خربشات على باب الشام

تستفيق الشام، على صباح تشريني ملوِّح بالمطر، الغيم في السماء طاغ وكثيف، وذاك الحزن المبهم، يستبطن الروح، لا يشي بالكثير، ولا يبوح بالسبب، ولا يتذكر.
لا تقول لنا الطيور ما تشعر به، وقد أزف وقت الرحيل، ربما كانت تغني نشيدها الخاص، وتعلق حنينها على أغصان الشجر. النهار المنصرم لا يحدثنا عما فقده حين يأفل، ربما يتذكر ويحلم، بتلك الروائح الكامنة، والأصوات الغامقة، والتلاوين الخفــــية، تسري مبتعدة عنه، مفعــــمة بذاكـــرة المكان وروح الزمان. حتى تلك النوافذ المغلقة، لا تفصح عن أسرارها، ما تـــبوح به؛ همهــــمات غامضـــة، ودعوات خافتة. ثمة وجوه فضــــولية تــــروح وتجيء، تلوح، وتلوّح من ورائها، تنظر ثم تبتعــد. هذا كل شيء.
أيام الجُمع في الشام، لها مكانها ومكانتها وطقوسها، رائحة قهوة وحب هال، لبكة المطبخ، وجلبة الأواني، ومراييل مزّهرة تربط على عجل. فول أخضر، وتسقية شامية، ومقبلات مغرية، وشاي ساخن ونعناع أخضر. ماذا عن لمّة العائلة، والدفء المنحاز، وطقطقة الكستناء، إذ تشوى على مهل النار. كثير من الفوضى، وقليل من الضجر. النهار يمضي كسولاً مائعا بالحب.

هناك دائما، شعور مبهم بالذنب، يستكين في مكان ما، ربما هو وعد، وربما هو أمنية. يتلكأ على شباك ذاك البيت البعيد.

وفي قلب النهار الجلي، تترك للذاكرة حمولتها ومداها، حيث يتألق أمامك مسرح الدهشة، يلعب دوره بدهاء، وحيث يكون للكومبارس الدور الأول. في حين أنك أنت المنسي، القادم من غمائم الحنين، تكتشف بعمق أنك، ما زلت تؤدي دورك، بالروح ذاتها، والألم ذاته، والعشق ذاته. ترقب وتتأمل وتحن، بملامح وجلة، لا شيء فيها إلا لمعة عين لا تخيب. تبتسم لها، فتنزلق مبتعدة .
آليت على نفسي ألا أحزن، ولا أدع ورقة الحب الأخيرة تسقط. شجرتي باسقة، مهما هزتها الريح، بل إن هذا المشهد المليء بالخصوصية يأسرني، لعل فيه الكثير من المجاز الملتبس، مطوقا بالكثير من كلمات تشبه الشعر أو اللحن أو الحلم، ربما يعاودني كثيرا، في كل مرة، تهب عليّ بخفة من منفاي البعيد، رائحة البيت، في كل مرة أشعر بأنني أبتعد عنها بشكل ما، عن فضائي الأول. وأعني حبي الاول. كم استدعيته من خزين الذاكرة، وكم أرقني التوق المبرح إليه. من هناك، وأنا أطوف على ضفة البحيرة الزرقاء، وأنزلق في قلب الغابة المعتم، وأسمع هسيس الأزقة القديمة.
يباغتني زمن، يمرّ كالحلم.
هناك دائما، شعور مبهم بالذنب، يستكين في مكان ما، ربما هو وعد، وربما هو أمنية. يتلكأ على شباك ذاك البيت البعيد.

٭ كاتبة سورية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية