انهيار الاتحاد السوفييتي الذي لم يكن متوقعا، يُثبتُ أن كل الامبراطوريات التي ليست بمنأى عن التناقضات الداخلية قابلة للتفكك، ولا شيء أبدي مهما تطورت القوة التقنية والعسكرية أو الاقتصاد الرأسمالي، فمشاريع الهيمنة ارتدادية في أغلبها، وإن اكتسبت البشرية في مراحل تطورها السابقة، عددا لا يُحصى من الاستعدادات، إلا أنها لا تزال ضعيفة وجنينية، وربما تحتاج عدة قرون، كما سبق وقدر الفيلسوف الألماني نيتشه، وخلال ذلك تكون قد نضُجت وصلُبت.
وقد لا يحدث هذا التحول بدون كم هائل من المرونة والتحرر من كبرياء الهوى والاستعلاء بكل تفعيلاته السلطوية والإثنية والأيديولوجية السياسية والتلاقي في النقطة التي يبرز فيها الإنسان حريصا على وجوده «كقيمة مثلى». وتساوقا مع استنتاج ادغار موران في «روح الزمان» يبدو مصير البشرية بفعل سباق التسلح وجشع الهيمنة يتأرجح بين إمكانيتين محتملتين، وغير محتملتين، الأولى، ويمكن أن تمضي حتى شبه الإبادة الذرية وهي إمكانية «النكوص المعمم». واختلال النظام في النكوص لا يعني الحرية والفرصة، بل العدوان والضراوة والخوف، ولا يعني النظام الحماية، بل «القمع والتقديسية» وفي النهاية اختلال النظام يُفضي إلى التعسف والديكتاتورية، بما تعنيه من قمع وسجن وتعذيب ومعسكرات. والإمكانية القصوى الثانية هي أن يكون هناك تقدم حاسم نحو تكوين مجتمع يتمفصل على مسافة واقعة بين الحفاظ على بيئة نظيفة غير مهددة، واتحاد دولي متلاحم يخضع للاحترام المتبادل.
ثورة بهذا الحجم على اعتبار أن الأمر سيدور حول «ولادة جديدة» للبشرية غير محتملة في ما يبدو في الأمد القريب لهذا القرن، وهو أمر مؤسف على اعتبار أن الدول تعبُدُ مصالحها وتبرر الانتهاكات استنادا إلى مبدأ الغاية، وفي هذا السياق يقول ونستون تشرشل: «لقد ارتكبتُ من الجرائم لصالح بريطانيا ما لو ارتكبته بداخلها لقضيتُ حياتي كلها في السجن». فالعنف والإكراه سيد الأحكام في تعامل الدول الاستعمارية إلى زمن ليس بالبعيد مع الشعوب التي استعمرتها، وموجة استقلال الشعوب في فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي لم تكن هينة أو سهلة، بالمقدار المنظور لقوى الاستعمار الأوروبي، التي تكلم تشرشل بلسانها، وهي التي رفضت منح الاستقلال للشعوب الخاضعة لها في آسيا وإفريقيا، ولو لم تدفع كل من بريطانيا وفرنسا وهولندا وبلجيكا واسبانيا، أثمانا باهظة خلال الحرب العالمية الثانية لما أذعنت لمنح الاستقلال لمستعمراتها.
الحضارة الأوروبية تتمركز حول ذاتها وتتعامل وفق بنية هرمية للمجتمعات البشرية، تٌصنفها بين البدائية والحديثة
ومن المعلوم أيضا أنه عندما وهنت قبضة الإكراه والقهر السوفييتية عام 1991 وهي الدولة التي تعددت فيها الأعراق بدأت دول أوروبا الشرقية بالانفصال عن الاتحاد السوفييتي لتنشأ خمس عشرة دولة مستقلة. وهي مرحلة شهد فيها النظام العالمي الحديث أكبر حصيلة مد انفصالي تحرري وتفكك للدول، وإن كان السبب الرئيس لذلك تأثير القومية في النظام الدولي، فالشعور القومي مثّل رابطا قويا بين الدولة والمجتمع، وهو تاريخيا قوة تدعيم للدولة على الصعيد العالمي، من خلال تعزيز الشعور لدى مواطنيها بالهوية القومية. وقد سادت الآمال بعد الحربين المدمرتين بزوال الصراعات القومية نتيجة انتشار الديمقراطية، ودولة الرفاه الاجتماعي، وانتصار حق تقرير المصير، وتحمس البعض إلى حد اعتبار أن أدبيات الاستقلال ومن ثمة العولمة، عبرت عن جدل مفاده أننا نسير في اتجاه عالم أكثر توحدا وتكافلا، يمكن أن تُصبح فيه الخلافات القومية و»دولة الأمة» أقل هيمنة وأقل ضرورة. ولكن مع انتهاء الحرب الباردة طفا على السطح مجددا الاختلاف الثقافي والتناحر الحضاري بين الغرب والشرق الاسلامي، وكان محفوفا بالريبة الثقافية التي يبررها الخطاب العالمي السائد في العصر الحديث، وهو نتاج الحضارة الأوروبية التي تتمركز حول ذاتها وتتعامل وفق بنية هرمية للمجتمعات البشرية، تٌصنفها بين «البدائية» و»الحديثة» ضمن إطار يتطابق مع تفوقها ورغبتها في استمرار الهيمنة في النظام الدولي.
ومع موجة العولمة ورأسمالية السوق حاول الغرب فرض الديمقراطية الليبرالية العابرة للحدود الوطنية، وفق منطق السيطرة على المقدرات القومية لصالح تجمع قوي من الدول الأوروبية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية تعضدها المؤسسات الدولية المتحكمة في دوائر رأس المال العالمي، فأين نحن والحال كذلك من ميثاق الأمم المتحدة، الذي نص في فقرته الثانية على «تطوير علاقات صداقة بين الأمم مبنية على احترام مبدأ تساوي الحقوق وتقرير المصير للشعوب، وكذلك اتخاذ إجراءات مناسبة لدعم السلم العالمي». يبدو أن الدفاع عن حقوق الإنسان يحتاج إلى تهذيب الأخلاق الدولية أولا والمنظمات الأممية في حاجة إلى منابع جديدة للشرعية على أساسها تُجدد فاعلية وجودها نحو الدفع باتجاه التهذيب الأخلاقي للسياسة الدولية.
*كاتب تونسي