■ عندما عُرض فيلم «صايع بحر» قبل عدة سنوات، اعترضت رقابة المصنفات الفنية، التابعة لوزارة الثقافة المصرية على العنوان، فقد رأت أن كلمة «صايع» صادمة وتخدش الحياء العام، لأنها صفه تدل على البجاحة والصفاقة والخروج على قوانين الأدب، فمدلول الكلمة يوحي بكل هذه المعاني، لذا لم يكن مستغرباً موقف الرقابة تجاه الفيلم، بل إن الأكثر غرابة ودهشة كان تراجع الرقابة نفسها في قرارها وموقفها الرافض للعنوان، وسماحها بأن يظل كما هو بدون تغيير، ونظن أن التراجع جاء مبنياً على قراءة المعنى الإجمالي للكلمة داخل السياق الفني والمفهوم الاجتماعي الجديد لكلمة «صايع»، التي باتت مصطلحاً يقصد مستخدموه وصف الشخص المشار إليه بالجرأة والنباهة والشجاعة والحيطة، ومن ثم لم يعد مستنكراً أن يزكي شخص ما شخصاً آخر فينعته بالكلمة ذاتها، قاصداً الدلالة الإيجابية وفق المعنى اللغوي الأكاديمي وليس المعنى السلبي بالقطع!
ومرت أزمة الفيلم مرور الكرام، ومن يومها صار اللفظ من مفردات الحياة اليومية، بعد أن تم رفعة من قائمة المحظورات، وأضيفت إلى الفيلم الكومــيدي أفلام أخرى من النوعية نفسها، والشيء الأكثر خطورة هو تكراره المتوالي في السينما، وانتقـــاله إلى شاشات الفضائيات عبر برامج «التوك شو»، ووقوع المعنيين بالحفاظ على هيبة الخطاب الإعلامي في أخطاء العامة والدهماء، بدون إدراك أن استخدام مثل هذه الألفاظ الجارحة في وسائل الإعلام وجريانها على ألسنة شخوص مؤثرين يعطيها مشروعية التداول، ويرفع عنها بذاءتها بمنحها معاني غير معانيها المعهودة.
وقد يكون جائزاً أن ينفعل الضيوف في حلقات البرامج السياسية، ويحتدون في إطار دفاع كل منهم عن وجهة نظره، وربما يحدث شيء من التطاول أو الخروج عن اللياقة، ولكن في حدود ما يُسمى باللغة الحوارية، أو لغة المثقفين، وهنا تُستخدم السخرية كأسلوب أو طريقة نقاش أحياناً، أما الشتائم وما يشبهها فليست دليلاً إلا على الجهالة والفقر اللغوي وعدم القدرة على الاستعاضة بكلمة لائقة للرد على كلمة أخرى نابية، وهذه مقدرة لابد أن تتوافر في كل من المحاور والضيف على حد سواء، وهذا ما أقرته مئات الدراسات الإعلامية المتخصصة وتمت مناقشته في العديد من المؤتمرات.
وقد تستحوذ بعض البرامج على نسبة مشاهدة متميزة ليس لأنها الأفضل أو الأكثر جرأة ولكن لأن خطاباً شديد اللياقة واللباقة يلتزم به مقدمو هذه البرامج التي يأتي من بينها كمثال فقط، برنامج «معكم.. منى الشاذلي» التي تحرص مقدمته المذكورة من بداية الحلقة لنهايتها على الالتزام والاتزان، ورغم خفة الموضوعات المطروحة في بعض الحلقات إلا أنها تتسق مع طبيعة البرنامج، وتتسم بمذاق خاص يُعلي من قيمة المادة الخفيفة ويميزها، ولا شك في أن ذلك يعود أيضاً إلى الإعداد الجيد والمعلومة الصحيحة وهي علامات الجودة في أي برنامج.
وفي عداد النوعيات البرامجية المهمة والفارقة، يأتي كذلك ذكر برنامج «صاحبة السعادة» الذي تقدمة الفنانة والإعلامية إسعاد يونس وتحرص فيه على تضمين القيمة كأساس للمنافسة والاستمرار من غير الهبوط المعيب في اللغة والاستخدام الأسوأ لنفوذ السُلطة الإعلامية، وصلاحيات الظهور على الشاشة واستغلال التأثير الجماهيري للبرنامج، الذي يكتسب مشروعية بقائه واستمراره من التجاوب الشعبي، مع ما يجتهد فريق العمل في تقديمه ويتحرى فيه الصدق والموضوعية والحقيقة.
ولم تقتصر ظاهرة التدني واستخدام الأسلوب الدارج في التعبير، على الأفلام السينمائية والبرامج فقط، ولكنها امتدت إلى الإبداع الأدبي والكتابات المنشـــورة، وباتت تشكل متغـــيراً حقيقياً في منظومة النشر والكتب وسوق التوزيع، وإزاء هذه الحالة تم رصد الظاهرة في معرض القاهرة الدولي للكتاب للدورة الثانية على التوالي، ففي العام الماضي صدرت رواية بعنوان «ولاد المرة» للكاتبة ياسمين الخطيب وأثارت ضجة، ووقف القراء حيالها ما بين مؤيدين يرونها عنواناً صريحاً لحرية التعبير، ورافضين اعتبروها تجاوزاً أخلاقياً يستوجب التوقف والضبط والربط والمحاسبة، وفي هذا العام كثُر الحديث عن رواية الكاتب محمد ديـــاب التي جاء عنوانها «ولاد ال…..» صادماً للغاية، في إشارة إلى من يراهم دياب غير نظيفين، وهذه الرواية تمثل المنحـــنى الأخطـــر في اتجــــاه بعض الكُتاب، لتحطيم كافة التابوهات للتحرر من كل القيود في محاولة لتشكيل تيار مختلف لا يعتني بمسألة المحافظة في الكتابة الإبداعية، وهي العودة لما بدأه الكاتب حيدر حيدر الذي كتب الرواية الشهيرة «وليمــــة لأعشاب البحر» قبل ما يقرب من عشرين عاماً وتسبب في أزمة كبرى أشعلت نيران الغضب في الشارع المصري وكادت تحرق الأخضر واليابس.
٭ كاتب مصري