ورث خير الله الجوبراني طاقية الإخفاء عن أبيه الذي لم يستخدمها طوال حياته إلا للهرب من ملاحقات المخبرين والمخبرات، ورحل عن الدنيا ضاحك الوجه والقلب، ولم يسـر في جنازته إلا قلة من أهله، فلم يستغرب الإبن ضآلة عدد المشيعين، فأبوه قضـى كل عمره لا يهتم إلا بحياته كأنه يعيش وحده على سطح الأرض، وكان يبغض الحكام، ولكنه كان لا يرى رعاياهم ولا يأبه لمحنهم ولما يحل بهم كل يوم من اضطهاد وإذلال، فلام خير الله أنانية أبيه، وتاق إلى أن يكون مختلفاً عنه، وأن يستغل ما ورثه للإقدام على فعلٍ ما يسعد عباد الله أجمعين ويثأر لقتلاهم المظلومين أبشع ظلم، وينجيهم من رئيس غريب الأطوار يستمتع بالقتل كأنه ورد وقمر وموسيقى ونبيذ معتق وفم امرأة.
ومن المؤكد أن خير الله الجوبراني الخاوي الجيوب اللامرئي كان يستطيع السطو على الملايين من دون أن يضبط أو يعتقل، ولكنه آثر أن يجوع أشهراً ليست بشهر رمضان حتى يتاح له شراء ما يرغب في امتلاكه، ويفوز في آن واحد برضا الخالق وبسلاح هو الغاية والوسيلة، وها هو ذا خير الله الجوبراني قد نال ما تمناه ويمسك مسدسه بيده اليمنى متخيلاً ما هو قادر على فعله:
سيطلق الجوبراني غير المرئي النار على قصور الرئيس القصر تلو القصـر، فتعلن السلطة المهيمنة النفير العام ويتخلى الوحش عن أقنعته التنكرية وتمتلئ مناماته بالأحلام المرعبة وتتحوّل البلاد معسكر اعتقال لا يشتمل إلا على جلادين وضحايا، وسيطلق الجوبراني النار على حراس الرئيس وخدمه، فيتولى من مات إخبار من ظل حياً بما ينتظر الضباع الوفية لما يرمى إليها من بقايا جيف، وسيطلق النار على جنرالات جيشه الملطخ بدم أهله، فيضطر الجيش إلى التوقف أياماً عن قتل المواطنين بحجة البحث عمن اغتال قادته، وسيطلق الجوبراني النار على الوزراء الذين عينهم الرئيس، فلا يُقتل منهم أي وزير، ولكنهم سيبادرون إلى إعداد وصاياهم التي تتضمن ما يشبه الإحصاء لكل ما نهبوا وسرقوا، وسيطلق النار على أنصاره المستأجرين، فمن يؤازر قاتلاً هو قاتل أيضاً، وسيطلق النار على كلابه، فالنباح أيضاً يستحق المحاسبة والعقاب.
وسيطلق خير الله الجوبراني غير المرئي النار على رأس الرئيس أو قلبه، فيهلك تواً، وتلك ميتة مريحة لا تليق به ولا تتلاءم مع ما في قلوب الناس من مقت شبيه بصخر الجبال، وهو المقت الذي سيتكفل بإقناع الجوبراني بالإمتناع عن إطلاق النار على رأس الرئيس وقلبه، وسيحرضه على إطلاق النار على ساقيه ليحرمه متعة الهرولة من بنك روسي إلى بنك صيني إلى بنك برازيلي أو إطلاق النار على يديه ليرغمه على استخدام أصابع قدميه للتوقيع على أوامر الإعدام، وسيطلق الجوبراني النار على عشيقات الرئيس، فيتنهد الرئيس بحسـرة قائلاً لخدمه: لو كنت شاعراً لنظمت قصائد رثاء باكية، ولكني لست بشاعر.
وسيطلق الجوبراني النار على الكراسي الرسمية للرئيس، فيسارع أعوانه المراؤون إلى صنع آلاف الكراسي المضادة للرصاص.
وسيطلق الجوبراني النار على كل عشب أخضـر، فاللون الوحيد المرحب به وبصدقه هو لون دماء الأبرياء المقتولين بغير رحمة، وسيطلق النار على السحب عقاباً لمن تنهمر أمطاره فوق قصور الطغاة البغاة، وسيطلق النار على الأشجار المثقلة بالثمار ويقول لها مؤنباً: لو كنتِ متعاطفة حقاً مع الناس لما حملت أغصانك غير الشوك.
وسيطلق الجوبراني النار على جرائد تخوض مباريات حماسية في الكذب والنفاق متباهية بانتصاراتها، وسيطلق النار على كتاب وفنانين مختصين بالزغردة في المآتم، وسيطلق النار على محطات تلفزيونية تروّج للذل بوصفه اختياراً حكيماً للحرية الحقيقية المسؤولة، وسيطلق النار على لحى ضالة مضللة تبارك ذبح الأطفال.
وسيطلق الجوبراني النار على ماض يحضّ على إطاعة أولي الأمر، فالفاسد المفسود المفسد لا يطاع، ولا مكان له إلا في المزابل التاريخية الوثيرة، وسيطلق النار على الفجر والسماء الزرقاء محرضاً الغضب على الاستيقاظ.
وسيمسك خير الله الجوبراني مسدسه بيده اليسـرى ويطلق النار على يده اليمنى التي تكتفي بالتحدث عما ستفعله، ولا تتحدث عما فعلته، وسيورث طاقية الإخفاء لأبناءٍ هم في أدغال القتلة الفؤوس الغاضبة التي لا تساوم ولا ترحم، وهم أصحاب الأفعال القادرة على حفر القبور العميقة لأعدائها والهازئة برجال جوف لا يملكون في المعارك غير أفواههم التي تهدد وتتوعد ولا تقاتل سوى غبار.
زكريا تامر
يعجبني القاص زكريا تامر، ولكنه يريد عالماً طاهراً نقياً ، وكان عليه ان يقرأ في السياسه،فن الممكن اذ لا يوجدُ عدلٌ في الكون الا ، العدلُ الالهي. .