رواية العزلة أم عزلة الرواية؟

حجم الخط
4

حكاية الروائية السكوتلندية غايل هونيمون، وروايتها الأولى «كل شيء على ما يرام عند إليانور أوليفانت»، كانت الأكثر دلالة بين عشرات الوقائع الأدبية التي أتيح لي أن أتابعها على مسار العام 2018؛ وكانت الأشدّ إدهاشاً أيضاً، لأسباب تتجاوز فنون الرواية إلى علم اجتماع السرد، وعلم نفس القراءة، والاقتصاد السياسي للكتاب المعاصر. مختصر الحكاية أنّ هونيمون فازت بجائزة العمل الأوّل في بريطانيا، ثمّ واصلت تصدّر لوائح الكتب الأكثر مبيعاً حتى بلغت، في آخر إحصاء لنهايات العام، رقم الـ806،460 نسخة. أتت بعدها، في المرتبة السابعة، ميشيل أوباما في كتابها «أصبحتُ»؛ ويوفال نوح هراري، مؤلف «العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري»؛ ثمّ، في مراتب متباعدة، جون غريشام، صاحب روايات التشويق القانوني؛ وج. ك. رولنغ، مؤلفه سلسلة «هاري بوتر»؛ وجوردان بيترسون، الذي يواصل كتابُه «12 قاعدة للحياة: مصل مضادّ للفوضى» إثارةَ الضجيج والعجيج…

فما الذي جلب اهتمام مئات الآلاف من القراء، إذن، في رواية تتناول دائر الحياة اليومية، الضيقة تماماً، لامرأة في الثلاثين «تعمل موظفة» كما تعرّف عن نفسها كلما سُئلت؛ لا تتواصل مع زملائها، ولا تغادر بيتها في عطلة نهاية الأسبوع، ولا تجيد سداد قيمة البيتزا عن طريق بطاقة الائتمان، ولم تسمع بشطيرة الماكدونالد، وتقرأ صحيفة «دايلي تلغراف» لأنها تحتوي على أفضل كلمات متقاطعة بين الصحف؟ تقول إليانور: «أيام الجُمع لا أستقل الباص مباشرة بعد العمل بل أتوجه بدل ذلك إلى مخزن تيسكو مترو فأبتاع بيتزا مرغريتا وبعض نبيذ الكيانتي وزجاجتين كبيرتين من فودكا غلين. وحين أصل إلى البيت، أتناول البيتزا وأشرب النبيذ. بعد ذلك أحتسي بعض الفودكا، ولا أحتاج الكثير يوم الجمعة، بضع جرعات. أصحو على الأريكة الساعة الثالثة فجراً، فأتعثر في خطوي إلى السرير. أشرب ما تبقى من الفودكا خلال نهاية الأسبوع، بعد أن أوزعها على اليومين معاً، بحيث لا أكون في حالة سُكْر ولا صحو. نهار الإثنين يستغرق وقتاً طويلاً حتى يحلّ».
وهكذا يلوح للوهلة الأولى أنّ العزلة، بوصفها داءً لا يتوجب أن يختلف اهتمامنا به عن خرف الشيخوخة أو فقدان الذاكرة، هي المفتاح الأهمّ في تفسير انشداد القراء إلى هذه الرواية؛ وإليانور، التي تجسّد معظم سمات الكائن الأعزل، هي النموذج الذي لا يغيب عن أيّ مكتب عمل، وبالتالي تعجّ حياتنا بأمثالها، ويحدث مراراً أننا نلبي حاجتنا إليها فنتعمد خلقها إذا عزّ وجودها!

قد يصحّ الافتراض بأنّ رواية العزلة هي التي استدرجت قارئ العام 2018، بمعزل عن عزلة التجريب الروائي أياً كان الصخب الذي يتعالى من مطاحنه!

