عمان – «القدس العربي»: قد يبدو صعباً الانتقال فوراً إلى مستوى «التعديل الوزاري» على حكومة الرئيس الدكتور عمر الرزاز بالتزامن مع «تصعيد» لغة وهتافات الحراك الشعبي وصمود مجموعة قد تصل إلى 1000 شخص تمثل بالعادة حراك الأطراف والمحافظات في قلب العاصمة الأردنية عمان.
ورغم حاجة وطموح الرزاز بالانتقال، وبأسرع وقت ممكن، إلى ورقة التعديل الوزاري أملاً في»لملمة» ما يمكن من انفعالات الشارع، إلا أن وجهة نظر قوية برزت في أوساط القرار خلال الساعات القليلة الماضية تتحدث عن تحويل التعديل الوزاري إلى ورقة تساهم مـجدداً في احـتواء انفعـالات الـشارع.
نموذج للفوضى والارتباك والعشوائية والارتجال
لكن النواة الصلبة التي تنتقل لرفع الصوت بهتافات تتجاوز كل الخطوط الحمراء المألوفة من مدن مثل السلط والطفيلة وذيبان والكرك إلى قلب العاصمة وبالقرب من مقر رئاسة الحكومة.. قدمت دليلاً جديداً، مساء أمس الخميس، على أنها «عصية على الاحتواء»، وعلى أن «المطلوب «للأقلية الحراكية «أكبر بكثير» مما يمكن عرضه في الواقع.
مثل هذه «العدمية السياسية» في موقف الحراك الناشط والتي انتقدها الرزاز علناً، مرتين على الأقل، تخدم عملياً الجناح المتشدد جداً في مؤسسات القرار والدولة الداعي إلى «التصعيد الأمني» مقابل التصعيد في المساس بالخطوط الحمراء.
افترض المعتدلون في أجهزة القرار بأن سلسلة «قرارات» اتخذت على مقياس الحراك والتفاعل معه يمكن أن تساهم في الاحتواء وتؤدي إلى تقليص المظاهر الانفعالية في منطقة الدوار الرابع التي غاب عنها الحزبيون والنقابيون المنظمون، وتواجد فيها الإسلاميون بصفة «مراقب» .
ما حصل العكس تماماً
تصورت السلطة بأن جلب المتهم الرئيسي في ملف فساد التبغ، عوني مطيع، سيخفف من وطأة الانفعال. لكن المتجمعين في أول خميس بعد جلب مطيع، هتفوا فوراً وبصوت مرتفع مطالبين بجلب وليد الكردي أيضاً، وهو رجل أعمال مدان قضائياً ويتواجد في بريطانيا.
لاحقاً، هتف النشطاء مطالبين بـ «شركاء مطيع من الحرامية واللصوص»، وحتى قبل انتظار نتائج التحقيق القضائي. وتصورت السلطة أيضاً أن «العفو العام» خطوة في الاتجاه التكتيكي الاحتوائي ترافقت مع الإفراج عن موقوفين من قادة الحراك، ففوجئ الجميع بهتافات أكثر «سخونة» ضد الأطر المرجعية ورموز الحكم والدولة.
أعلنت الحكومة أنها ستلغي بند فارق أسعار المحروقات، وقال نائب رئيس الوزراء الدكتور رجائي المعشر إنه سيتدخل مع جمعية البنوك لإعادة «جدولة» ديون المواطنين. واجتمع الملك شخصياً بالنقابات المهنية، متحدثاً عن برنامج أولويات اقتصادية في العام 2019، فيما رد الهتافون بعبارات راقصة «جارحة» جداً أقلقت حتى دعاة الإصلاح والتغيير الذين أعلن بعضهم الانسحاب من الدوار الرابع بسبب «عدمية وعبثية» الهتافات.
باختصار، المشهد المحلي الأردني مربك للغاية، فالحراك الانفعالي بلا أجندة سياسية واضحة، ويفرط بالهتاف المتشدد ولا يتميز بأي مرونة، والأهم لا يطالب بـ «شيء واضح ومحدد» بعيداً عن عموميات تحقير الدولة والتشكيك بالجميع ورفع السقف.
تلك معطيات تقود الجميع إلى «التشويش»، ووحدهم قادة التيار الإسلامي يجلسون مراقبين في رسالة ضمنية تقول لكل رموز الإقصاء للإخوان المسلمين ..»هذا ما يحصل عندما تغيب القوى المسيسة والبرامجية عن الشارع والواجهة».
تماماً، عبّر الأمين العام لأهم أحزاب المعارضة، الشيخ مراد العضايلة، عن ذلك أمام «القدس العربي» عندما وصف الحالة على أساس أن الجميع مأزوم، والحركة الإسلامية قد تكون الأقل تأزماً، والحاجة ملحة اليوم لـ «مقاربة جديدة». بمعنى سياسي آخر، الحراك- ورغم أنه لا يحظى بالزخم الشعبي المطلوب- أصبح «مغروراً» ويتعامل مع «خطوات الاحتواء الرسمية» باعتبارها منجزاً للتصعيد، ويطالب بـ «المزيد» في توقيت حساس للغاية ضمن حسابات الدولة يشتكي فيه الرزاز أصلاً من أنه يقود طائرة «خربانة» والمطلوب إصلاحها أثناء «التحليق».
هذا التكثيف في المطالب «شبه المستحيلة» والهتاف الثاقب لكل الأسقف يتسبب، عملياً، في «تراكم أزمة» غير مسبوقة، فهو يخدم النظرية التي يتبناها بعض الأمنيين الكبار في مجلس السياسات والقائلة بأن «الشارع مثل الطفل لا يشبع ولا يتفهم». يحصل كل ذلك فيما يبدو الأردن «إقليمياً» اليوم بلا أصدقاء أو حلفاء، وفي ظل الاسترسال في ثقافة إنكار الواقع عند الطبقة الحاكمة، وصمود أزمات الأدوات، ورفض «الوصفات المعقولة» الكفيلة بإنزال الجميع عن شجرة الأزمة.
النتيجة الحتمية، ومن باب التحليل السياسي لهذا الاستعصاء، ستكون قريباً «انتصار» الأجندة الصقورية المتشددة أمنياً، والضغط على العصب الحيوي المشدود لحكومة الرزاز، وتقليص هوامش المناورة أمامها. وبالنتيجة، فإن العودة للخيارات الخشنة تحت عنوان «استعادة هيبة الدولة» بكل ما يعنيه ذلك من صور عامة للدرك والاحتكاك والهتاف العبثي والاعتقالات والمطاردات ولعبة البقاء فوق الشجرة.