تحت سماء الكلاب لصلاح صلاح: رواية فاضحة لمحنة العراق
عبد الرحمن مجيد الربيعي تحت سماء الكلاب لصلاح صلاح: رواية فاضحة لمحنة العراقـ 1 ـ وصلتني أخيرا من الروائي العراقي صلاح صلاح روايته تحت سماء الكلاب التي بعث لي بها من مهجره الكندي.واذا كان بعض الروائيين العراقيين قد قادتهم محنة بلدهم منذ حصاره فاحتلاله لكتابة المقالات السياسية ـ وكاتب هذه السطور احدهم ـ فمرد هذا رغبتهم في ملاحقة الاحداث وفقاً لرؤيتهم الوطنية الصافية.فعلنا هذا ونحن نعلم بأن كتابة النصوص الابداعية شعرا وقصة ورواية هي كتابة امضي وابقي.لنا امثلة بقصائد شاعرنا الكبير سعدي يوسف والشاعرين المجيدين حميد سعيد وسامي مهدي ومعهما ساجدة الموسوي ايضا هؤلاء الذين كان ما جري نكبة لهم علي اكثر من مستوي. فكتبهم في الوطن التي نشاركهم فيها ونكبتهم كذلك في انتمائهم الذي نعرفه.قصائد هؤلاء الشعراء كبيرة تجاوزوا فيها انفسهم وكل ما كتبوه من قبل. ونتساءل هنا: هل لا بد من محن مدمرة لكي يكبر الابداع.رواية صلاح صلاح تحت سماء الكلاب رواية اولي عن الحصار، وتدور كل احداثها في شمال العراق بعد عام 1991 وعندما اصبح هذا الجزء العزيز من الوطن خارج السلطة المركزية، وسماؤه تجوب فيها الطائرات الامريكية والبريطانية.بطل الرواية صلاح صلاح الذي يحمل اسم المؤلف وربما اراد بهذا تجاوز تجنيس عمله كسيرة ذاتية له عندما اطلق صفة رواية عليه، هذا البطل يهرب من العراق الي الشمال بعد ان سمع ان المنطقة اصبحت معبراً لمن يريد الحصول علي اللجوء السياسي او الانساني بل والجوع، ان هده الحصار وسلمه للحاجة والفاقة بل والجوع.وعند وصول صلاح صلاح الي مدينة اربيل التي اتخذها مسعود البارزاني عاصمة له وجدها قد احتلت من قبل بيشمرغة خصمه جلال الطالباني الذي كان قد اتخذ السليمانية عاصمة له.آنذاك اطلق جلال الطالباني قولته الشهيرة (بأنه سوف يجعل مسعود البرزاني ينظر الي اربيل بالمنظار المكبر فقط).ويقول بطل الرواية معلقاً علي هذا: (الكل ضحكوا من قوة الهزء بمسعود البرزاني، المام جلال كان يتحدث بلغة اسطورية، لغة تنم علي القوة المفرطة بمقاتليه).كما يعلق بطل الرواية عن انطباعه حول ما عاشه ورأي في الشمال المحتل: (القادة الاكراد لا ينظرون الي العالم بمنظار التحليل او توازن القوي او الثوابت، السياسة الكردية تعتمد دائماً علي قوة التحالف مع الغير، والمصيبة انهم يفشلون في كل مرة، الاكراد البسطاء يصدقون قادتهم بشكل خرافي، يعتبرونهم بمنزلة الانبياء فيما القادة يضحكون علي ذقونهم وبساطتهم. لم اشاهد مجموعات بشرية في حياتي بمثل الذي اراه اليوم هنا).ويقول ايضا بعد المعايشة في مدن الشمال: الشيء المهم الذي لاحظته هنا ان القادة الاكراد لا يثبتون علي ولاء، وبامكانك شراؤهم بثمن رخيص جدا كأن تمنحهم اسلحة قديمة او جوارب او بدلات مرقطة).لكن هذه المقايضات تغيرت كما نعلم بعد احتلال البلد وصارت اكبر، وزارات وسفارات ومليارات وتوسع في مناطق النفوذ. وفي رده علي الطالباني لجأ البارزاني الي الرئيس صدام لينقذه وينقذ عاصمته اربيل من غريمه الابدي وقد لبي الرئيس صدام استغاثة البارزاني الذي انتهت سطوته فأرسل الجيش العراقي الذي طرد قوات الطالباني من كل مناطق نفوذه مقابل ان يسلم البارزاني للدولة كل الفلول المتجمعة في الشمال لتتآمر علي العراق، وذكر ان اكثر من خمسة الاف جري اعتقالهم ونقلهم الي بغداد في حين كان الرد الامريكي بقبول كل الذين فروا من هجوم الجيش العراقي عليهم كلاجئين خاصة من كانت لهم علاقات مباشرة مع مخابرات الدول المعادية للعراق والتي كانت تتحرك بشكل علني في المنطقة، ووفقاً لما ورد في الرواية ان مكاتب الموساد والحزب الشيوعي واطلاعات تتجاور في منطقة تقلاوة وصلاح الدين.كان الجميع يتآمرون علي الجميع. والجميع يبيعون الجميع، ليست هناك صداقات حقيقية ولا عداوات حقيقية بدليل ان البرزاني لم يجد من يستنجد به الا رئيس بلده وفعل الرئيس هذا لا حبا به ولا نكاية بجلال بل ليقول له ان كل الذي يفعلونه لا يستطيع الصمود امام قوة جيش الدولة المركزية (لعلنا نتذكر هروب البارزاني الأب بعد اتفاق الجزائر عام 1975 وهروب الطالباني والبارزاني الإبن بعد توقف الحرب العراقية ـ الايرانية عام 1988). كان الطالباني بعد احتلاله لاربيل قد نقل بعض مكاتب حزبه اليها حتي جريدته (الاتحاد) صار لها مكتب فيها. وصارت تصدر في طبعة اربيلية، ولكن بعد ان استعادها الجيش العراقي وفرار الطالباني وبيشمرغة انتهي امر هذه الجريدة التي عمل صلاح صلاح مصححاً فيها ليكسب شيئا من المال لإطعام اسرته.وهكذا اصبحت حياته صعبة مع زوجته وطفليه، اذ لا يستطيع ان يوفر لاسرته الا الخبز والشاي في حين يصبح الموالون والجواسيس روادا لمطاعم الكباب ولبن اربيل الشهير. ويصبح شرابهم اجود انواع الويسكي.كان صلاح صلاح لا يملك مدخرا الا بعض الحلي الذهبية التي حملتها زوجته معها، وكان يقوم ببيعها قطعة بعد قطعة لشراء الخبز في انتظار ان يسعفه الحظ فيقدر علي الهروب الي سورية او تركيا ومن هناك يتوجه الي مكتب الامم المتحدة ليحصل علي اللجوء الانساني.اما المدن التي يتحرك فيها فهي اربيل، صلاح الدين، تقلاوة، دهوك، زاخو وهي المدن الواقعة تحت نفوذ البارزاني وكلها متجاورة لا تبعد عن بعضها كثيرا.ـ 2 ـتبدو المدن العراقية التي يقطنها الاكراد وكأنها مدن تمارس حياتها بايقاعها الخاص الذي لا علاقة له بما يجري حولها.وبطل الرواية كان يرصد كل ما يري امامه او ما يسمعه بعينين لا تغمضان، لكونه مسكونا بالخوف وهو يري كيف تنتهي حياة الانسان بوشاية مغرضة او بمقابل مالي. او لأن جهة مخابرات معينة من الاجهزة الكثيرة ترتاب فيه. ويؤكد في مسار احداث الرواية ان كل العرب المتواجدين اضطرارا هم اعداء او مشاريع اعداء مهما كانت درجة ولائهم لزعيم الاكراد وحزبه.ويكشف المؤلف المستور عن حياة بعض الذين ارتضوا ان يكونوا تحت امرة القادة الاكراد او المخابرات الراتعة في المنطقة بشكل شبه علني.ويظهر لنا مقايضات البعض حتي الجنسية علي نسائهم واخواتهم فكأن القيم والشرف تركهما وراءه عندما غادر واصبح المحظور مباحا. ويصبح الامتحان صعبا لبطل الرواية والسؤال المر الذي يلاحقه: كيف يستطيع ان يحمي نفسه واسرته؟ وماذا لو اغتالوه: ما الذي سيحصل لزوجته وولديه الصغيرين؟ حتي ان الافكار تمضي به لأن يفكر بقتلهم وقتل نفسه اذا ما احس ان الخطر قادم عليه وليس له من مهرب خارج اسره الكردي.كان لصلاح صلاح صديق قريب من اهل الثقافة والادب هو رياض ابراهيم ابن البصرة الذي امضه الجوع ايضا لذا تحول الي محطة الشمال مع اسرته، وكان لقاؤهما لقاء يوميا حيث يتسكعان ويحلمان بالرحيل بعيدا ليواصلا انجاز ما لديهما من مشاريع ابداعية مؤجلة في مدن الهجرة والنفي.وكان رياض ابراهيم مريضا في قلبه. وجاءه خبر رحيله ذات صباح بنوبة قلبية. وتبدأ مناحة صلاح صلاح علي صاحبه الذي لم يستطع تحقيق امانيه وخانه قلبه في هذه العزلة ليضمه قبر ترابي غريب. هذا القبر صار مزار صلاح اليومي، يذهب اليه، يبكي. يضحك، يهذي ثم يغادر بكل احزانه.