ومع ذلك، هل موضوعة العزلة جديدة على الرواية العالمية، أو الأوروبية، أو البريطانية على وجه التحديد؟ كلا، بالطبع، فأيّ قارئ معاصر متوسط الاطلاع يمكن له أن يُغفل أعمال صمويل بيكيت حول العزلة، خاصة «الأيام السعيدة» التي تلتقط السيدة ويني مدفونة حتى العنق في حفرة عجيبة، تخاطب زوجاً لا يحضر ولا يسمع أصلاً؟ وعلى نطاق غير غربي، كيف تُنسى «الأشياء تتداعى»، رائعة النيجيري شينوا أتشيبي؛ أو الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز، في «ليس لدى الكولونيل مَن يكاتبه»؛ أو الياباني ياسوناري كاواباتا، في «ضجيج الجبل»؛ وعشرات الأعمال الأخرى الخالدة؟
لكنّ الرواية تُرجمت إلى 30 لغة، ولقيت النجاح في معظم الثقافات التي استقبلتها، وهذا يعني أوّلاً أنّ عزلة إليانور ليست محلية، وبالتالي فإنها كونية على نحو أو آخر؛ خاصة وأنّ بطلة الرواية تشخّص حال العزلة على هذا النحو المَرَضي المفزع: «العزلة هذه الأيام سرطان جديد ــ أمر مخجل ومحرج، تجلبه على نفسك بطريقة غريبة. شيء مفزع، لا شفاء منه، مرعب جداً إلى درجة أنك لا تتجاسر على ذكره». وبمعنى علم الاجتماع، ثمة دائماً أعراض تدفع القارئ إلى الاحتماء بالفنون بحثاً عن تأويل وملاذ ومنفذ نجاة؛ وبالتالي فإنّ الرواية فنّ أكثر جدارة باحتواء اعتلالات النفس البشرية، خاصة في هذه الأزمنة التي تشهد انشطارات الذات وانقسامات الكينونة، وتُدخل الفنون في تيه تجريبي لا نهاية له، فلا تحدّه سيريالية هنا أو تجريد هناك أو مطحنة من التيارات والمدارس والأساليب تقارب المعنى من زوايا لا تنتهي إلا إلى زيغ المعنى أو حتى تغييبه!
ثمة، إلى هذا، اقتصاد سياسي معاصر، رأسمالي وحشي منفلت من كلّ عقال، نتلمسه في علاقة إليانور بالنقود، سواء تلك الورقية أم الأخرى الافتراضية عبر دفاتر الشيكات وبطاقات الائتمان. وليس عجيباً أن تترك مواقف إليانور من حكاية الإنفاق وطرائقه أصداء عميقة لدى قارئ مندهش تماماً إزاء موظفة لا تتقن استخدام بطاقة ائتمان، أو لا تتبضع إلا باستخدام الأوراق النقدية، وينتابها قلق دائم حول مصيرها إذا فقدت عملها وانتقلت إلى وضعية البطالة. مضى زمن، قد يقول قارئ استمتع بـ«كل شيء على ما يرام عند إليانور أوليفانت»، منذ أن نزل فنّ الرواية إلى الشارع العريض هكذا، ولامس دائرة الهواجس اليومية المباشرة، ومثّل نماذج بشرية نلاقيها كلّ يوم رغم أننا نستهوي نفي وجودها بيننا.
لأسباب كهذه، وسواها، قد يصحّ الافتراض بأنّ رواية العزلة هي التي استدرجت قارئ العام 2018، بمعزل عن عزلة التجريب الروائي أياً كان الصخب الذي يتعالى من مطاحنه!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د/ بن علي لونيس ( ناقد أدبي الجزائر):

    شكرا للأستاذ صبحي حديدي على المقال،
    أريد فقط أن أضيف إلى ما جاء في المقال الرشيق، أنّ أذواق القرّاء لها تأثير في رواج عمل روائي دون آخر، لهذا نتساءل: ما الذي جعل رواية هاري بوتر الأكثر مبيعا في العالم، ما لم يكن السبب هو في انتباه الروائية إلى تحوّلات أذواق القراء. لم يعد القارئ اليوم تقنعه الرواية المشبعة بالأفكار وبالفلسفات بقدر ما تثيره تلك الروايات التي تستقي موضوعاتها وأشكالها من الثقافة الشعبية، ومن خزان الخرافات والأساطير، ومن اليومي كذلك.

  2. يقول حي يقظان:

    ولكن، للعزلة عمقُها الفلسفي كذلك بعيدًا عن وصفها داءً نفسيًّا أو اجتماعيًّا: كما تقول رجاء الطالبي، العزلة بحثٌ عن الذات في حدِّ ذاتها. وممَّا جاء عن هذا البعد الفلسفي للعزلة في إحدى الرسائل الشعرية المطولة لصديق طفولتي غياث المرزوق، ما يلي:

    قَالَتْ لَهُ:
    «إِنَّ أَجْمَلَ شَيْءٍ عَلى هٰذِهِ الأَرْضِ،
    أَنْ تَتَعَلَّمَ فَنَّ الرَّحِيلِ عَنِ الذَّاتِ،
    كَيْمَا تُذَوِّتَ ذَاتَكَ في وَاحَةِ الاِنْتِمَاءْ.
    وَهٰذَا التَّعَلُّمُ لا يَتَأَقْلَمُ إِلاَّ شَهِيدًا صَهِيدًا،
    بِأَتُّونِ عُزْلَتِكَ المُسْبَكِرَّةِ عَنْكَ،
    وَعَنْ هَاجِسٍ بِالأُفُولِ سَوَاءً سَوَاءْ».

    قَالَ لَهَا:
    «إِنَّ العُزْلَةَ رَائِعَةٌ، حَقًّا.
    في حَضْرَتِهَا نُرْهِفُ أَسْمَاعَ المَرْئِيِّ إِلَيْنَاْ،
    وَإِلى مَا تَنْبِسُ أَفْوَاهُ اللَّامَرْئيِّ بِهِ، أَيْضًا،
    مِنْ مَبْنىً أَوْ مَعْنَىْ.
    لٰكِنَّكِ تَحْتَاجِينَ إِلى إِنْسٍ لِيَقُولَ مِرَارًا:
    إِنَّ العُزْلَةَ رَائِعَةٌ، حَقًّا».

    بِالتَّنَاصِّ مَعَ ڤِيرْجِينْيَا وُولْفْ وَأُونُورِيهْ بَالْزَاكْ

    /عن الرسالة التاسعة

  3. يقول S.S.Abdullah:

    صبحي حديد وعنوان آخر (رواية العزلة أم عزلة الرواية؟) رائع في كل سياقاته، لماذا؟!

    وأهم شيء معرفة لماذا هو رائع من وجهة نظري على الأقل، فزاوية الرؤية لأي موضوع، هي من ستحدّد ردّة فعل الإنسان، تجاه أداء أي وظيفة بطريقة تختلف تماما عن الآلة أو الحيوان،

    ومن لا ينتبه لذلك، سيشرب من نفس الكأس الذي شرب منه جمال عبدالناصر عام 1967 من الناحية العسكرية، أو ما عانى منه محمد بن راشد في عام 2008 من الناحية المالية.

    لقد أضاع العرب والمسلمين فرصة ذهبية يوم 8/8/1988، تاريخ وقف إطلاق النار في الحرب العراقية الإيرانية، والتي تصادف نفس توقيت هروب الإتحاد السوفييتي من أفغانستان.

    أتمنى من كل قلبي أن لا تضيع مرة ثانية الفرصة،

    التي أظهرها لنا بكل جبن، دلوعة أمه (دونالد ترامب) إن كان في طريقة هروبه من سوريا، أو طريقة زيارة قواته السرية (المرعبة) في العراق نهاية عام 2018.

    والمبادرة في البداية من تركيا رجب طيب أردوغان، في تنفيذ أم الشركات (مشروع صالح التايواني) لإنقاذ دولنا من شبح الإفلاس في كل المجالات، بداية الأخلاقية ونهاية المالية.?

  4. يقول سامية العطعوط:

    تحياتي أستاذ صبحي
    شكراً على هذه الالتفاتة لرواية هونيمون، موضوع مهم جداً خاصة في عصرنا الذي يعيش فيه كلّ عزلته الخاصة..
    مودتي

إشترك في قائمتنا البريدية