أجلس في مقهى شعبي وأنثر أشيائي على الطاولة ومحفظتي على كرسي بارد. أشرب سيجارتي الشعبية وأرشف قهوتي بصوت مرتفع، ولا أحد يلتفت إليّ في ضجر أو يشعرني أنّه منزعج من صوت أطلقه، يشعرني بأنني أشرب وأسمع نفسي تشرب. أنا رجل يؤمن بأنّ أصواته المبهمة حين تنطلق بلا قيود تريح النفس الباطنة.
مسكينة هي الأصوات التي من نوع آه وأفّ ووي وأي وأح.. هي تبدو وكأنها لا تساوي شيئا في عالم المنطوقات، رغم أنّها تعبّر عن ألمنا وعن تعجبنا وعن دهشتنا؛ إنها تعبيرنا الأكثر طبيعية عن أحاسيسنا، فهي تفهم ولا تحتاج مواضعة وهي ترحل في العالم بلا جواز.
أغلب الظنّ أنّ الأصوات الساذجة البسيطة هي أولى التعبيرات التي استعملها البشر. نحن نتأفّف ونتأوّه بأصوات طبيعيّة، تغنينا في كثير من الأحيان عن اللغة اليومية. أغلب الظنّ أنّ كثيرا من هذه الأصوات دخل متنكرا إلى اللغة، فدجّنته وجعلته أهليا؛ تماما كالحيوان البرّي الذي ينعم برطب الحياة فينسى البراري. خذ ياء النّداء أو همزته الممدودة هما صوتان طبيعيّان مُدجّنان. ها وهو حرف تنبيه التصق بذا في الإشارة وصار من كلمات اللغة.. إنّه مثلما يوجد أرنب برّي ما يزال يعيش في الغابات والفيافي ويوجد أرنب داجن يعيش بين الناس ويأكل الجزر؛ توجد «ها» برية: صوتا ساذجا طبيعيا وها مدجّنة بما هي صوت لغوي مرتبط بالإشارة أو مستعمل للتّنبيه.
أنتبه إلى صوت أغنية ينبعث من هاتف جوّال.. أوفْ.. أوفْ يَا بَاǃ.. يرنّ الهاتف وبدلا من أن يصدر صوتا جرسيا ينادي أوفْ.. أوفْ يَا بَا .. أوف قريبة من أفّ وأفّ لها حكاية في كتب النّحاة يعتبرونها اسم فعل مضارع: صوتا في رتبة الأسماء التي تعوّض فعلا في صيغة الحال. يقولون إنّك حين تقول أفّ فكأنك قلت أتضجّر. هل الأوف العامية بنتُ أفّ الفصيحة؟ أم أنها أختها من الرّضاعة؟ عملت الأوف في الفنّ وظلّت الثانية في سياق راق ذكرها القرآن ومفسروه والنّحو ومصنفوه.
عاد هاتف الرجل يرنّ: اوف يا با.. أوف يا با.. رفع الرجل الهاتف نظر إلى الرقم والاسم وعاد إلى ناركيلته بدون أن يردّ.. تقرقر الناركيلة كأنها تتأفف. في تفسير الطبري أنّ الأفّ هي اسم لكلّ ما غلظ من الكلام وقبح.. لذلك لا يمكن أن يقول المرء لوالديه أفّا.. سحب الناس هذا الصوت وعاقبوا به.. لا تقل لوالديك هذا الصوت وما كان في دائرته الرمزية، فلقد بات صوتا ممنوعا هو اسم لما أشكل ذكره في مقام الأبوين. لكن هل يمكن أن يقال في مقام الأبوين السياسيّين: الأمّ الحكومة وأزواجها.
مسكين أبو العلاء المعري فرّ من محظور التّأفّف على الوالدين إلى التأفّف على الحياة والزمان والرئاسة حين قال: (فأفّ من الحياة وأفّ مني// ومن زمن رئاسته خساسه)
ربّما كان عذره أنّه كان لا يرى ما نرى، ولكنّه يسمع أكثر ممّا نسمع: أن تسمع وترى هول وأن تسمع ولا ترى هول أكبر، إجعل نفسك في مأمن إجعلها ترى ولا تسمع..
يقولون إنّك حين تقول أفّ فكأنك قلت أتضجّر. هل الأوف العامية بنتُ أفّ الفصيحة؟ أم أنها أختها من الرّضاعة؟ عملت الأوف في الفنّ وظلّت الثانية في سياق راق ذكرها القرآن ومفسروه والنّحو ومصنفوه.
رنّ الهاتف؛ كانت زوجتي تسأل إن كنتُ شربت دواءَ الصباح؛ أكّدت لها أنني شربته البارحة حين هرب النوم من عيني قالت: لا تمزح يا حبيبي هذه صحّتك.. قلت لها: لم يبْق لي غيرها لأمزح معه.. قالت: آه منك.. ويلي منكǃ قلت لها: أصواتك اليوم عابرة للقارّات.. قالت: كفّ يا رجل حولك الناس تستمع.. حين أقفلتْ انتبهت إلى أنّ خيط حذائي قد فُكّ رباطه.. نزلت حيث الخيط حرّكته.. رآه قطّ فَجاء يلاعب الخيط ويداعب يدي.. ناداه صاحب المقهى: بش بش بش .. بشبش عليه فذهب وتركني.
ترى هل يفهم القطّ أنّ هذا الصوت الشّاذّ يناديه.. بالتأكيد ليس للهرّ عقل يعالج به الأصوات مثلما نعالجها به.. ليس للحيوان من تفاعل مع العالم الخارجي إلاّ ما نفهمه نحن عنه؛ فحين يسمع القطّ صوتا ساذجا من نوع النداء هذا: بش بش أو من نوع النّهر، وحين يقع في ظني أنا من يتابع ذهاب القطّ إلى صاحب المقهى وكأنه فهم أنّه يناديه؛ فإنّ هذا ما يسمّى عند العلماء العرفان الحيواني. لنا تصوّر عن طريقة تفاعل الحيوان مع خارجه، ومن بينها تفاعله مع الأصوات التي تناديه أو تطرده.. بعض الباحثين يرون أن المحيط الخارجيّ لا يوجد مستقلا عن الجسم؛ وبناء على هذه الفكرة فإنّ الكائنات ليست فقط قادرة على أن تتفاعل مع محيطها، بل هي قادرة أكثر على أن تمنحه معنى خصوصيّا.
يعود صوت الأوف في الهاتف وينادي بعض الجالسين هنا وهناك في المقهى القطَّ ،وهو ماض متمنّع بعد أن تناول من يد سيّده قطعا صغيرة من شرائح اللحم. يمكن للقط أن يتفاعل مع الأصوات التي باتت معلومة لديه.. هذه الأصوات التي يسمعها ويترجمها إلى ردود فعل نسمّيها نحن استجابة أو خوفا وهربا، وحين نرى نحن منه ذلك نقول سبحان الله كيف يفهم.. هو لا يفهم هو يردّ الفعل المناسب على صوت مناسب في محيط معيّن. لا شكّ أنّ القط العربيّ القديم كان ينادى وينهر بغير أصواتنا هذه التي ننادي بها وننهر؛ بل إنّه ينادى بأشكال مختلفة في دول الجوار، والعجيب أنّ القط هنا وهناك يفهمها.. الأصوات الساذجة العابرة للقارات تعبرها ولكن قد تتغير دلالاتها ولا توجد ترجمة للأصوات فصوت (آه) مثلا موحدّ ولا يفرّق بين الكيانات التي تنطق به.
أغادر المقهى وأنا أستعيد درسي في أصوات الانفعالات، مازال وقت الدرس بعيدا.. وَيْǃ نسيت أن أحلق ذقني.. عليّ ألاّ أنسى ما قاله جان جاك روسو في المسألة، لقد مجّد هذه الأصوات الساذجة المعبّرة في حالاتها الأولى عن الانفعالات، وأبلغ ما قاله روسو أنّ أكبر ما يمكن أن ينطقه المرء من الأصوات الدّالّة على التعجّب لا يمكن أن يكون بحجم انفعال التعجّب لديه؛ وأضاف إنّ الأنّات والصّرخات المعبّرة عن الآلام هي مجرّد أصوات.. وهذا يعني أنّ الأصوات التي نَنْتَطِقُ بها في آلامنا وأوجاعنا ولا نستطيع معها الكلام ترجعنا إلى حالاتنا الطبيعية الأولى التي نتناسى فيها اللّغة ونصرخ ونصيح فقط كي نستريح.
أعبر إلى ضفة الشارع الأخرى وأدخل دكّان الحلاّق أجلس وأسلّمه – أنا الأحمق- ذقني. أتأمّل وجهي في المرآة كأنني أراني لأوّل مرّة. تهجم شفرة الحلاقة على وجهي بلا شفقة كلّما انزاح البياض من على وجهي رأيت جزءا جديدا لا أعرفه.. رأيت وجها ليس لي في المرآة ورأيت شفرة الحلاقة تريد أن تأكل منّي شيئا.. جرحتــــني الشـــفرة أردت أن أصيح بكلّ ألمـــي الذي في داخلي وأن أبكي شيئا من اللّحمة الحيّة التي ما عادت حيّة. صرخت فلم يخرج صوتي صرخت بأعلى قوّتي أردتها آآآآي.. فلم تخرج أردتها: آآآآآح فلم تخرج أردتها.. آآآه فخرجت آهات.
٭ أستاذ اللسانيّات في الجامعة التونسية
واو، أنت رائع بتعبيرك هذا يا أستاذ، قرأت مقالك كاملا فأعجيني، وليس لدي تعليق غير هذا.
شكرا.
ألم تساوي آه ، هل يعلم احدا منكم ، المعني الحقيقي لهذة الكلمة ، التي يعتقد الناس أنها إختصار لثلاثة كلمات ، لا تعني إلا أن الله في ألم لما يسمع ويري من ظلم يقترفة الناس لبعضهم البعض ، ألا تعلمون إنه عز وجل في كل مكان ،
وانتم تستعيذون به ، إن أردتم أن توخذوا الشيطان أو تبعدوة عنكم وهو الصمد الذي يتحمل ويدمرة ولكن إلي متي ؟ ، وفي هذا الزمان وفي الماضي ، كثرة شياطينكم واصبحتم بظلمكم لبعضكم البعض شياطين ، رحم الله ، من رحم .
إنكم لا تعرفون آلله إلا في شدتكم ، .