«عشب» للكوري الجنوبي هون سانغ ــ سو: يوم في مقهى لتأمل أحاديث الآخرين

حجم الخط
0

في هذا الفيلم يواصل المخرج الكوري الجنوبي أسلوبه الذي تكرّس في أفلامه الأخيرة، حيث لا حكاية محددة، لا شخصيات عديدة، والشخصيات هذه لا تتطور بالضرورة، إنّما نراها في فترة زمانية قصيرة، في فيلمنا هذا هي نهار واحد، في أمكنة محدودة، في فيلمنا هذا هي المقهى وشوارع فرعية تقود إليه، وسرد بسيط ومتقشّف (مينيماليست) لهذا النهار في حياة الشخصية الرئيسية، أحاديث عادية روتينية، وزمن قصير للفيلم، ففيلمنا هذا لا يمتد لأكثر من 66 دقيقة.
الشخصية الرئيسية، أدت دورها الجميلة كيم مين- هي، وهذه سادس مشاركة لها مع المخرج هون سانغ سو، هي هنا فتاة تمضي معظم وقتها في المقهى، أمام «لابتوبها»، تراقب الناس من حولها، تكتب يوميات، ملاحظات واقتباسات مما تسمعه من الآخرين في المقهى. الشخصيات الأخرى ترتبط بها بشكل أو بآخر، كون أحدها شقيقها وآخرين يتحدثون معها بشكل عرضي وسريع ليتعرفوا إليها.


الفيلم الذي صُوّر بالأبيض والأسود، مع موسيقى كلاسيكية في الخلفية، يبدأ بشخصية أخرى، في المقهى ذاته، هو رجل، وهو كذلك جالس إلى «لابتوبه»، يراقب من حوله، يكتب بين وقت وآخر، هو كاتب سيناريو، تنضم إليه لاحقاً امرأة ويتحدثان في ما لا علاقة له بأحاديث الآخرين. في المقهى كذلك شاب وفتاة، يتحادثان، بهدوء أولاً كأنهما يتعارفان، ثم ينتقل حديثهما ليكون عن فتاة غير حاضرة، نعرف أنّها ماتت، وتتكرّر فكرة الموت في أحاديث آخرين، كأنّ الموت مقرون هنا بعزلة الفتاة التي لا نراها تعيش علاقة مع أحد، وهي التي ترفض محاولات كاتب السيناريو التقرب منها، متحججة بأن صديقها لن يعجبه ذلك، ولن نرى صديقها هذا على طول الفيلم فلن نعرف مدى صدق حديثها. لاحقاً، سيدعوها الكاتب إلى طاولته هو وأصدقاء، سترفض قائلة صراحة أنّها تفضل الإنصات إليهم من مكانها، ثم نراها تخرج لتشعل سيجارة في الخارج، يلحقها شاب، يتردد في أن يفاتحها بحديث، فتدخل فوراً لتكمل يومياتها التي تكتبها.

ليست في الفيلم حكاية يمكن الحديث عنها، بل حوارات متفكّكة تصوّرها الكاميرا بشكل موضوعي، كأنّها أذنا الفتاة التي تتنصّت على الجميع، تنتقل الكاميرا بين المتحادثين بشكل «لا- سينمائي» بل بشكل عفوي.

في مشاهد أخرى نراها ترافق أخاها وصديقته، تحادثها بشكل غير لائق، كأنها تسعى لفكّ علاقتهما ببعضهما، ثم تصرخ عليه لأنه وصديقته تركا المقهى قبلها، وقد كانت تدفع ثمن ما شرباه. هي فتاة غير اجتماعية، تتجنب الاختلاط بالآخرين، وتنعزل إلى «لابتوبها» كأنّها تخلق عالمها الخاص بعيداً عن العالم الواقعي الذي تعيش فيه.
ليست في الفيلم حكاية يمكن الحديث عنها، بل حوارات متفكّكة تصوّرها الكاميرا بشكل موضوعي، كأنّها أذنا الفتاة التي تتنصّت على الجميع، تنتقل الكاميرا بين المتحادثين بشكل «لا- سينمائي» بل بشكل عفوي بدون رابط محدد بين الوجه الذي تتركّز عليه الكاميرا ونحن نشاهده، والمتحدث أو الصوت والحديث ونحن نسمعه، كأنّ الفتاة تراقب بالكاميرا، خاصة أن المَشاهد بمعظمها هي لشخصين أو أكثر يتحادثون جالسين إلى إحدى الطاولات، كأنّ الفتاة أحد المشاهدين للفيلم، تؤدي دورهم بالمشاهدة، بالمراقبة، بالإنصات، في مكان عام حيث الغرباء وحيث الأحاديث المتفككة، وحيث لا لموضوعِ حديث علاقة بموضوعِ حديث آخر.
للفيلم إذن أجواء تقشفية في السرد والحوارات والشخصيات، وكذلك المكان والزمان، إنّما، وهذا أسلوب مخرجه وكاتب السيناريو له ومنتجه الكوري الجنوبي هون سانغ- سو وقد شاهدناه في أفلامه الأخيرة تحديداً ومنها «كاميرا كلاير» و«اليوم التالي» و«وحيدة ليلاً على الشاطئ» وثلاثتها تمّ إنتاجها عام 2017.
يقدّم الفيلمُ (Grass) تأملات حول اليوميات التي تعيشها تلك الشخصيات، أو حول أحاديثها، حول الموت كموضوع عادي في مقهى هادئ في منطقة تبدو غير مركزية في المدينة، بزبائن قليلين. تأملات تحديداً في معنى الموت كحاضر حتى في «عاديّة» تلك الحوارات والجلسات، هو حاضر إنّما بغير ما تعوّد أحدنا عليه، هو حاضر بشكل أليف عادي فكان الموت كفكرة متآلفاً مع الجو العام للمقهى ولمرتاديه، وكذلك مع مزاجية الفتاة التي تنعزل طوال الوقت عمّن حولها.
لا يأتي الموت هنا كعنصر سوداوي، بل يأتي كمكمّل لفكرة العزلة التي تعيشها الفتاة، لفكرة البعد عن الآخر والانفصال عن المحيط، إذ تبقى أخيراً على طاولتها تدوّن حكايات الآخرين.
الفيلم المعروض حالياً في الصالات الفرنسية شارك مؤخراً في مهرجان برلين السينمائي.

٭ كاتب فلسطيني ـ سوريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية