ترجمة الأدب العربي إلى العبرية… بمنتهى الوضوح

من أجمل وأهم الزيارات التي أتيحت لي في العام الماضي زيارة مخيم البدّاوي ومخيم مار إلياس في لبنان، في إطار جولة التكريم التي نظمتها، لي، مؤسسة التعاون في لبنان، مشكورةً. كان ذلك مطلع الشهر الماضي. ومن أهم اللقاءات التي أقيمت حتى الآن حول رواية حرب الكلب الثانية، كان ذلك الذي أقيم في مخيم البدَّاوي، مركز غسان كنفاني، إذ لمست بالوضوح الأشد أن الشباب والشابات ينتظرون الجديد المختلف ويحتفون به، وينظرون إلى المشكلات التي تعصف بنا بوعي أكبر، بعيداً عن أي أحكام مسبقة. كان أبرز سؤال وجِّه إليّ خلال هذه الزيارة، وأجاب عنه جمهور الحاضرين من الشابات والشباب أيضاً في مخيم مار إلياس، هو ذلك السؤال الذي سألتْه المخرجة الفلسطينية الرائعة، ميرا صيداوي، التي التقيها للمرة الأولى وسعدتُ فيما بعد بمشاهدة فيلمين رائعين لها، وكان السؤال: ما رأيك في ترجمة الأعمال الفلسطينية والعربية إلى العبرية؟
في ذلك اللقاء، كانت إجابتي: أحبُّ أن أسمع منكم أولاً رأيكم في ذلك، ويهمّني أن يشارك في الإجابة أكبر عدد منكم، لأن هذا السؤال يُطرح باستمرار علينا نحن الكتّاب، كما أن شهوة البحث عن ضحايا في عالمنا العربي منتشرة إلى حد ذبح الكثيرين، سواء بالتخوين أو بسواه، بسبب وبدون سبب، أو باختراع الأسباب، والترجمة إلى العبرية مجال واسع لوجهات النظر ولفعل ذلك.
كانت الآراء شبه موحّدة تقريباً، ومفصّلة، إذ ربطت القبول بالترجمة إلى العبرية بعدة شروط هي:
-عدم عقد أي اتفاق، أو توقيع أي عقد مع مؤسسة صهيونية، أدبية أو غير أدبية.
-عدم اللقاء مع أي صهيوني لهذا الغرض.
-عدم تلقّي أي أموال من أي مؤسسة صهيونية مقابل ترجمة الكتاب أو تسويقه.
وبعد الاستماع لهذه الإجابات، قلت لهم: إن إجاباتكم هذه هي إجابتي الدقيقة عن سؤال المخرجة العزيزة، ولكنني كنت أريد أن أسمع منكم لكي يكون الأمر أكثر وضوحاً. وليس هناك ما هو أفضل من أن يلتقي رأي الكاتب وآراء القراء حول مسألة بهذا التعقيد، وأخبرتهم في اللقاء أنه سبق وأن تُرجمتْ، دون علمي، قبل خمس عشرة سنة تقريباً روايتي (براري الحُمّى)، وصدرت في مجلد واحد مع رواية غسان كنفاني (عائد إلى حيفا)، ورواية جبرا إبراهيم جبرا (الغرف الأخرى). وأخبرتهم بأن روايتي (زمن الخيول البيضاء) صدرت أيضاً بالعبرية حديثاً من خلال العمل الدؤوب الذي بدأه كاتبنا الفلسطيني الراحل سلمان ناطور، الذي رأى أن هناك ضرورة مُلحّة لترجمة هذه الرواية التي تقول حكايتنا! وتابعتْ العمل على ذلك، بعد رحيله، الصديقة العزيزة الدكتورة راوية بربارا، وعدد من كتّابنا الفلسطينيين الرائعين في فلسطيننا البحرية، وأعني الجليل وحيفا ويافا وعكا، وبقية المدن.
كانت شروط موافقتي على الترجمة هي الشروط نفسها التي سمعتُها من شابات وشباب مخيم مار إلياس، وهي الشروط نفسها التي دفعتني لأن أستبعد الترجمة إلى العبرية من عقدي مع وكيلي الأدبي للغات الأجنبية، الذي يتكفل بالحوار مع دور النشر لترجمة رواياتي عالمياً، إذ أرحته، ومنذ توقيع العقد، من أي محاولة قد يقوم بها لترجمة كتبي إلى العبرية عبر أي اتفاق، حتى لو كان هو الذي سيوقّعه، لأن أي اتفاق أو اتصال مع أي مؤسسة أدبية صهيونية هو خط أحمر. وعلى ذلك اتّفقنا.
أسوق ذلك كله وأنا أعرف أن تاريخ ترجمة الأدب العربي إلى العبرية تاريخ طويل، وهناك أعمال كثيرة للغاية ترجمت إلى هذه اللغة، عربية وفلسطينية، وأعرف أنهم قلة من وقّعوا عقوداً مع دور نشر صهيونية من كتّابنا العرب.
أعتز بأنني من أوائل الكتاب الذين أعلنوا موقفهم واضحاً مع حركة المقاطعة، أعظم إنجازات شبابنا في فلسطين والعالم العربي والعالم منذ سنوات طويلة، وباستطاعتي القول: إن موقفها لا يختلف مع موقفي هذا، وموقف أولئك الشباب في مار إلياس، وأضيف أيضاً، إنني مثل أولئك الشابات والشباب الرائعين، لا أخشى أن يُترجم أدبنا إلى العبرية شريطة أن لا يكون هناك أي اتصال مع أي صهيوني، فأدبنا ومشاريعنا الأدبية قائمة على نفي الرواية الصهيونية، وهو نفيٌ مستمر بالمقاومة والكتابة وكل الأشكال المتاحة وطنياً، بعيداً عن أي خوف أو أي تخويف.
وأقول أيضاً إنني ممن يتابعون الأدب الصهيوني، والسينما الصهيونية، وأظن أن ذلك أمراً في غاية الأهمية لنا، كتّاباً وباحثين، كي نعرف كيف يعبِّر أدبُهم، ويُدافع، ويتبنى الرواية الصهيونية، وكيف يُسوِّقها، وقد سبقنا إلى ذلك الشهيد غسان كنفاني، وتبعه كتاب آخرون كتبوا حول الأدب والسينما الصهيونية، مثل عز الدين المناصرة، وغالب هلسا، ويوسف يوسف، ومحمد عبيدو، وجودت السعد، والدكتور إبراهيم البحراوي، وسواهم. وإذا كان الهدف الأول لذلك هو أن نعرف كيف يفكرون وكيف يقدّمون أنفسهم إلى العالم، فإن ذلك لا يمنع أن نقول: ولكي نتعلَّم أيضاً كيف يفعلون ذلك في ساحة صراع ممتدة على أرض فلسطين، من بحرها إلى نهرها، وعلى ساحة صراع باتت تغطي اليوم العالم كله، في ضوء ما تحققه حركة المقاطعة من إنجازات عظيمة.
بالنسبة لي، لا أخشى ترجمة كتبي إلى العبرية ضمن الشروط الثلاثة السابقة، وما قد يشبهها ويعزّزها، وإذا كان كل طفل وشاب فلسطيني يخرج في المظاهرة ليقول للجندي الصهيوني الذي أمامه في نابلس وجنين ورام الله وعكا ويافا وحيفا والناصرة، وهو يواجهه: هذه بلادنا، وفلسطين داري، فكل كتابة حقيقية، وكل جملة وكلمة وحرف نكتب، تقول لكل صهيوني، حيثما يقيم في بيوت آبائنا وأجدادنا.. هذه بلادنا، وهذه روايتنا لتاريخنا، ولن نتراجع حتى نُحقق كامل عودتنا.. لكامل ترابنا.
وبعد:
هذه أرضنا
وسنكتبُ ما يكتب الشهداءُ على البحر والفجرِ
نحن هنا

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سوري:

    وبعد:
    هذي لغتنا
    وهذي أرضنا
    نزرعها زيتونا، وليمونا، ولغة الضاد
    وبحرنا من حروفنا
    لمن اصطاد..

إشترك في قائمتنا البريدية