كوابيس باريس: عدالة القضايا لا تبرر إسقاط الضحايا

حجم الخط
63

ها أنا أعيش «كوابيس باريس» بعدما عشت «كوابيس بيروت». ولا تزال جثث السيارات المحروقة بعد تظاهرة هذا اليوم السبت في جادة الشانزيليزيه لأصحاب «السترات الصفراء» تفوح؟ متغلفة في بقايا حطام واجهات المطاعم الفخمة والدكاكين الأنيقة، وها أنا أجلس ليلا على مقعد خشبي من مقاعد الأرصفة في شارع «الشانزيليزيه» الباريسي الشهير إياه، كما جلست على المقعد ذاته يوم وصلنا للإقامة في باريس هاربين من «كوابيس بيروت» قبل ثلاثة عقود ونصف.. وتوهمت وقتها أنني غادرت قارة الكوابيس.
ثم إن الهرب من «كوابيس بيروت» كان مغامرة بحد ذاتها، فالباخرة التي يفترض أن نستقلها اختطفها العدو الإسرائيلي زاعما أن على متنها بعض (الإرهابيين)، أي أبطال المقاومة من الفلسطينيين. وحين غادرت «باخرة المواشي» بيروت ورضينا بأن نستقلها (المطار مغلقا) للهرب إلى لارنكا/قبرص، كخطوة أولى توهمنا أننا ودعنا «كوابيس بيروت» ولكن لا.. إذ انهمرت علينا القذائف في عرض البحر قادمة من فئة مسلحة في لبنان، كأنه ينبغي ألا يرحل المرء حيا عن جحيم كوابيسه البيروتية، فهو رهينة لديهم لا يحق لها الهرب!

«كوابيس الغرب» بعد «كوابيس الوطن»

في مرفأ لارنكا حين وصلنا أحياء تعرضنا لتفتيش بوليسي دقيق خوفا من نقلنا ـ كلبنانيين ـ للمخدرات!! وأخيرا وجدنا أنفسنا على الرصيف بانتظار التاكسي للذهاب إلى فندق «صن هول».. وجاء رجل وحمل حقائبنا وظننته السائق (اللطيف) ثم إنني كنت أحمل (ثروتي) بيدي، أي مخطوط روايتي «ليلة المليار» ولم أنتبه له، ولكن زوجي لحق به صارخا بالإنكليزية: هذه حقائبنا نحن. فتركها السارق على الأرض وفر هاربا. وأدركنا لحظتها أن اللاجئ فريسة شهية للسارقين وتجار مراكب الهرب.

لا مكان آمنا في هذا الكوكب

أتذكر جلستي في أسبوعي الأول في باريس على هذا المقعد الخشبي، بالذات في شارع الشانزيليزيه.. يومها توهمت أنني وصلت إلى مكان آمن في هذا الكوكب المضطرب. مكان يصلح ليكبر ابني فيه دون أن تنفجر قذيفة في باحة مدرسته وتجرح رفيقه الطفل مثله، ودون أن تحترق مكتبتي وتمر القذائف بجدراني وتستقر رصاصة في وسادتي.. كما في بيروت.
وكنت واهمة.. فالعنف سيتبعني في كل مكان ربما لأنه ينبع من الطبيعة البشرية للناس أينما كانوا كيفما كانوا..
وها أنا في جلستي الأخيرة هذه ليلا على المقعد نفسه أتذكر يوما من العنف والخوف في قلب باريس عشته منذ ساعات، بدأ بزيارة مني لصديقة لبنانية في حانوتها الفخم للأزياء في الشارع الباريسي الموصوف بأنه أجمل جادة في العالم (الشانزيليزيه) بعدما باعت كل ما تملكه في لبنان ووجدت شريكة فرنسية ونجح (البوتيك) ماديا لموقعه في الجادة الشهيرة.
وما كدت أصل إليها حتى توافد على الجادة متظاهرو «السترات الصفراء» وقلت لنفسي: تظاهرة سلمية أخرى باريسية وتمر..
لكنها لم تمر حقا بسلام، بل تحولت إلى ما يشبه فصلا من «حرب الشوارع».. بدأ الصدام مع رجال الشرطة والقذائف المسيلة للدموع مقابل العنف (الأصفر) وبدأ تكسير مقاعد المقهى المجاور لاستعمالها كعصي ضد رجال الشرطة ودارت معركة وأين؟ في شارع الشانزيليزيه الذي توهمته المكان الأكثر أمنا في العالم يوم وصلت إلى باريس. بعد ساعات من ذلك كله، حين هدأ الشارع غادرت وصديقتي المخزن. وقلت لها إنني أريد أن أجلس قليلا على هذا المقعد الخشبي نصف المقتلع تحت عنف تظاهرة «السترات الصفراء».
وسألتني بمودة: هل أنت مجنونة؟
قلت لها ضاحكة: هل اكتشفت ذلك اليوم فقط؟

القضايا العادلة في فخ الأذى للأبرياء

أتساءل: أليس بوسع الإنسان أن يحتج على ما يجده ظلما.. أن يظلم الأبرياء في خضم دفاعه عن حقوقه؟
هل ستتحول تحركات «السترات السصفراء» إلى انتفاضة تبدل تاريخ فرنسا، أم أنها عاصفة هياج ستمر؟ عدت إلى وكري الباريسي وأنا أتساءل: لنفترض أن أهل «السترات الصفراء» على حق في مطالبهم. ما ذنب صديقتي التي كدحت مثلهم طوال العمر ليصير لها الحانوت الذي تسترزق منه وكانوا على وشك تحطيمه لو لم تسارع إلى إسدال الأبواب المعدنية، وما ذنب أصحاب السيارات التي تم إحراقها هياجا ولعلهم يدفعون ثمنها بالتقسيط ولما يسددوا القسط الأخير بعد. ولماذا تستخدم القضايا العادلة أساليب ظالمة أحيانا للوصول إلى أهدافها؟

المرفهون قياسا إلى بشر العالم الثالث!

ثمة حقيقة، هي أن أهل فرنسا يعيشون في رفاهية نسبية، ولا يدفعون إلا القليل من نفقات العلاج وثمن الأدوية وأقساط مدارس الأولاد.. يريدون المزيد؟ ربما عليهم بالتالي عدم إفقار خزينة الدولة لتكون قادرة على تلبية مطالبهم.
لكن تحركاتهم شلت جزءا كبيرا من الحياة الاقتصادية الفرنسية والسياحية، وتم إغلاق العديد من المتاحف خوفا من نهبها وتخريبها، والخزينة الفرنسية خسرت حتى اليوم (أي بعد شهر على تحركات السترات الصفراء) مبلغ 4 مليارات يورو ـ كما قال مذيع الأخبار ـ وفقد 50 ألف موظف موقت أعمالهم بسبب الكساد وهرب الزبائن والسياح خوفا، ثم اضطرار رب العمل إلى إغلاق حانوته كل يوم سبت دفعا من الأذى والتدمير، أي أن أهل «السترات الصفراء» يطالبون بالمزيد من المال ويقومون بإفقار الخزينة. فكيف يمكن لتحرك أن يقنع أحدا وهو يعمل ضد نفسه قبل الآخرين؟ وترى هل قدري أن أعيش «كوابيس باريس» بعد «كوابيس بيروت»؟ أم أن الحوار الذي عرضه الرئيس ماكرون على «السترات الصفراء» سيدور ويجدون حلا دونما معارك شوارع، فقد تعبت وسواي من العنف في كل مكان!

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول .Dinars:

    الفرنسيون كوابيسهم إبان ثورتهم ثم عادت عندهم من جديد يوم أن استوطنهم صاحب الصليب المعكوف.
    الفرنسيون عاشوا الرفاه على حساب جماجم أمم استوطنتهم فرنسا.
    لا أمان في هذا العالم إلا في مكان واحد ألا وهو القلب السليم.
    لا نهوض لأيّة أُمّة إلا بانعدام لوجود الأنا.
    والعرب أول ضمير لهم ” أنا ”.