وصلاح صلاح لا يترك الحديث الكردي الا ويعود اليه فنراه يقول مثلا: كان مسعود يريد ان يجعل الاكراد امة منزوعة الخصال الوطنية. وذلك باسقاط الوطن والذي يعني اسقاط الانتماء والعيش كمرتزق يبيع سلاحه وخدماته للآخرين . كما يقول: كنا في بعض الاحيان نتساءل انا ورياض عن ماهية الفكرة التي يحملها مسعود وحتي جلال عن الوطن الحلم او الوطن الحقيقة؟كما يهتم الروائي وضمن غرقه في تفاصيل الاكراد وزعاماتهم واحزابهم فيفند مثلا ما روج له الطالباني بأن الاكراد من احفاد الميديين وفقاً لمعلومات رجل يزيدي يصفه بأنه (موسوعة كبيرة)، كما يذكر بان (العديد من الجبال لم تزل تسميتها اشورية) وكذا المعابد الآشورية والبابلية بما فيها قلعة اربيل التي هي معبد للإلهة عشتار.لا بل ان المؤلف يكشف معلومات اخري من خلال المعايشة والمعاينة ويذكر ما كان مفاجأة له ـ علي حد قوله ـ بعد اقتحام الجيش العراقي لاربيل ليعيدها من الطالباني الي البارزاني (اذ اخذت ربة البيت الكردية التي نسكن عندها بالدعاء لعودة صدام ليخلصهم من احزابهم).ويضيف ايضا: (التقيت في تلك الفترة بالعديد من اهالي اربيل وكان شعورهم انهم يتمنون بقاء صدام حسين ونظامه الذي هو ارحم مئة مرة من هذه الاحزاب).ولم يهمل المؤلف ما جري في حلبجة حيث اورد الرواية الاخري المناقضة للرواية الكردية عنها وعلي لسان طبيب من البصرة كان من مناصري الاكراد وقد ورد قول المؤلف: (انه ـ اي الطبيب ـ كان ضمن مقاتلي البيشمرغة حينما امروا بالتقدم لاحتلال حلبجة كتهيئة للقوات الايرانية.. يعني ادلاء.. وماذا قال لك ايضا؟ قال انهم احتلوا حلبجة بمساعدة الجيش الايراني وحينما حررها الجيش العراقي قصفها الايرانيون بالاسلحة الكيماوية، انها شهادة حقيقية ومن موقع الحدث) لا بل ان الحزب الشيوعي العراقي وفقا لمعلومات الطبيب قد ساهم فيها حيث ورد في الرواية: (كان الحزب الشيوعي يعلم مسبقاً بأن قوات البيشمرغة والايرانيين سوف يحتلون ارضا عراقية ولم يدافع، ولم يستنكر بل اشتركت بعض عناصره ضمن الهجوم الايراني).عندما ذكرت في العنوان بان هذه الرواية تحت سماء الكلاب فضائحية فانني لم ابالغ لأن في كل صفحة من صفحاتها التي بلغت 342 صفحة معلومات جديدة تكشف ما هو الخبيء في تلك الجبال العراقية التي يعملون علي فصلها عن الوطن الأم.علي غلاف الكتاب مجتزأ من قراءة لهذه الرواية نشرتها جريدة المغترب العربي في كندا. ونورد هنا بعضه (انه عمل ادبي وتوثيقي مهـــم في عصر انقلبت فيه مفاهيم الوطـــنية لتوضـــع بدلا عنها مفاهيم وقيم جــديدة هي قــيم التعامل مع الاجنبي باعتــــبارها الوطــنية والبطولة الجديدة).كما يصف كاتب المقال هذا شمال العراق بقوله: (تلك المنطقة التي اقتطعت من البلد الأم لتقام عليها اوكار الخيانة والعمالة بحجة حماية الاكراد الذين جندتهم المخابرات الاسرائيلية للعمل ضد العراق وسورية).هذه رواية مهمة لانها ذهبت الي اماكن لم يقترب منها اي روائي من قبل وبهذه الشجاعة النادرة.واعتقد ان كاتبها صلاح صلاح خرج الي مهجره الكندي وهو معبأ بالألم والحزن والحقد علي كل ما تركه وراءه عدا الوطن والاصدقاء.ويبدو لي انه كتب روايته هذه تحت تأثير انفعاله لذا وجدنا هناك تكرارا عن احداث يرويها اكثر من مرة. وكان بالامكان مراجعتها بتأنّ وتشذيبها.هي شهادة بالغة ستقرأ مرارا وتبقي في الذاكرة.ـ صدرت الرواية من منشورات المؤسسة العربية للدراسات والنشر (بيروت ـ عمان) 2004ہكاتب من العراق يقيم في تونس