور المؤسسة العسكرية في المشاريع الكبرى مع الرئيس مبارك، وتقف وراء الأمر مجموعة من الأسباب المهمة، فمن ناحية اكتسب الجيش المصري في الستينيات والسبعينيات قواماً ضخماً، نتيجة حالة الحرب القائمة مع إسرائيل، ووجود طموحات في الهيمنة الإقليمية، ومع اتفاقية كامب ديفيد لم يكن لذلك الحجم الممتد للجيش ضرورة فعلية، الأمر الذي أدى إلى توجيه الجيش إلى المشاركة في قطاعات اقتصادية أخرى، وبالطبع كان واقع المديونية الكبيرة والعوز في العملات الصعبة داعياً آخر لهذا التدخل من الجيش، ولم يحدث في تلك المرحلة شيء من المزاحمة القلقة، وكانت الأمور تضبط نوعاً من المحاصصة التي أدت إلى تعزيز إمكانيات الاقتصاد المصري، وأتت الفوضى من الخروج العشوائي من واقع معادلة التشغيل التي ازدهرت في التسعينيات مع شطب جزء كبير من الديون المصرية مقابل الموقف السياسي في حرب الخليج الثانية.
الاقتصاد يجب أن يعمل من خلال التوزيع وإعادة التوزيع لأن ذلك يسهم في توليد القيمة
أتى رجال الأعمال مع جمال مبارك لاقتناص بيئة البنية التحتية، التي أسسها الجيش، ولذلك بدأ استياء كبير ومكبوت داخل صفوف الجيش تجاه عملية التوريث، التي ستلقي بالبلاد هدية للوريث وحفنة من أصدقائه ومشايعيه، وتحرك الجيش في يناير/كانون الثاني 2011 لإزاحة جمال مبارك فعلياً قبل أن يكون هدفه التخلي عن الرئيس، الذي كان واحداً من الحلقة الضيقة التي صاغت معادلة الجيش المصري في مرحلة ما بعد كامب ديفيد، وفي ظل التخوف والتشكك من الصراع مع رجال الأعمال الذين اكتسبوا خبرة كبيرة في كواليس الحكم وشبكات من العلاقات داخل وخارج مصر، جرت عملية سيطرة كبيرة على كافة مفاصل الاقتصاد المصري وصلت إلى قطاع التجزئة الواسع والمعقد، ومن الصعب حالياً أن يدرك الجيش أنه يعايش مساراً صعودياً في قيمة مساهمته الاقتصادية، تغري بالمزيد من التمدد في بنية الاقتصاد المصري، كما أن الأصعب هو الوقوف على حقيقة أن المسار التصاعدي لا يمكن أن يستمر إلى ما لانهاية، والجيش لا يمكنه أن يحقق انتصاراً في مجال الاقتصاد، لوجود قاعدة الدورات الاقتصادية التي هي أقوى من جميع الإمبراطوريات في التاريخ، كما أن الجيش سيواجه مستقبلاً احتمالات استيراد مشكلات الاقتصاد المصري إلى داخله.
لا توجد دراسات جدوى، فالمشهد الحالي هو السعي المحموم للسيطرة الاقتصادية بدون رؤية ديناميكية أو بعيدة المدى، فالاقتصاد يجب أن يعمل من خلال التوزيع وإعادة التوزيع لأن ذلك في حد ذاته يسهم في توليد القيمة، واللحظة التي ستحتم وجود رؤية اقتصادية أخرى ستحين قريباً وفي المدى المنظور، وسيكون التحدي قائماً على أساس إنتاج قناعات لضرورة بناء قطاع خاص يستطيع أن يحمل مصر للتنافس على مستوى الإقليم، وهو ما يتطلبه الاقتصاد المصري الذي لا يمكن أن يمضي في عملية استهلاك نفسه واجترار إمكانياته الداخلية إلى الأبد، فما يمكن أن يتحصل عليه اللاعب الاقتصادي في مصر في ظل تركيبة القوانين الداخلية لا ينطبق بالطبع على القدرة على المنافسة الخارجية، وبالتالي الحصول على الدخل المضاف للاقتصاد المصري وهو ما يحتاجه المصريون من أجل تحسين مستوى معيشتهم في المدى المتوسط والبعيد. تتغيب دراسات الجدوى في اقتصاد يعاني في فهمه لجدوى ما يفعله، ويتحرك بثقة زائدة في عالم أصبح يوصف بأنه عالم اللايقين، وتبقى مصر أكبر وأكثر أهمية من أن تترك لتتحول إلى كتلة سكانية كثيفة على النمط الهندي في منتصف العالم وعلى رأس تقاطع طرقات التجارة العالمية.
كاتب أردني
مُعتقل كبير سجّانه الإنقلابي السيسي ومُدبّر تأسيسه مجرم الحرب ولد زايد ومديره التنفيذي المجرم ولد سلمان الذي أمر بإذابة مصريين وإلّا ما كان لخاشقجي أن يُقطّع ويُذاب بالأسيد في المجاري على مرآى الغرب وأمريكا فسواد النفط جعل من قلوبهم سوداء.
السيسي عبد منكود لا يستطيع مخاطبة من يجمعهم من خلال طاولة وكرسي.
عنوان رائع (مصر واقتصاد اللاجدوى… لعبة استهلاك الذات) وتفاصيل تنم عن ثقافة إعلامية مهمة، لشخص من الواضح لم يعش في مصر، فلذلك أحب أن أضيف ما حصل مع المشير عبدالفتاح السيسي، هو عدم وجود شخص مثل (سيد قطب) الذي أخذ مكانه (محمد حسنين هيكل) عندما رفض أن يكون لسان العسكري جمال عبدالناصر.
فأنكشف مستوى عدم إحترام العسكر (للعلم أو الإقتصاد) في إدارة مشاريع القطاع العام وزاد الطين بلّة محاربة القطاع الخاص عام 2018.
ولذلك من وجهة نظري حب العمل بدل ديمقراطية الفوضى الخلاقة، وسيلتنا لطرد شبح الإفلاس عن دولنا في كل المجالات.
سبب اختياري لجزيرة تايوان، بعد أن زرت الشرق والغرب، لتكون مكان استثماري المالي والأسري، هو ملاحظاتي عن شدة حب الإنسان (ذكر وأنثى) للعمل فيها، من أول زيارة لي عام 1984.
وزاد احترامي أكثر للرئيس، الذي بالرغم من أهمية العمل والوقت وقف جميع البشر عند دفنه،
حتى من كان معي في نفق للمشاة توقف عند سماع الصفارة، المأساة التايوانية (مثل مأساة مصر والسودان والأردن والمغرب، وحتى دول مجلس التعاون) في عام 2018 لتدمير روح حب العمل، لدى الإنسان فيها الآن.
كان سببه من وجهة نظري الرئيس لي دينغ هوي الذي أتى بعده، فقرر إدخال الديمقراطية، فأصبحت الفوضى الخلاقة هي عقيدة الإنسان في تايوان بدل حب العمل مع الأسف.
ولإحياء روح حب العمل في الإنسان، حتى يستطيع منافسة الروبوت، على كرسي الوظيفة، ليكون العائد منه هو الأكثر اقتصادا للدولة، كان (مشروع صالح التايواني لأم الشركات).?