  2. يقول أبو تاج الحكمة:

    تعلمون ان رؤيا الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم حق حيث قال من رآني فقد رآني حقا فإن الشيطان لا يتمثل بي او كماقال
    حيث شاهده أحد الصالحين فسأله
    مارأيكم بالاحتفال بالمولد النبوي الشريف أحلال أم حرام؟فأجابه صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم:
    من فرح بنا فرحنا به
    او كما قال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم

  3. يقول BOUMEDIENNE:

    لو كان ما يحدث في فرنسا من مظاهرات لاكثر من ثلاث اسابيع،في بلاد عربية او اسلامية، لتجند الاعلام الغربي والعربي، لصب الزيت علئ النار والقول ان الربيع العربي يجتاح معاقل الاستبداد واثاوا الدنيا ولم يقعدوها ولتحول الامر لحرب اهلية، كما جرئ في سوريا وليبيا، وتدخل الناتو، لنصرت الشعوب، هاهي فرنسا العظمئ كما يقال تظهر فيها نفس المشاكل الاجتماعية والاقتصادية وحتئ السياسية، لا همس للمتامرين والمنبطحين ولا تجند حلف عسكري او غير ذالك، والامر عادي، هذا يفضح الكيل بمكيالين، في منطق الاقويائ والضعفائ، ولهذا نحن دائما تحت التهديد،

    1. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

      مع فارق أساسي أخي BOUMEDIENNE الشعب الفرنسي انتخب ماكرون في انتخابات حرة نظيفة! وفرنسا دولة يحمكها قانون ومؤسسات ومجلس شعب منتخب. ولو رحل ماكرون لن يحصل شيء بل سيأتي رئيس جديد بانتخابات حرة نظيفة! , فأين الثرى من الثريا ياأخي

  4. يقول .Dinars:

    لو سقط ماكرون فإن أوروبا ستتغير لذلك يتجاهل ماكرون احتجاجات السترات الصفراء ولو استمرت الإحتجاجات يوميا فإن فرنسا ستفلس حتما لذلك يجب على السترات الصفراء تغيير استراتيجية الإحتجاجات بالدخول في عصيان مدني إلى أن يسقط نظام ماكرون ويبدأ عهد جمهورية جديدة علها تعيد الحق لأصحابه من الذين استعمرت دولهم فرنسا

  5. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

    أخي Passerby هو الشاعر الفلسطيني ابن مدينة طولكرم عبد الكريم الكرمي (أبو سلمى) (1327–1400 هـ) (1909–1980 م)
    يـا أحـبّـاي .. أمـا آن لَكُم أنْ تـقـولوها صُراحاً وَصَوَابا
    تـاجـرَ الأهـلُ بـآلامـكـم ثُـمَّ يـرجُونَ مِنَ الشَّعب ثَوابا

    أيـهـا الأهـل ! – في القطاع وفي الضفة ، لو تُنطق الدموعُ لساني
    يـعـصـب الـجـمـرُ جـانـبيه ، وهل أبلغُ مما لم تَرْوِهِ الشفتان
    تـلـك أكـبـادُنـا الـمُـمـزقـة ، الحرَّى ، على كلّ شفرةٍ وسِنانِ

  6. يقول BOUMEDIENNE:

    يجب ان لا ننخدع بديموقراطية الغرب، لان هذه الديموقراطية ما تنتجه من حكام، هو نتاج لارادة اللوبيات الاقتصادية المسيطرة علئ الاعلام والحياة السياسية، ونفس هذه اللوبياة هي التي طبقت مفهوم من كان ثريا يزداد ثرائا ومن كان فقيرا يزداد فقرا، وهذا هو الفارق الذي يدل علئ ان الديموقراطية الغربية مسيرة وليست مخيرة، وليست عادلة اصلا.
    واذا كانت فرنسا العظمئ هي واخواتها من الديموقراطيات الغربية، لا تسمح باختراق سيادتها، فلماذا هؤلاء رغم انهم هم ورائ البؤس الذي يعيشه العالم الغير ديموقراطي كما يدعون، يعطون الحق لانفسهم للتدخل في شؤون الغير، فالديموقراطية هي سلوك حضاري نعم، لاكن يحتاج الئ الوقت حتئ يتكرس لان مجتمعاتنا، مشكلتها هي تحصيل العلم والاستثمار في الانسان، لنحصل علئ المطلوب وهو الوعي والتحضر والنمو والتقدم، لا ديموقراطية غربية مفروضة كما فرض الاحتلال من قبل علئ اوطاننا بداعي، اخراجنا من الجهل الئ التحضر…

    1. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

      أخي Boumaddienne وأكثر من نصف قرن بعدرحيل الإستعمار ونحن أولا نتأخر ولانتقدم ثانياً نكرر نفس الخطاب دون إعطاء أي آفق للتقدم,ولانقدم مشروع حضاري يفتح الطريق أمامنا باتجاه أي قدم.

  7. يقول .Dinars:

    فلتُسمّى المسميات بإسمها اللوبيات المتحكمة في حركة المال العالمي والتي لا تغيب عن القرار من خلال تواجدها ضمن دوائر القرار ألا وهي الصهيونية أو بالأحرى فئة من اليهود المختزلة في الوجود اليهودي على أرض فلسطين التي بتحررها يتحرر العالم.

  8. يقول BOUMEDIENNE:

    اخي اسامة: نحن كامة لم نلبث ان خرجنا من رامد النار التي احرقنا بها هذا الغرب المتوحش، حقا حياة الافراد تقاس بالسنين، لاكن حياة الامم تحتاج الئ اكثر من السنين، مشاريعنا للحاضر والمستقبل بدات في ماضينا عندما، لم نرضئ ان نعيش تحت نير هذا الاستدمار الغربي،الذي احتل اوطاننا واهان كرامتنا ودمر كل مقوماتنا التاريخية والحضارية والانسانية.
    واكبر مشروع حضاري لنا كامة هو اننا لم ننصهر في اجندة عدونا، وهذا يثبت اننا لنا مشروع، هو اعادت بناء ما فقدناه، ونحن بهذا لا نتاخر، حالنا اليوم هو حقا فيه جزئ من ما بانفسنا، لاكن، هذا الغرب هو سبب مصائبنا، التي توحي بانننا كامة لا نفعل شيئ،للخروج من ما نحن فيه،لاكن نحن نقاوم كمجتمعات وكامة، هذه المدات الغربية المتصهينة التي مافتئة تتربص بنا وباوطاننا. اذن نحن نصارع ولا نستسلم، ونامل ولا نتشائم، والله المستعان….

  9. يقول BOUMEDIENNE:

    ان كرامة المرئ مرتبطة بكرامة وطنه وشعبه، ولا يمكن لشخص ان يتنعم بالكرامة، ووطنه يفتقدها،فباريس التي يسميها البعض عاصمة الملائكة،هي ليست كذالك لقد حيكت فيها كل الموامرات التي احرقت اوطاننا.لقد استعلت وضنت انها بمنئ عن مشاكل البشرية،رغم انهاهي السبب في تاجيجها،فديموقراطيتهم التي ذبحونابها،وجددواالحروب الصليبية المتصهينة ضدنا بمسميات جديدة استحدثوها باستغلتلها،اليوم هم كذالك يعيشون الاستبداد الاقتصادي والاقصائ الاجتماعي هذا فضلا عن الثورة التي تجتاح العاصمة الفرنسية والتي يقوم بها الكادحون كما قام بها الكادحون من ابنائنا في عواصمنا،من قبل والتي استغلت من طرف فرنسا وحلفائها، لنشر ما يسمئ بالفوض الخلاقة او الربيع العربي،ولم تتصرف فرنسا التجاهنا،بنفس المنطق الذي تتصرف به في داخلها،عدالة القضية لا يستدعي التخريب واسقاط الضحايا.
    بل كانت تصب الزيت علئ النار، والنتيجة هي ما نحن فيه.
    اذن علينا من تصرفات الحكومة الفرنسية وغيرها من الحكومات الغربية ان نستخلص الدروس، ونعي هذا المقياس الماكر الذي تتعامل به نحونا،لانه ليس في صالحنا، ويتاكد لنا ان هؤلاء لا يريدون لنا خيرا علئ الاطلاق، ولهذا نحن نتمنى ان يذوقوا شيئا من مصائبنا، ليرجعوا الئ انسانيتهم….

    1. يقول أسامة كليّة سوريا/ألمانيا Ossama Kulliah:

      أخي Boumedianne لا داعي للخطاب. بيت القصيد أن الذي يحمكم أوطاننا هم ليسوا البطال الشرفاء الذين حرروا أوطاننا.

1 3 4 5

إشترك في قائمتنا البريدية