دروس وعبر من تظاهرات السودانيين: تجمع المهنيين علامة فارقة والشباب يعمد نفسه في مياه الانتفاضة

عمار عوض
حجم الخط
0

تدحرجت تظاهرات السودان مثل كرة الثلج ولكنها ملتهبة ويزداد نارها ونورها مع كل يوم وهي تدخل الأسبوع الثالث منذ انطلاقتها وعلى غير العادة في ولاية نهر النيل أقصى شمال السودان في مدينة عطبرة، ذات الطابع العمالي. وانتقلت شرارة الاحتجاجات إلى مدينة بورسودان والقضارف في الشرق، ثم عمت كل المدن بما في ذلك العاصمة السودانية الخرطوم التي استقرت فيها الاحتجاجات التي تولى أكبرها تجمع المهنيين السودانيين وهو الجسم الذي يضم الأطباء والصيادلة والمحامين وغيرهم من القوى الحديثة.

لكن عند إمعان النظر جيدا في تظاهرات الخرطوم هذه، نجد أن هناك الكثير من النقاط تبعث على التأمل والتفكير، فنجد مثلا أن هذه الاحتجاجات انطلقت من معقل العناصر المؤيدة للنظام مثل ولاية نهر النيل التي ينحدر منها أغلب قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية وحتى الحكومية، وهذا إنما يدل على المقولة العربية “من مأمنه يؤتى الحذر”. فولايات نهر النيل والولاية الشمالية التي ظلت تحظى بالتمييز الإيجابي على بقية ولايات السودان طوال عمر الدولة، خرج منها المتظاهرون ليحرقوا دور الحزب الحاكم في ظل ذهول قياداته الحكومية والمعارضة على السواء.

وهنا تجدر الإشارة أيضا إلى دور الجيش الخجول في الوقوف على الحياد من هذه التظاهرات، بل أنه في بعض الأحيان كان يقف إلى جانب المتظاهرين في ولايات مثل القضارف ونهر النيل حيث قيادة سلاح المدفعية، الذي رحب جنوده بهذه التظاهرات لأن سيف ارتفاع الأسعار والأزمة الاقتصادية الطاحنة هم يتأثرون بها مثل غيرهم من المواطنين. وهنا تجدر الإشارة إلى مقتل اثنين من قوات الجيش في ولاية القضارف على يد قوات الشرطة، حيث كانا يشاركان في التظاهرات بزيهما المدني، ولكن يجدر بنا هنا التنويه إلى أن هناك تباينا واسعا بين قيادة الجيش والقيادات الدنيا والوسيطة، وظهر ذلك جليا في البيان الذي أصدرته رئاسة هيئة أركان الجيش بأن القوات المسلحة تعمل بتناغم مع بقية الأجهزة الأمنية وهي ملتفة حول الرئيس عمر البشير. وهنا يقول ياسر عرمان نائب رئيس الحركة الشعبية التي تحمل السلاح وتقاتل الحكومة في جنوب كردفان والنيل الأزرق “على القوات المسلحة رغم ما لحق بها من تشويه ودمار أن تنهض بواجبها الدستوري وتستجيب لرغبة الشعب في التغيير الديمقراطي، وسرقة الانتفاضة غير ممكنة والباب الذي سيخرج البشير يتسع لخروج كل فرعون بعده”. لكن عرمان رفض فكرة عسكرة الانتفاضة عبر دخول قواتهم المسلحة إلى جانب الثوار وقال “خسرت الانتفاضة السورية حينما لجأت للسلاح وفارقت درب الجماهير السلمي، فمنعة الثورات الجماهيرية السلمية في سلميتها” مضيفا “كسب بشار الأسد المعركة حينما لجأت جماعات الإسلام السياسي في سوريا للسلاح معتقدة أنه نزهة لانتزاع نصر سريع فاستبعدت الجماهير ووقعت في الفخ الذي نصبته السياسات الدولية والإقليمية، واستخدم الأسد كل أسلحته من الطيران إلى المدرعات وغيرها وخلق تحالفات مع روسيا وإيران في مواجهة البلدان الغربية التي دعمت جماعة الإسلام السياسي ولنا درس في ذلك”.

من أهم قضايا هذه الانتفاضة وآثارها الممتدة على المستوى الاستراتيجي هو تعميد وتدشين جيل جديد من الشباب من النساء والرجال، وهذا الجيل طوى عهد الخنوع والانكسار ومحاولة مسح ذاكرته وهزم شعارات الحركة الإسلامية المسماة إعادة صياغة الإنسان السوداني على مدى 30 عاما، وهو الجيل الذي ربته حكومة الإنقاذ، وحاولت طمس هويته وذاكرته الوطنية والسياسية ولكنه يرد الآن الصاع صاعين، ويتلمس خطواته بوضوح وبرنامج سياسي قائم على المواطنة بلا تمييز، وقائم على الاعتراف بالتنوع ويرفد الحركة الوطنية السياسية السودانية بقوة مهمة، كما أنه يرسم بقوة مآلات الحاضر وكل المستقبل، ولذلك هذا يمثل هزيمة كبيرة للنظام من ضمن قضايا عديدة جاءت بها هذه الانتفاضة، ومن ضمن متغيرات كثيرة في التضاريس السياسية، ولكن هذا يعتبر من أهم القضايا التي ترسم ملامح المستقبل والشعارات التي رفعها هذا الجيل شعارات الحرية والسلام والعدالة وتضميده لجراحات الحرب الأهلية برفعه شعارات مثل “يا العنصري المغرور كل البلد دارفور”. ويقول عرمان “أهم شيء في هذه الانتفاضة هو معمودية جيل جديد من الشباب الذي أخذ مكانه في كابينة القيادة والمستقبل وهو انتصار باتع للحركة الوطنية والديمقراطية في وجه فاشية الإسلام السياسي وبلادنا لن تعود بعد اليوم كما كانت”.

العلامة الفارقة في تظاهرات السودانيين تمثلت في ظهور جسم مثل تجمع المهنيين، الذي يضم أصحاب الياقات البيضاء، الذين يمثلون المعادل الموازي للنقابات الحكومية. ففي ثورات مثل تشرين الأول/اكتوبر التي أطاحت بالجنرال عبود، رئيس السودان في ستينيات القرن الماضي وحكم الرئيس جعفر نميري، في ثمانينيات القرن الماضي، كانت النقابات المهنية تلعب دورا بارزا في عملية العصيان المدني التي كانت تتكامل بدخول الجيش وانحيازه للشارع.

ويحظى تحالف تجمع المهنيين بقبول واسع الآن في الشارع وهو الذي يحدد أيام التظاهرات وموقعها وبالتفاف غير مسبوق من الشارع. وهنا يقول المحلل السياسي ماهر ابو الجوخ لـ”القدس العربي”: “أعتقد أن حالة القبول التي يحظى بها تجمع المهنيين في حراك كانون الأول/ديسمبر الماضي نابعة من تخلق هذا الجسم وظهوره قبل انطلاقة الحراك الشعبي الراهن، حتى أنه كان يخطط لتنظيم فعالية معلنة قبل الحراك والتي تحولت لاحقا للموكب الأول للتجمع” مضيفا: “النقطة الأساسية تتصل بتركيبة هذا الجسم ومقدرته على تجاوز حالة الاستقطاب السياسي الحاد بين فرقاء المعارضة، وصحيح أن الظرف الراهن بتطوراته الماثلة فرض تلاقي أطراف المعارضة واتفاقها على برنامج للحد الأدنى، وهذا بالتأكيد كان يتطلب وجود جهة تتولى ردم الهوة بين مختلف الأطراف، حيث تولى التجمع هذا الأمر وزاد من فعالية دوره النجاح الكبير لموكبيه الأول والثاني ما جعله فعلياً قادرا على تمثيل تيار ضاغط على قيادات كتل المعارضة الرئيسية ممثلين في نداء السودان وقوى الاجماع للتوصل لاتفاق والتوقيع على ميثاق التغيير والحرية”.

ومن المهم عدم إغفال وجود كوادر حزبية في تجمع المهنيين لديهم خبرة طويلة لا يستهان بها تواثقوا على العمل سوياً بمعزل عن خلافات أحزابهم السياسية، وهو ما يمكن ان نطلق عليه (وحدة مشتركة في أرض الميدان) ولعل الفرق ما بين تجمع المهنيين وحركة “التغيير الآن” التي تولت قيادة هبة أيلول/سبتمبر 2013 نابع من كون التجمع في أنشطته وحراكه العام يحظى بقبول كيانات المعارضة المختلفة، أما حركة التغيير الآن فإن بعض الأحزاب لم تخف توجسها منها بسبب عوامل الصراع الداخلي لديها ولعل الموقف العلني المناهض لحركة التغبير الآن صدر عن اجتماع لاحق للجنة المركزية للحزب الشيوعي الذي وجه انتقادات مباشرة لـ”التغيير الآن”.

ويختم المحلل السياسي ماهر ابو الجوخ بالقول: “بشكل عام فأن تجاوب المواطن غير المنتمي لحزب سياسي مع الكيانات المطلبية والفئوية يظل دوماً أعلى درجة من الاستجابة لذات الدعوات الصادرة من الأحزاب السياسية رغم تطابق المطالب المقدمة منهما وأعتقد أن ذلك يعود في المقام الأول لإحباطات عامة من تجارب الحكم الديمقراطي وحتى أداء الأحزاب في المعارضة وهو أمر بجب ان لا يفصل عن مجمل الأوضاع العامة في البلاد والتضييق والاستهداف الذي تعرضت له تلك الأحزاب لما يقارب من الثلاثة عقود”.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية