هو العدوان الثالث على غزّة بعد أن آل قطاعُها لسيطرة حركة حماس. وهو العدوان الأخطر، من حيث السعة والأمد كما من حيث الظرف.
عدوان اواخر العام 2008 جاء يكرّس عضوية حماس في حلف الممانعة الايرانية السورية ويظهر في الوقت نفسه ان ما حققه «حزب الله» في حرب 2006 ليس وصفة سهلة التكرار.
عدوان اواخر 2012 جاء في ظروف مختلفة كثيراً. القدرات القتالية للمقاومين الفلسطينيين كانت في حال أفضل، وحركة حماس «أعادت انتشارها» اقليمياً على خلفية الالتزام التركي مع الفلسطينيين بدءاً من العدوان السابق، وموقف حماس الرافض لقمع السوريين على يد النظام الذي كان الى ذلك الوقت – اي الى وقت اندلاع الثورة عليه – حليفاً لها، والدور القطري المحتضن لقياديي حماس ولمعارضين سوريين، ووصول محمد مرسي الى سدّة الرئاسة في مصر. وهكذا، تمكن الحكم الاخواني المصري انذاك من ايقاف العدوان بشروط ناسبت حركة حماس وأهل القطاع. عُدّ ذلك رصيداً لحكم الاخوان، الا ان قيادتهم آثرت صرفه بالإفصاح الفوري عن أطماع استئثارية داخلية، سرعان ما أفسحت بالمجال لعملية الاطاحة العسكرية الشعبية المشتركة بالرئيس مرسي.
من بعد الاطاحة العسكرية بمرسي، جرى التعامل، مصرياً مع حركة حماس، بمعيار داخليّ بحت، يتصل بالحملة القمعية الدموية الشرسة ضد الاخوان المسلمين من جهة، وبمشكلة تنامي الشبكات الارهابية المتطرفة التي تجد في مناطق من شبه جزيرة سيناء قاعدة آمنة، من جهة أخرى. واذا كان العدوان الحالي هو الأخطر، فبالضبط لأنّه يتعذّر فصله عن العام المصريّ السابق عليه. فكما ان ثلاث حروب اهلية دائرة في الاقليم، السورية والعراقية والليبية، وبسمات تجاوزية للحدود الوطنية، فان العدوان الحالي على غزة يحمل من ناحيته وزر عام مصري متواصل، من عملية قمع الجماعة الاخوانية في مصر، ومحاكمة الجماعة الاخوانية في قطاع غزة، بدءاً من محاكمة المتهمين بتنظيم عملية الفرار من سجون وادي النطرون. أياً تكن واقعية الأمر في «السياسة البحتة»، فإنه في «الواقع الرمزي» للأمور، ثمة في هذا العدوان شيء يربطه بعملية فض اعتصامي رابعة والنهضة. حالياً عدد الشهداء في غزة يوازي عدد شهداء عملية فض الاعتصامين.
لكن ذلك بحد ذاته ينبغي ان يحثّ الحكم المصري الراهن كما حركة حماس على التنبه: فحتى الساعة ما زال موقف الواحد تجاه الآخر، على خلفية العدوان الحالي، لا يفصل كثيراً بين مواجهة الاخوان في داخل مصر وبين كيفية بلورة سياسة مصرية في قطاع غزة تعطي انطباعاً بأننا أمام دولة تفصل بين سياستها الداخلية وسياستها الخارجية.
والحق ان كثيراً من دول المنطقة لا تفصل بين الأمرين. بل يمكن التمييز فيها بين نوعين من الأنظمة: نظام يتعاطى مع الشؤون الاقليمية من زاوية شؤونه الداخلية حصراً، ونظام يرهن شؤونه الداخلية ببورصة الانقباض والانفراج والاشتعال والاخماد في الاقليم. وما يقال هنا للجانب المصري يقال ايضاً، ولو في ظرف استثنائي، للجانب الفلسطيني: «الواقع الرمزي» الذي يربط بين فض اعتصامي رابعة والنهضة وبين هدم الأنفاق في رفح هو واقع ينبغي «السيطرة عليه» لتحسين المواجهة مع العدوان الاسرائيلي الحالي بأفضل حساب نقاط ممكن للفلسطينيين في قطاع غزة. يخسر اكثر بين الفلسطينيين والمصريين من يعجز على الفصل بين المستويين.
في مقابل صعوبة، بل تعذّر الفصل، بين ما هو داخلي وما هو خارجي في العلاقة بين حماس ونظام عبد الفتاح السيسي، تبدع منظومة الممانعة الايرانية السورية ضروباً في «الفصل الميتافيزيقي». لسان حال الممانعين ان حماس التي تقاتل النظام في سوريا هي عدو، وحماس التي تقاتل اسرائيل من غزة هي «ابنتنا».
الرياء الممانع يهتم في هذه الآونة بثلاثة أمور. هو أولاً يتحدث عن توبة حماس الى مفهوم المقاومة، مع انها الحركة التي تواجه عدواناً اسرائيلياً للمرة الثالثة، في مقابل هدوء الجبهة اللبنانية الاسرائيلية منذ 2006، بصرف النظر عن الصخب الكلامي، في وعود «الحرب المفتوحة» و»التأهب للسيطرة على الجليل»، و»الاستعداد لتحرير الجولان»، التي اطلقها امين عام «حزب الله» في مناسبات مختلفة.
وثانياً، اذا كان بعض المعتدلين يبخسون المقاومة الفلسطينية المسلّحة حقها، بشكل مجاني، فان الممانعين يغالون في اسباغ صنيعها بالقوالب الانتصارية كي يكون بالمستطاع تبرير عدم تدخل «حزب الله»، وعدم الحاجة لاعادة خلط الامور ان في سوريا او في لبنان، اي على قاعدة ان حماس كفيلة لوحدها بتعليم اسرائيل درساً تموزياً جديداً.
وثالثاً، ما يهمّ الممانعة هو توظيف الحدث حيثما امكنها ذلك في المسائل الداخلية، مثلاً لأجل «التشطيب» على كل نقاش لبناني يتعلّق بسلاح «حزب الله»، اي على قاعدة انه لما كانت اسرائيل تواجه كل من له ترسانة عسكرية بعدوان دموي فلا مساءلة بعد اليوم لترسانة «حزب الله» العسكرية حتى ولو كانت موجهة ضد صدور السوريين، وحتى لو كنا نرى بأم العين في البقاع، خطورة هذا التداخل بين الوضعين السوري واللبناني، على خلفية تمدد التنظيمات الجهادية المذهبية في اتجاه الجانب اللبناني من الحدود، بعد ان صار لـ»حزب الله» حزام امني في الجانب السوري منها.
هذا «الفصل الميتافيزيقي» بين حماس «عدوة المقاومة» وبين حماس «بنت المقاومة»، وبين «حزب الله» المقاوم وبين «حزب الله» كحزب ديني مذهبي يتبع الأيديولوجيا الرسمية الايرانية، يستتبع من ثمّ عملية «إبدال» لا تقل تعسفاً وخرافة: خوض الفتنة السنية الشيعية كما لو كانت فتنة في الظاهر، وتكملة للصراع العربي الاسرائيلي في الباطن. طبعاً، ينبغي المحاذرة من المقلب الآخر: التعامل مع مقاومة «حزب الله» لاسرائيل كما لو انها مواجهة لها في الظاهر وخوض لغمار الفتنة المذهبية في الباطن. فهذا ايضاً تسطيح عاجز عن الفصل بين المستويات حيث يتوجب ذلك، وعن الوصل بين العناصر بالشكل المناسب. وكما ان الممانعين يحطمون ارقاماً جديدة في الرياء بموجب مقاربتهم التوظيفية للعدوان، كذلك غير الممانعين من النمطيين. اولئك الذين يريدون اقناعك بأنه لولا حماس لغدت غزة دبي ثانية، بل لاس فيغاس، او انه لو وجد ياسر عرفات لكان اخرجنا من المأزق الحالي بسحر ساحر. مصيبة اللاممانعين النمطيين هي انهم، ساعة يقرّون بعدوانية اسرائيل، يتعاملون مع الموضوع مباشرة بوضعه بين هلالين تعطيليين. فيجري التعامل مع هذه العدوانية كما لو انها من العوامل الطبيعية، كالزلازل والبراكين، وعلى الناس التعامل مع هذه العوامل بواقعية.
نحن أمام عدوان اسرائيلي يحدث في ظروف استثنائية اقليمياً وبكل المقاييس، ومع ذلك تصرّ معظم حكومات الاقليم ومعظم تياراته السياسية والثقافية النافذة على ان ترى فيه ما سبقت رؤيته او ما هي تراه في اماكن أخرى. هذا الاجماع، الممانع، اللاممانع، الحكومي، اللاحكومي، على عدم رؤية هذا العدوان بأنه قد سبقت رؤية مشاهده يمنعنا عن الرؤية، رغم انه يشغل الى جانب الحروب الاهلية في العراق وسوريا وليبيا حيزاً اساسياً على الشاشات. في مكان ما، هذا الامتناع عن الرؤية رغم الشاشات، ليس مرده التشوش المبهم، بل يعود الى اننا نعيش فائض «جغرافيات متخيلة». هذا يتخيل انه يقاتل اسرائيل في القصير او يبرود، وذاك يتخيل بأنّه يواجه عملية فض اعتصام «رابعة» او بأنه يفضّ اعتصام «رابعة»، وما بينهما مثقف ليبراليّ يريد ان يخبرك انه لو استجمعنا ملكات العقل والرشد لكنا نرى في قطاع غزّة الآن موسم استصياف عامر بالسياحة. مدد!
وسام سعادة