صراع حضارات أم صراع عصبيات قروسطية: من تطويف الأديان إلي عنصرة الطوائف والمذاهب
مطاع صفديصراع حضارات أم صراع عصبيات قروسطية: من تطويف الأديان إلي عنصرة الطوائف والمذاهبيدأب المشهد السياسي والاجتماعي العربي علي تظهير المخفي من لا شعوره الجمعي، هنالك مسرحة متفاقمة ليس للطائفية وحدها، بل لما هو أخطر وأدهي، لما يمكن دعوته بعنصرة التطويف والتمذهب، ما يؤدي إلي تأحيد الذات ضداً علي كل آخر. إذ تعمل العنصرة علي إعادة إنتاج الروابط الدينية وحدها، كما لو كانت تحديداً شبه دموي عرقي، لنوع من البشر، لهم اختلافاتهم المطلقة عن بقية الفئات المتساكنة معهم سواء ضمن الدولة أو المجتمع الواحد، أو مجاورة لهم. وقد تصل المبالغات بإبراز الفوارق إلي حد إلغاء الوحدة الإنسانية ما بين الفئويات المؤكدة لتمايزاتها، المصطنعة أو المضخمة غالباً؛ وهي في الأساس فوارق ثانوية أقرب إلي التنوعات بين أطياف، منها إلي تناقضات حدية قاطعة.وقد تأتي التدخلات السياسية من خارج أو داخل، لتحيي هذه الانتماءات الفئوية، وتوظفها كأسلحة جماهيرية ضد بعضها. فتتساقط الأهداف الجامعة والمشتركة، ويحجب الصراع الطائفي مختلف القضايا الحيوية الأخري. وأهمها ولا شك تصحيح العلاقات المختلفة بين الحكام والمحكومين، وتعزيز مشاريع التنمية، والارتقاء بالدولة إلي مستوي تحديات العصر التي تعصف بها من كل جانب. فلقد ابْتُلِيت حقبة النهضة الثانية بشتي أنواع الهزائم الاجتماعية والقومية، وليس العسكرية فحسب. لكن أشدها وأخطرها ستكون ولا شك هي هزيمة العقل العام، وعجزه المتكرر عن فرز أي سلطة معنوية أو حقوقية للوعي الموضوعي، والحداثوي بخاصة. بل إن موجات من الأفكار والمبادئ والقيم تستبدّ مرحلياً بالمخيال النخبوي نفسه، ولا تلبث أن تمحو بعضها، حتي لا تتبقي أية آثار لها، تراكم مؤونة تأسيسية لحالة من الوعي الريادي المستقر، والقادر بالتالي علي قيادة حراك فكري اجتماعي، دافع للتغيير وحام لمنجزاته. لكن بدلاً من ذلك كان التراكم منوطاً فقط بحصائل الجدليات السلبية الناجمة عن نفايات أجيال من منظومات الأفكار والدوغمائيات المستحدثة، والرافعة دائماً لشعارات كليانية، لم يستطع أيٌّ منها أن يتجاوز بنيته اللفظوية، ويعكس له ثمة ظلاًّ ما علي حياة الناس في بلادنا.لا يتعلق الأمر بانتهاء الصراع الأيديولوجي الذي شغل أجيالاً متتابعة، إلي السقوط في شراك تسييس الدين بعد استهلاكه واستنفاد أفكاره (التقدمية)، بل لقد حدث سريعاً أن حل التدين نفسه مكان السياسة وأفكارها معاً. وفي هذه الحال لا يظل الدين هو عينه، إذ تنقلب تعاليمه إلي مجرد تسويغات دوغمائية، هدفُها تغطية ذات الصراعات القديمة حول السلطة بين من هم فيها ومعها، ومن هم ضدها. إلا أن تسييس الدين ينتهي بدوره إلي تمزيقه شيعاً وفرقاً ومذاهب، تتنافس جميعاً علي من هم الأقرب أو الأبعد عن تمثل التعاليم والعمل بموجبها، التقيد بحرفية النص أو بتأويله. لكن التجربة العملية أثبتت علي عجل أنه لا يمكن للتدين أن يلغي السياسة أو يحل محلها، وإلا فأنه ينقلب هو عينه إلي سياسة من نوع آخر. وربما قد تساعد علي إضافة عنصر الأخلاقيات التي نَأَتْ عنها إبان حروب الأدلجات الشعارية، وتعزيز الانضباط داخل التنظيمات، وإثارة الــــروح النضالية، وشدها إلي مستوي الجهاديــــة والتضحية الكلية بالذات لدي المنضوين، الذين يصيرون مقاتلين أو أشباههم، بدلاً من صنف (المناضلين) السابقين.كذلك أثبتت التجربة أن التمزيق الطائفي والمذهبي ينعكس علي التنظيمات التي تؤجج بدورها صراع الفرق والشيع فيما بينها، ويحل العدو الداخلي مكان الخارجي. وبذلك تكون عدة الحروب الأهلية قد تم تجهيزها كعوامل فاعلة، وكأدوات مقاتلة. ولا يتبقي إلا تضافر المناسبات الطارئة أو المصطنعة لإطلاق شرارات الاحتكاك، والشروع في دخول البلد أو المنطقة في أظلم فترة دموية من تاريخها الحديث. وهذه الحقبة المشؤومة لم تعد منتظرة فقط أن تأتي غداً أو بعد غد. إذ وقعت كل التمارين الأولية الممهدة منذ اندلاع الحرب اللبنانية واستمرارها خمسة عشر عاماً. ثم قد يعيش لبنان مجدداً في عتبة استئنافها بأشرس ألف مرة من الواقعة الأولي. والعراق ينغمس يوماً بعد يوم في الاقتتال الأهلي المتصاعد الوتيرة والمنتشر كالنار في الهشيم. تلك هي مجزرة يومية لا تعلن بعد عن اسمها الحقيقي. أما بقية أقطار المشرق، وربما المغرب كذلك قريباً، فإنها تعيش في ضواحي البؤر اللاهبة من حولها؛ وقد أُتخم أكثرها بأهم عوامل التفجيرات المذهبية أو أشباهها، بانتظار ساعة الصفر التي تخص توقيتها الذاتي وموعدها مع الكارثة المحتومة.أتعس أشكال العصبيات التي كان ابن خلدون منظرها الأول في علم الاجتماع الإنساني عامة، هي تلك التي لم يتحدث عنها بعد، لغياب ظواهرها في عصره، بينما راحت تسيطر علي مدنية القرن الواحد والعشرين للأسف، وهي العصبيات الملتحفة بالغيبيات. إنها أخطر من رابطة الدم المتمثلة في وحدة العشيرة والقرابة المباشرة وغير المباشرة، التي تحكمت بنشوء المجتمعات والدول طيلة التاريخ الانساني ما قبل العصر الصناعي. لكن العجيب وفي ذروة عصر التكنولوجيا، تتأجج فجأة عصبيات التدين والتمذهب. وتصبح أكبر دولة، أمريكا، أشبه بكنيسة كنائس التبشير كلها في العالم، وبناء علي وعي إرادوي وتنظيم استراتيجي من نخبة عقولها. فالأمركة باتت مرادفة للتبشير. كأن الرسالة القصوي للعولمة هي إعادة تديين العالم، مع ذروة استثماره اقتصادياً، واستهلاكه بيئوياً، وتحشيده ضد بعضه في شتي صراعات العصبيات كلها.ولا تزال ساحاتنا العربية والاسلامية هي الميادين المفضلة لنماذج التمارين الافتتاحية والتجارب الأولية لما تخترعه وتصنعه عبقرية ارادوية مصممة علي عصرنة القروسطية وتشميلها الإنسانية اليوم والغد. إنها عدوانية منقطعة النظير، جعلت هدفها المركزي محاصرة المدنية وتجريدها من أعظم منجزاتها في الحرية والعدالة الحقيقية وانطلاق قوي التغيير والابداع بحسب إمكانات الشعوب، وخصائص هوياتها الثقافية. لم يتبق ثمة من وسيلة لإحكام السيطرة الكاملة علي ثروات العالم إلا بإحداث الانقلاب الأشمل علي مدنيته. وليس ثمة من استراتيجية قادرة علي بلوغ هذا الهدف إلا بحرمان العالم من مختلف الفرص العقلانية لإحلال سلام دائم، هو حلم الأحلام الإنسانية منذ فجرها. ويأتي حرمان العالم العربي والاسلامي خاصة من أبسط فرص هذا السلام الأهلي أولاً ما بين مكوناته الاجتماعية، هو المدخل للالتفاف علي صحوة التنوير التي منع منها دائماً تحت وطأة استئناف التظليم بعد كل شرارة نور تلمع في آفاقه. والتظليم هذه المرة مقترن بفرز العصبيات البدائية تحت مختلف التسميات. وآخرها هي الأسماء الدينية بالرغم من موروثها. أما ما يكتب ويُفعل ويحرك تحت هذه الاسماء فليس سوي أضداد معانيها. فالانفصام ليس لغوياً فحسب بين العنوان والنص، لكنه حاصل أصلاً بين العقل والتاريخ قبل أن يقع بين العقل والواقع. بمعني أنه لا يمكن لأي فكر استراتيجي مخادع أن يأتي بأسماء الماضي ليلبسها أفعال الحاضر. وبالتالي لا يمكن إدارة الواقع بعقلية اللاواقع.الخيبة التي يعانيها أساتذة هذه الاستراتيجية الفاشلة وزعيمهم المهووس في البيت الأبيض، وبدءاً مما دعوه بنموذج الديمقراطية في العراق، لا تعني الاستغناء عن هذه الاستراتيجية، وتحديداً فيما يتعلق بمبادئها وأهدافها، لكنها قد تخضع للتغيير والتعديل في الطرق الموصلة ما بين هذه المبادئ والأهداف. وحتي عندما ينزاح الطاقم الحاكم اليوم مع انقضاء الرئاسة البوشية، فإن مؤسسة الحكم الأمريكية لن تأتي بغير هذا النهج الذي أمسي يعادل بقاء الأمركة في ذاتها، وليس بالنسبة للعالم. غير أن العالم بدوره يرفض نظرية صراع الحضارات. والنخب الثقافية والاجتماعية الواعية تتنادي من جميع أنحاء المعمورة، حتي من أمريكا، وأوروبا علي الخصوص، وتعقد المؤتمرات والندوات كيما تعلن رفضها للمضمون الفعلي الذي تتحول إليه هذه النظرية الشيطانية. إذ أصبحت تعني صراع الأديان. تلك هي الأداة الأخبث لتعميم ثقافة القتل المجاني، وتجعلها عابرة للقارات، ولكل الحدود المادية والمعنوية داخل المجتمعات وما بينها.إن تديين العصر والعالم. ليس مراده إحلال قيم وأخلاق الأديان الحقيقية، بل هو استعداء قبائـل البشر ضد بعضها، وعلي مكوناتها الاجتماعية ومكتسبات نهضاتها في التنوير وحماية حقوق الإنسان بفضل وعيها وتقدمها الذاتي. لذلك ليس العرب والاسلام وحدهم هم طلائع المقاومة ضد الانقلاب الأمريكي الكوني، لكن كوارثهم ومآسيهم اليومية هي الثمن، وهي المنارة كذلك القاشعة لظلامة الوعي الإنساني الضائع. إنها تعطي كل يوم إشارات الإنذار لباقي البشرية كيما تعيد اصطفافها العقلاني ضد أخطر انقلابات في التاريخ الكوني علي خلاصة هذا التاريخ وهي مدينته الموعودة والمغدورة.9