تنوع الإيقاعات والرؤى على جدار العراقي صالح النجار

حجم الخط
0

التنوع سمة الفن

تتنوع الأساليب في لوحات الفنان صالح النجار وفق تنوع الرؤى المحافظة على التركيز في ما يخص الجسد، باعتباره مركزا، له معطى جاذب. فهو يأخذ بأقل ما يُستلب منه. بمعنى يتعرّض للأخذ والسلب، محافظا على كينونة مضمرة وأخرى معلنة، فالفنان في هذا نجده ينوّع في أساليبه ونظرته لحراك الواقع، موظفا كل الإمكانيات المتاحة، لاسيما الرموز الأسطورية التي تعمل على الكشف عما لا يستطيعه الجسد من القول عن مقدار ما يتعرض إليه من انتهاك. إذ يمكن من خلال تتبع معظم المتغيرات في لوحات الفنان، أن نتوقف على مدى التطور الأسلوبي في معالجة المعنى، إذا ما عرفنا أن المعنى في اللوحة هو نمط من تتبع الأثر والبحث عن الأصول والمتغيرات ذات الصلة بالبنية العامة والخاصة، أي بالبنية الذاتية والموضوعية في الوجود، التي تنتج حراكا جدليا، فنظرته تأخذ من رؤيته الفلسفية عبر خلق منظومات لحراكه، إذا ما عرفنا أن الفلسفة هي حراك أيضا في البحث عن الأصول والمؤثرات، أي المكوّنات، بمعنى أنه يتتبع الخطى والأثر الذي تتركه الفعالية الإيجابية والسلبية في جسد الواقع ومركزه الإنسان، لتصل إلى صياغة بنيوية لهذا المتغيّر أو المؤثر فيه. ونقصد به الإنسان. ففي لوحاته السابقة جعل من الجسد مادة عبّر من خلالها عن جملة محركات مؤثرة، خاصة المؤثرات ذات الصلة تاريخيا بتشويه الحياة في بيئة كردستان، وبهذا عبّر عما يعانيه الجنس البشري تحت وطأة الاستغلال والانتهاك، غير أنه يُداخل مثل هذا الحراك في تجاربه الجديدة ليضعها ضمن صيغة جديدة، يختار لها مُعينات أسلوبية، خص بها النمط والمُعينات الأخرى كالرموز، تعبيرا عن صراع مرحلي وأزلي مع الوجود. فالإنسان وحسب شكسبير في «أكون أو لا أكون»، محاولة منه لوضع فلسفة كونية من خلال اللوحة، وهي أقرب من تخليق بانوراما تحتشد فيها النماذج، وتميل في ألوانها إلى التعتيق، كما فعل الفنان جواد سليم في نصب الحرية، حيث تواءمت مجموعة الحركات مع طبيعة اللون الواحد على المكونات، ما خلق في بنيتها العامة نوعا من تفاعل الظِل والضوء، من أجل خرق العتمة الظاهرة على الأجساد، لتحقيق صيرورتها. وفي هذا يتواصل الفنان في دراسة الجسد من باب إظهار خصائصه وفعاليته الذاتية، كي يُظهر من تشكله عنوانا جديدا للبقاء والتواصل في الوجود.

يتواصل الفنان في دراسة الجسد من باب إظهار خصائصه وفعاليته الذاتية، كي يُظهر من تشكله عنوانا جديدا للبقاء والتواصل في الوجود.

إن الاستعانة بالرموز والأشكال الفنية، هي الوسيلة التي من خلالها يتم تشكيل البنية السردية لهذا الجسد. فحشد الأشكال والمقاطع، أعطت أثرها في تشكيل بانوراما جسّدتها مجموعة اللوحات متحدة مع بعضها، مشكّلة رؤية الفنان للواقع بكل مفاصلها. وهي في حقيقتها رؤى مشوبة بنظرات فلسفية، تُحدد نظرات الفنان للوجود الآني والتاريخ القريب والبعيد. إن فلسفة الوجود تتطلب تعدد المديات التي من شأنها توسيع دائرة العلاقات الجدلية بين الأشياء والرموز والإشارات، التي أكدت عليها الرموز الأسطورية ورموز الثقافة الشعبية المشبعة بتعدد الرؤى والنظرات، والمحصلة من تجارب حياتية بليغة، والمفعمة بخصائص الأمكنة الواقعية والمتخيلة، وتتبع متغيرات خصائصها، لاسيّما ما تبدو عليه لوحاته من سمة اللون الناتج عن الحرق، من خلال توزيع الدكنة والانفتاح الضوئي، اللذين هما بمثابة العلاقة بين الظِل والضوء في اللوحة. وكما نلاحظ فإنه يستفيد من تواري الفراغات في اللوحة التي تشغلها الأجساد بتداخلها المحتشد واستطالتها المرتبطة بنمط من الحكاية المسرودة أو المروية باللون والخط.

فلسفة اللوحة

لا شك، وكما ذكرنا، في أن العلاقة بين الفلسفة والنص ـ أي نص ـ تنبع من مشتركات الاثنين ضمن طبيعتهما. ولعل البحث عن المكوّنات للواقع يشكّل محور هذه العلاقة، لذا نجد الفنان النجار ينطلق من هذه الحيثيات، متتبعا المتغيرات، باحثا عن المؤثرات الخالقة لهذه المكوّنات. بمعنى ثمة نظرة جدلية للواقع، يُسقطها على محتويات اللوحة. ولأن النص هو الصورة المثلى لصورة الواقع والمحفوفة بالبنية الذاتية للمنتج، لذا نجده يتعمد إضفاء بنية أخرى تختزل التفاصيل، وتميل إلى التعبير بالدلالة والتشفير عبر تنشيط البنية الشعبية والأسطورية بما يمكن أن يُشكّل نوعا من آليات إعانة اللوحة على النهوض بإمكانياتها الذاتية والموضوعية. كل هذا ينتظم وفق حقل البانوراما. أي حشد الممكن من آليات التعبير، وخلق عوالم متداخلة يوائم بعضها بعضا مشكّلا سردا بانوراميا ـ إن جاز التعبير ـ عبر تقريب الرموز والأشكال من بنية الحالات التي يكون عليها الجسد للفرد والأجساد للجماعة. فبانوراما اللوحة لا تتحقق إلا من خلال الحشد الكلي لمكوّنات فاعلة ومؤثرة في خلق نمط من التعبير عن هوية المتحقق من الواقع في اللوحة. فالزمان مثلا له مكونات داخل اللوحة، وعبر الكثير من الدالات، المباشرة منها في دلالتها كالعجلات مثلا، والدالة من خلال علاقتها بما سبقها أو لحقها من مكونات. ولعل عنصر الطبيعة أكثر تأثيرا في عكس مثل هذه المظاهر الزمنية.

ثمة عبور على تفاصيل الواقع والواقعة في لوحات كل من إسماعيل الخياط، رستم أغاله، برهان سابير، دلشاد، دارا محمد علي، دارا حمه سعيد، على جولا، قادر ميرمان مثلا .

في هذا نؤكد على فلسفة اللوحة في كونها، خلقت كيانا بانوراميا يبحث عن أصوله وسط فوضى الاستلاب والانتهاك للوجود. هذا الحشد البشري والرمزي ساعد على تكوين نظرة جدلية كما ذكرنا، تأثرت بالمكون قبل النتائج التي حصلت جراء هذا الانتهاك. لأن الفنان يعتمد في هذا على تجربته المستمدة من تجارب حافظت عليها تاريخية الزمان والمكان، أراد لها الفنان أن تُصاف بصريا بحرص أكيد على أن لا تكون هذه المظاهر التي اجتاحت البيئة بكل مكوّناتها مسرودة بصريا ومؤرشفة من خلال سياق تاريخي، وإنما عبر مكوّن فني رفيع المستوى في الأداء، شأنه شأن كل الأجناس الإبداعية. ولعلنا نتلمس هذا في معظم لوحات الفنانين الكرد باستثناء الانطباعيين في بعض لوحاتهم مثل محيي الدين وعباس الزهاوي. في ما نجد ثمة عبور على تفاصيل الواقع والواقعة في لوحات كل من إسماعيل الخياط، رستم أغاله، برهان سابير، دلشاد، دارا محمد علي، دارا حمه سعيد، على جولا، قادر ميرمان مثلا .

المكوّنات والدلالات

ما نعنيه بالمكوّنات هنا، هو مجموع البني الفنية التي تتضافر لصنع عالم اللوحة، وتأكيد المعنى الذي يخضع بطبيعة الحال إلى وعي الوجود من خلال مراقبة المشاهد ضمن حراكه. ولعل الذاكرة ما تضفي على صيرورة بنية اللوحة معناها المتحصل عبر معاني موزعة يعمل الفنان على لمّها في إطار واحد. إن البنيات الفنية تتشكل من خلال استخدام الألوان التي هي المجس الذي يعكس البنية النفسية، حيث نلاحظ كونها ألوان محايدة، على الرغم من اضطراب الواقع المنقول في اللوحة. فاللون يشتغل ضمن مجاله المحايد، حيث يؤسس له مجالا يشكل معادلا موضوعيا مع بقية الألوان. فالأحمر لا يطغي على الأصفر أو الرمادي في مساره وتجسيده للمكونات، كذلك وجود الأحمر ضمن متشكل الرمادي، فهما لونان متضامنان، بما يبقي علاقتهما متوازنة بدون العمل على طغيان بنية على أخرى. وهذا بطبيعة الحال يفسح المجال الحيوي لبقية الألوان في أن تُحقق صيرورتها بالدلالة. متضامنة مع قوة الخطوط التي تعمل هي أيضا على تجسيد سردية بصرية.

٭ ناقد عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية